حملت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير الماضي تحديًا واضحًا للولايات المتحدة وحلفائها، ومحاولة روسية للتأكيد على مكانتها كقوة عظمى لديها القدرة على التأثير في قواعد اللعبة. فيما سعت الولايات المتحدة للرد على ذلك من خلال حرب اقتصادية ضارية تهدف لتضييق الخناق على روسيا عبر حزمة ضخمة من العقوبات الاقتصادية من أجل إحكام عزلة موسكو الدولية، واستندت واشنطن في ذلك إلى الهيمنة الاقتصادية التي تتمتع بها على العالم. وفي مقابل ذلك، بدا أن موسكو كانت مستعدة لحرب واشنطن الاقتصادية، بل وعمدت إلى استخدام بعض الأدوات التي لم تستطع فقط تقييد بعض تأثيرات هذه الحرب، وإنما حملت في الوقت ذاته مؤشرات للنيل من الهيمنة الاقتصادية الأمريكية. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن تأثير التحركات التي اتخذتها موسكو في وجه العقوبات على سطوة الدولار الأمريكي عالميًا.
الدولار بين الهيمنة والعقوبات
عكس المسار الذي اتخذته الولايات المتحدة لتصبح قوة مهيمنة اقتصاديًا على مستوى العالم ما يمكن اعتباره بالعلاقة المضطربة مع الذهب؛ ففي عام 1933، وتحت إدارة الرئيس “فرانكلين روزفلت” انسحبت من نظام “معيار الذهب” في محاولة منها لإنعاش النمو الاقتصادي. وإبان نهاية الحرب العالمية الثانية انضمت مجددًا إلى “معيار الذهب” كجزء من ترتيبات “بريتون وودز”. فبموجب اتفاقية “بريتون وودز” لعام 1944، وعدت الولايات المتحدة بتحويل الدولارات التي تجلبها البنوك المركزية للدول الأخرى إلى ذهب بمعدل 35 دولارًا للأونصة.
بعبارة أوضح، كان النظام المالي الغربي بأكمله مرتبطًا بالذهب عبر الدولار؛ فقد تم استبدال معيار الذهب الكلاسيكي بما كان فعليًا معيار صرف الدولار الأمريكي؛ إذ اتجهت دول لربط عملاتها الوطنية بالدولار بسعر صرف ثابت، بينما كان الدولار نفسه مرتبطًا بالذهب. وارتباطًا بذلك، تم تشجيع شركاء أمريكا التجاريين على تسوية العجز التجاري عن طريق تخزين الأصول المالية المقومة بالدولار مثل السندات الحكومية الأمريكية. وعلى الرغم من التوسع الكبير في الاعتماد على الدولار، إلا أن بعض الدول عبرت عن رغبتها في استرداد الذهب، ومن أبرزها إعلان الرئيس الفرنسي “شارل ديجول”، في عام 1965، عن رغبته في استبدال الأصول الدولارية لبلاده بالذهب.
وكنتيجة لذلك، أدت مثل هذه الضغوط في النهاية إلى ما عُرف بــــــ”صدمة نيكسون“، وذلك عندما أعلن الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون”، في عام 1971، أن الولايات المتحدة لن تسمح باسترداد الذهب. إذ أوقف “نيكسون” العمل وفق “نافذة الذهب” التي ربطت الدولار بالذهب، مع الاتجاه نحو تسعير الدولار وفق لقواعد العرض والطلب بناءً على الثقة في الحكومات المصدرة والبنوك المركزية. وعلى الرغم مما بدا كمحاولة للتخلي عن الدور القيادي الأمريكي، إلا أن فك الارتباط بين الذهب والعملات جعل الولايات المتحدة أكثر مركزية في التمويل العالمي، وحجم كذلك من القيود المفروضة على سياستها المالية والنقدية، كما استطاع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن يصبح أقوى مؤسسة مالية في العالم؛ وأصبحت “وول ستريت” أيضًا في وضع أكثر قوة. علاوة على ذلك، ونتيجة احتفاظ معظم المصارف المركزية في العالم بجزء كبير من احتياطياتها بالدولار أو أذونات الخزانة الأمريكية أصبح الدولار عملة احتياطي رئيسية في العالم. هذا، وقد استمرت التجارة العالمية مقومة بالدولار حتى بعد انهيار نظام “بريتون وودز”، كما عزز نظام الدولار البترولي Petro-Dollar الهيمنة الأمريكية على الأسواق العالمية.
