هناك وجهة نظر ترى أن الحوار الوطنى الذى بدأت جلساته التحضيرية يجب ان يقتصر على القضايا الاقتصادية والاجتماعية وقضايا الإصلاح السياسى الداخلى، وان السياسة الخارجية ليس مكانها مثل هذا الحوار، وذلك لعدة أسباب أحدها أن قضايا السياسة الخارجية بها مساحة كبيرة من التوافق الوطنى وليست محل خلاف كبير، وبالتالى لماذا الجدل بشأنها. السبب الثانى، هو ان قضايا السياسة الخارجية ذات طبيعة معقدة ومتشابكة، وتتطلب تفكيرا عقلانيا رشيدا، وبعيدا عن العواطف وانفعالات اللحظة، وبعض قضاياها لها امتدادات تاريخية، وقد لا تتوافر لدى المتحاورين المعلومات الكاملة عنها، بما يسمح لهم بتبنى توصيات بشأنها، كما ان بعض قضايا السياسة الخارجية ذات حساسية خاصة، ولها ارتباط وثيق بالأمن القومى المصرى، وبالتالى من الأفضل عدم مناقشتها على الملأ وفى حوارات مفتوحة.
وجهة النظر الأخرى، ترى ان الحوار ليس الهدف منه تجسير الفجوة فى القضايا الخلافية فقط، ولكن لا مانع من إبراز مساحة التوافق بين الجماعة الوطنية فى القضايا المختلفة ومنها السياسة الخارجية، وتعزيز المساندة للدولة فى هذه القضايا. او على الأقل انتهاز فرصة الحوار الوطنى لتثقيف وتوعية الرأى العام بشأن الموقف المصرى إزاء هده القضايا، وتأكيد ثوابته.
يضاف لذلك أن العديد من قضايا السياسة الخارجية قابلة للنقاش حتى بين السياسيين غير المتخصصين، ولكن لا مانع من ان ينضم للحوار خبراء فى العلاقات الدولية من أساتذة جامعات، وسفراء ووزراء سابقين، وخبراء استراتيجيين، وصحفيين وكتاب رأى فى هذه القضايا، وهم يشكلون جانبا مهما من النخبة المصرية، ومن الضرورى التواصل معها وتشبيكها فى الحوار الوطنى. كما ان السياسة الخارجية تحتاج أحيانا تفكيرا من خارج صندوق المؤسسات الرسمية المنشغلة بإدارة الازمات ودولاب العمل اليومى.
بالإضافة الى ان اختيار موضوعات محددة للحوار فى قضايا السياسة الخارجية، كما حدث فى المحور السياسى، ومن المتوقع ان يحدث فى المحورين الاقتصادى والاجتماعى، سوف يساعد على تنظيم النقاش وفقا للاهداف التى سيتم تحديدها لمحور السياسة الخارجية.
والواقع ان هناك ضرورة لأن تناقش نخبة السياسة الخارجية المصرية عددا من القضايا الكبرى التى سوف يتضح تأثيرها بشكل أكبر فى المستقبل القريب، وتحتاج بلورة رؤية واستراتيجية للتعامل معها. وإحدى هذه القضايا تتعلق بالإرهاصات التى بدأت تتشكل لنظام دولى جديد، وبالتالى مناقشة اهم التحديات والفرص التى ترتبط به، خاصة طبيعة العلاقة بين مصر والقوى الكبرى فى هذا النظام الجديد.
حيث يشهد النظام الدولى حالة من التغيير المستمر، والتى تتمثل فى إعادة توزيع موازين القوى فى العالم، وظهور مراكز قوى جديدة، وتضاؤل القطبية الأحادية وتراجع الدور القيادى للولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى الأزمة التى يشهدها ما يسمى النظام الليبرالى الدولى، الذى وضع الغرب أسسه بعد الحرب العالمية الثانية.
والواقع ان بعض الدول المتوسطة مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وغيرها بدأت تشهد جدلا داخليا حول توجهات سياستها الخارجية فى ظل تنامى ما يسمى تنافس القوى الكبرى، والذى ظهر بشكل واضح بين الولايات المتحدة والصين، ثم بين الولايات المتحدة وروسيا فى إطار الازمة الأوكرانية، والضغوط التى فرضتها هذه القوى الكبرى على دول العالم كى تقف فى صفها فى مواجهة القوة الكبرى الأخرى، وبما يعيد بعض أجواء الحرب الباردة، ويضع دول العالم فى مأزق الاختيار، وهو أمر لا تريده لتشابك علاقتها بالقوى الكبرى المختلفة.
وهنا نجد ان البعض بدأ يطرح أفكارا مثل العودة لسياسات الحياد او عدم الانحياز، أو تأكيد تعدد الشراكات، وقامت الهند باستخدام مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية كبديل للمفهوم التقليدى لعدم الانحياز، ويقصد به تعزيز الاستقلالية، وتوسيع مساحة الخيارات امام صانع القرار فى القضايا الخارجية.
ويمكن ان يشكل الحوار الوطنى ساحة لتقديم أفكار مبتكرة حول تعامل مصر مع تغيرات النظام الدولى استنادا لقراءة واعية لهذه المتغيرات، وللمصلحة الوطنية المصرية.
قد تكون هناك حاجة أيضا لمناقشة مستقبل الشرق الأوسط، ودور مصر الإقليمى فيه، والأدوات المتاحة لمصر للقيام بهذا الدور بما فى ذلك القوة الناعمة، وهنا تتداخل قضايا الداخل بالخارج.
وقد طرح الرئيس السيسى فى خطابه بقمة جدة الأخيرة، مقاربة شاملة لمستقبل إقليم الشرق الأوسط ، تقوم على خمسة محاور حاكمة لخدمة أهداف التنمية والاستقرار.
ويمكن ان تمثل هذه المحاور قاعدة للنقاش حول الدور الاقليمى المصرى، وتحديد خريطة طريق لتحقيق اهداف هذه المقاربة، وتعزير أدوات التحرك المصرى فى المنطقة.
باختصار، قضايا السياسة الخارجية تظل قضايا مهمة، ورغم مساحة التوافق الكبيرة بشأنها فى الداخل المصرى، إلا أن هناك عددا من التحديات المتعلقة بالسيولة فى النظامين الدولى والإقليمى، تحتاج النقاش والحوار بشأنها، والعديد من دول العالم تضع استراتيجيات معلنة لأمنها القومى استنادا لحوار مشترك بين مؤسساتها الرسمية ونخبتها من باحثين وخبراء ومفكرين، وقد يمثل الحوار الوطنى خطوة فى هذا الطريق.