وقد بدأت فكرة “البترودولار” في عام 1973 في خضم أزمة النفط العالمية التي ارتبطت بحرب أكتوبر، والتي تشير إلى عائدات تصدير النفط الخام المقومة بالدولار الأمريكي؛ كنتيجة لظهور فوائض كبيرة لدى الدول المصدرة للنفط. وقد عمل “هنري كيسنجر”، وزير الخارجية آنذاك، على الترويج الواسع لهذه الفكرة، ومن ثمّ قررت المملكة العربية السعودية، بصفتها المنتج الأول للنفط، استخدام الدولار الأمريكي باعتباره عملة التسعير الوحيدة لصادرات النفط، مما أدى إلى اتفاق منظمة البلدان المصدرة للنفط بالإجماع في عام 1975 على تسعير المنتجات النفطية بالدولار الأمريكي، واستُثمرت عائدات النفط في السندات الحكومية الأمريكية.
بهذا، مكّنت الهيمنة الاقتصادية الأمريكية عالميًا، التي رسختها على مدار ما يقرب من قرن، بشن حرب اقتصادية كبيرة ضد روسيا بسبب تصعيدها العسكري ضد أوكرانيا. أي إنها استطاعت أن تعاقب روسيا وتُضيق الخناق عليها عبر حزمة من العقوبات الاقتصادية التي تعمل على عزلها عن العالم، فقد شملت حظر جميع الاستثمارات الجديدة في روسيا، وتشديد العقوبات على المؤسسات المالية والشركات المملوكة للدولة الروسية، وكذا معاقبة مسئولي الحكومة الروسية وأفراد أسرهم.
قامت واشنطن بفرض عقوبات على البنك المركزي الروسي لتجميد العملة الأجنبية المملوكة لروسيا في البنوك الأمريكية، والتي كانت تستخدم أيضًا في سداد ديونها. بعبارة أوضح، فرضت واشنطن عقوبات على قطاع المصارف في روسيا شملت تجميد أصول البنوك الروسية الخارجية، بما في ذلك أصول البنك المركزي، كما تم قطع الطريق أمام إمكانية حصول البنوك الروسية على الدولار واليورو، وكذا حظرت البنوك الروسية من تداول السندات الأمريكية والأوروبية، بالإضافة إلى تعليق عضوية البنك المركزي الروسي في مصرف التسويات الدولية. ووصلت قيمة الاحتياطات المملوكة لللبنك المركزي الروسي التي تم تجميدها إلى أكثر من 300 مليار دولار، أي ما يقرب من نصف الاحتياطيات الروسية. علاوة على ذلك، أعلنت الولايات المتحدة حظر دخول الطاقة الروسية للولايات المتحدة، كما قامت بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، في 25 مارس 2022، بتشكيل “فريق عمل” بهدف الحد من اعتماد أوروبا على الوقود الأحفوري الروسي.
الدولار والتحركات الروسية المضادة
في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فرضت واشنطن على موسكو أكبر سلسلة من العقوبات؛ مما انعكس في تداعٍ سريع لقيمة العملة الروسية (الروبل)، الأمر الذي اعتبرته بعض التحليلات هزيمة للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، وانتصارًا لواشنطن وحلفائها. إلا أن هذا المشهد أخذ في التحول الذي ارتسمت ملامحه خلال شهر أبريل الجاري؛ إذ استطاعت موسكو أن تقوم بتحركات لوقف النزيف الاقتصادي الذي تشهده عبر التصدي للتداعي السريع للروبل. وهو ما لم يتوقف عند حدود اعتباره كمقاومة روسية للخناق الاقتصادي الذي تشنه الولايات المتحدة ضدها، وإنما تجاوز ذلك إلى النظر إليه في إطار كونه تحركات للنيل من الهيمنة الأمريكية. وفي هذا السياق، يمكن تفكيك ذلك في نقطتين رئيسيتين:
ضرب جاذبية الدولار:
حقق الروبل الروسى ارتفاعًا ملحوظًا في قيمته السوقية في مستهل تداولات 7 أبريل الجاري، وذلك بعد قرار ربط الروبل بالذهب. فقد أعلن البنك المركزي الروسي عن قيمة الربط بين الذهب والروبل، بمقدار 5000 آلاف روبل للجرام الواحد؛ وقد نجحت روسيا -عبر هذا القرار- في تقليص قيمة الدولار بنحو 30% عند مقارنة قيمته بسبيكة الذهب؛ وذلك ارتباطًا باتجاه روسيا إلى بيع الغاز بالروبل، مما يعني أن الدولة الراغبة في الحصول على الطاقة الروسية عليها الدفع بالروبل أو بالذهب وفقًا للقيمة التي حددتها روسيا. بعبارة أخرى، سيؤدي ربط البنك المركزي الروسي للروبل بالذهب إلى دفع الدول لشراء الغاز والنفط الروسي من خلال شراء الروبل من “بوتين” عن طريق الذهب، أو دفع ثمن الغاز بالذهب بشكل مباشر.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنه على ما يبدو أن روسيا كانت قد استعدت من قبل لمثل هذا السيناريو؛ إذ احتفظت بالذهب أكثر من الدولار للمرة الأولى في يونيو 2020، حيث شكلت السبائك أكثر من 23% من إجمالي الاحتياطيات. هذا، وتسعى موسكو الآن إلى التهرب من العقوبات من خلال التداول في بورصة الذهب في شنغهاي. وفي سياق موازٍ، وفي محاولة لتشجيع المدخرين على التخلي عن الدولار في روسيا، صدق الرئيس “بوتين” على قانون يعفي الأفراد من ضريبة القيمة المضافة على شراء الذهب. ومن ناحية أخرى، لفتت موسكو إلى أن الدول الصديقة لروسيا يمكنها الشراء من روسيا بعملات أخرى مثل “البيتكوين”، وحتى العملات المحلية مثل اليوان الصيني أو الليرة التركية.
ويتضح مما سبق، أن اتجاه واشنطن لاستخدام الدولار كسلاح Dollar Weaponing بشكل عام، وخلال الحرب الروسية الأوكرانية بشكل خاص، لا يضر اقتصادات الدول المستهدفة فحسب، بل يضر أيضًا بالاقتصادات الدول الأخرى وشعوبها. وكنتيجة لذلك، فإن استغلال واشنطن لهيمنة عملتها كسلاح سيؤدي إلى أزمة ثقة في الاعتماد على الدولار، وسيُجبر الدول الأخرى في النهاية على تنويع سلة الاحتياطات الخاصة بها، وكذا العمل على تطوير آليات الدفع التي تعمل وفقًا لها، الأمران اللذان من شأنهما تقويض أولوية الدولار على المدى الطويل. وقد استطاعت موسكو أن تقدم نموذجًا في هذا المضمار، عبر اتجاهها لربط قيمة عملتها بالذهب، وتعزيز احتياطي الذهب لديها أكثر من الدولار؛ بل واللجوء إلى تسوية التجارة البينية بالذهب والعملات المحلية والرقمية. الأمر الذي قد يدفع الدول الأخرى إلى أن تحذو حذو موسكو حتى تشعر أنها في وضع مالي واقتصادي أكثر أمانًا، مما يعني أن الدولار قد يجد طريقه إلى الانحسار بعد فترة ما، في مقابل صعود سلة متنوعة من العملات المحلية والرقمية.
تحدي “البترودولار”:
على الرغم من اعتماد الطاقة الروسية الموجهة لأوروبا على اليورو الأوروبي أكثر من الدولار الأمريكي، إلا أن اتجاه روسيا لبيع النفط والغاز الروسي بالروبل أو بالعملات المحلية الأخرى سيمثل بلا شك تحديًا لـــــ”البترودولار”. اتجهت روسيا إلى مطالبة الدول التي وصفتها بـــ”غير الصديقة” بتحويل مدفوعات الغاز الطبيعي من موسكو إلى أوروبا بالروبل بدلًا من الدولار أو اليورو. كما أشارت وكالة “بلومبرج” إلى أن روسيا بدأت شحن كميات النفط التي تصدرها إلى الصين مقابل الحصول على اليوان الصيني. كما نشرت بعض وسائل الإعلام تقارير تفيد بأن السعودية تدرس استخدام اليوان الصيني بدلًا من الدولار الأمريكي في مبيعات النفط للصين، ودمج العقود الآجلة المقومة باليوان الصيني في نظام تسعير أرامكو السعودية. ومن ثم سيكون تأثير استخدام اليوان الصيني بدلًا من الدولار في تجارة النفط الكبيرة مع الصين على سوق تجارة السلع العالمية هائلًا. كما تعاون البنك المركزي الهندي مع البنك المركزي الروسي في محاولة إنشاء آلية دفع تجارية “روبية –روبل” بشأن الطاقة الروسية.
يتضح مما سبق، وعلى الرغم من عدم تأكيد تحركات السعودية بشأن اليوان، إلا أن التحديات التي يواجهها نظام “البترودولار” منذ فترة بسبب قيام بعض الدول التي تواجه عقوبات (مثل: إيران، وفنزويلا) بالالتفاف على التسوية بالدولار، وكذا ارتباط مسألة “البترودولار” بترتيبات أمنية وسياسية جارٍ إعادة النظر فيها حاليًا، كما أن الوقود الأحفوري بصدد فقد هيمنته تدريجيًا في سياق سياسات الحد من الكربون العالمية، فقد أضيف لها تحدٍ جديد يتعلق بما تقوم به روسيا لدحض الهيمنة الأمريكية، فقد علقت اليابان، التي تعد أكبر مستورد للغاز الروسي المسال في آسيا، قائلة إنها تدرس تفاصيل الدفع بالروبل. كما أكدت كوريا الجنوبية، التي تعد ثالث أكبر مستورد للغاز الروسي المسال في آسيا، أنها ستفعل أي شيء في سبيل مواصلة صادرات الغاز الروسية؛ مما يعني أن هذا التوجه لم يقف عند حدود الدول التي تعادي الهيمنة الأمريكية كالصين، وإنما وصل إلى الدول الحليفة لواشنطن أيضًا.
حدود التأثير
على الرغم من التحركات التي تقوم بها موسكو في وجه العقوبات الغربية، والتي يبدو أنها تنطلق من بواعث مواجهة الهيمنة الأمريكية، وعلى الرغم أيضًا من تأثيراتها التي حملت انعكاسات واضحة وسريعة نالت -بشكل أو بآخر- من هذه الهيمنة؛ إلا أن التأثير الفعلي واسع النطاق القادر عن قلب المشهد لم يجرِ حتى الآن. فوفقًا للموقع الإلكتروني للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فإن الدولار هو العملة الأكثر استخدامًا في التجارة العالمية؛ وخلال الفترة 1999-2019، شكل الدولار 96% في تجارة الأمريكتين، و74% في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، و79% في بقية العالم (الاستثناء الوحيد هو أوروبا، حيث يهيمن اليورو). كما يُعد الدولار أيضًا العملة المهيمنة في الخدمات المصرفية الدولية، فحوالي 60% من الالتزامات النقدية currency liabilities الدولية والأجنبية (الودائع بشكل أساسي) والمطالبات (القروض بشكل أساسي) مقومة بالدولار.
أما عن مؤشر استخدام العملة الذي عرضه الاحتياطي الفيدرالي، فيظل مستوى مؤشر الدولار مستقرًا عند قيمة حوالي 75 منذ الأزمة المالية في عام 2008، متقدمًا بذلك على جميع العملات الأخرى. ويأتي اليورو في المرتبة التالية في أعلى قيمة له عند حوالي 25، بينما زاد الاستخدام الدولي اليوان الصيني على مدار العشرين عامًا الماضية، فقد وصل فقط إلى مستوى مؤشر حول 3، وظل خلف الين الياباني والجنيه الإسترليني اللذين يبلغان حوالي 8 و7 على التوالي. عطفًا على ما سبق، تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ هائل داخل المنظمات الاقتصادية الدولية (مثل: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية) بطريقة تمكنها من توجيه قواعد اللعبة على الساحة الاقتصادية الدولية. ومن ثم توضح كل هذه المؤشرات أن مسألة إضعاف الدولار غير متوقعة على المديين القصير والمتوسط، لكنها قد تجري على المدى الطويل انطلاقًا من عدة أمور لا تتوقف فقط عند حدود التحركات الروسية الأخيرة المناهضة للعقوبات، وإنما تتعلق أيضًا بعدد من التطورات، أبرزها: تعزيز التكامل الأوروبي بطريقة تجعل من اليورو عملة ذات ثقة وجاذبية أكثر من الدولار، واستمرار النمو الصيني بطريقة تؤدي إلى تجاوز الناتج المحلي الصيني الناتج المحلي الأمريكي ودعم قوة العملة الصينية، وأيضًا التوسع في استخدام العملات الرقمية سواء في القطاع الرسمي أو غير الرسمي، بجانب احتمالات التوسع في بناء تكتلات إقليمية تضع نظامًا للمدفوعات خاصًا بها يتخطى الاعتماد على الدولار.
وفي خضم الحرب الجارية، اتجهت الولايات المتحدة إلى تبني سلسلة من الإجراءات التي تساعد في دعم الدولار محليًا وعالميًا. إذ أعلن مجلس الاحتياطي الاتحادي الفيدرالي رفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار ربع نقطة مئوية، وذلك للمرة الأولى منذ عام 2018. كما أطلق توقعات بأن تكون الفائدة في نطاق من 1.75% و2% بحلول نهاية عام 2022. وكذا، اتجهت الولايات المتحدة إلى العمل على الانخراط في أسواق السلع التي كانت توفرها كل من روسيا وأوكرانيا قبل الحرب، مثل: القمح والذرة. فقد قال وزير الزراعة الأمريكي “توم فيلساك”، خلال جولته بالإمارات في 19 فبراير الماضي، إن “مزارعي القمح الأمريكيين سيعززون الإنتاج ويمنعون مشاكل سلسلة التوريد في حال تسبب الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا في خنق الصادرات الزراعية من الحبوب”. علاوة على ذلك، تبدو مسألة التضييق على البترول والغاز الروسي فرصة لدعم قطاع الطاقة الأمريكي على الساحة الدولية، ففي مستهل العام الجاري، تمكنت الولايات المتحدة من الاستحواذ عن لقب أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، عقب ارتفاع عمليات التسليم إلى أوروبا.
وفيما يتعلق بمسألة توجه روسيا للذهب، يبدو أن واشنطن تقوم بمساعيها لعرقلة التحركات الروسية المناهضة لهيمنة الدولار؛ إذ قدم أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، تشريعًا يهدف إلى تجميد احتياطيات روسيا من الذهب، في خطوة ستجعل من الصعب على موسكو وقف النزيف الاقتصادي الذي تعانيه جراء العقوبات. وفي السياق ذاته، علقت جمعية سوق السبائك في لندن London Bullion Market Association عضوية ست مصافٍ روسية لتكرير المعادن الثمينة. كما حذت بورصة السلع التابعة لمجموعة CME في الولايات المتحدة حذوها، إذ علقت ذات المصافي الروسية الست. ولم تحدد أي من الجهتين مواعيد إنهاء التعليق، ومن ثم سيكون قائمًا حتى إشعار آخر. وتحمل خطوة التعليق تأثيرًا واضحًا، حيث تقبل العديد من البنوك فقط المعادن الثمينة التي تلبي المعايير الصارمة لسوق السبائك في لندن.
مجمل القول، إن الولايات المتحدة تستغل هيمنتها الاقتصادية عالميًا في إطار أدوات العقاب التي تشنها ضد خصومها، وهو الأمر الذي ظهر جليًا في حزمة العقوبات الاقتصادية الضخمة التي شنتها ضد روسيا بسبب التصعيد العسكري ضد أوكرانيا. وفي المقابل، تبنت روسيا تحركات مضادة لمناهضة تلك العقوبات، بطريقة ساهمت في تجنب مشهد التداعي السريع لقواها الاقتصادية. واستنادًا إلى ذلك، يمكن اعتبار أن التحركات الروسية قد ساهمت في تحقيق مكاسب لموسكو، لكنها لم تحمل بالضرورة -حتى الآن- تهديدًا للولايات المتحدة وهيمنتها الاقتصادية، كما لا تعني بالضرورة وضع حد لهيمنة الدولار على الساحة الدولية.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية