لعبت الجماعات المسلحة دورًا رئيسيًا في تصعيد أزمة مالي لسنوات عديدة، واتخذت بعض المجتمعات المحلية خطوة جذرية في الحوار مع هذه الجماعات كمحاولة لوقف وتخفيف حدة أعمال العنف، في ظل توتر العلاقات بين تنسيقية حركات أزواد (CMA) وجماعات الطوارق والحكومة المالية، وتهديد “العباس أغ أنتالا”، رئيس المجلس الأعلى لوحدة أزواد، في يوليو 2022، بحمل السلاح في حالة عدم تلبية مطالبهم. وتتطلب محاربة الإرهاب توحيد ودمج الجماعات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام والمصالحة المنبثق عن عملية الجزائر لعام 2015 للعمل في خطة مشتركة، لاحتواء التهديدات المتصاعدة والتحديات المركبة وعواقبها الإنسانية، مثل مخاطر الجماعات الإرهابية، وتنامي نشاط الجريمة المنظمة، في إطار بنود الاتفاق التي تركز على إعادة بناء الوحدة الوطنية للبلاد، واستعادة السلام من خلال عملية اللا مركزية في مؤسسات الدولة وتعزيز بنية الاقتصاد في شمال البلاد، وإعادة تشكيل جيش وطني من أعضاء الجماعات المسلحة السابقة الموقعة على الاتفاق، ونشر دوريات عسكرية مشتركة في شمال مالي، وتهيئة الظروف اللازمة لبدء عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة دمج المقاتلين السابقين، والاتفاق على إجراء إصلاحات سياسية ومؤسسية.
خطوات تسريع اتفاق السلام والمصالحة
بعد ما يقرب من عام بعيدًا عن طاولة المفاوضات، استأنفت الحكومة الانتقالية في مالي والجماعات المسلحة من الحركة الوطنية لتحرير إقليم أزواد (MNLA) محادثات السلام، حيث اجتمع ممثلون عن حركات أزواد مع الحكومة الانتقالية في الخامس من أغسطس 2022، بحضور مبعوثين من الجزائر كوسيط بين الطرفين، ونتج عن الاجتماع الإعلان عن دمج 26 ألف مقاتل سابق في الجيش المالي، على أن يتم هذا الدمج على دفعتين بالتساوي بين عامي 2023، 2024. وتعثرت هذه الخطوة لسنوات عديدة، من حيث استيعاب المؤسسة العسكرية التاريخ المسلح لهذه الجماعات. بالإضافة إلى ذلك، إنشاء وتفعيل لجنة مكلفة بإعداد وتقديم المقترحات بشأن الكوادر المدنية والعسكرية من الجماعات المسلحة الموقعة على الاتفاق من أجل اندماجهم في التسلسل القيادي داخل هيكل الجيش الوطني مع تمثيل أكبر لسكان شمال البلاد.
كما عقدت تنسيقية حركات أزواد اجتماعًا خلال الفترة 27-29 أغسطس 2022 مؤتمرًا استثنائيًا في مدينة كيدال بمشاركة مسئولين من الهيئات السياسية والعسكرية والاستشارية والثورية للحركة الوطنية لتحرير أزواد، لتحديد مسارات جديدة للحركة وبحث ملف الوحدة بين حركات أزواد، وإعادة التنظيم الداخلي للحركة ودمج جميع الحركات المسلحة في كيان واحد، ومناقشة الوضع الأمني وخطة مواجهة الجماعات الإرهابية في إقليم أزواد، وتمت إعادة انتخاب “بلال أغ الشريف” أمينًا عامًا للحركة، وتعيين أعضاء المجلس الثوري والمجلس الوطني بالحركة. وعلى هامش أعمال الدورة السادسة للجنة مراقبة اتفاق السلام والمصالحة في مالي (CSA) في الثاني من سبتمبر 2022، عقدت الممثلة الخاصة للاتحاد الأوروبي لمنطقة الساحل، “إيمانويلا ديل ري”، عدة اجتماعات في مقر وفد الاتحاد الأوروبي في باماكو مع ممثلين عن تنسيقية أزواد.
وسعيًا لتنفيذ الاتفاق، ناقشت وزارة السلام والمصالحة في الثامن عشر من أغسطس 2022، مع ممثلي الحركات الأزوادية، رؤيتهم في صياغة الدستور الجديدة، في إطار مشاورات وتقديم الحكومة الانتقالية الوعود لهذه الحركات لمنع تواصلها مع حلفائها السابقين مثل حركة أنصار الدين الموالية لتنظيم القاعدة. وشرع وزير المصالحة والسلام الوطني، المسئول عن تنفيذ اتفاق السلام، العقيد “إسماعيل واجوي” في الرابع من سبتمبر 2022، في تنفيذ أنشطة تعزيز قيم المصالحة والتعايش المشترك، وتوعية الجهات الفاعلة الوطنية والدولية بأهمية عملية السلام والمصالحة.
وترتيبًا على السابق، دعا “أسيمي جويتا” رئيس المرحلة الانتقالية في مالي، الجماعات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام إلى الوحدة وتعزيز التماسك الاجتماعي وما أطلق عليه الاتحاد المقدس من أجل إعادة تشكيل الجيش الوطني على أسس المشاركة والمصلحة العليا، في ظل انطلاق النسخة الأولى من أسبوع المصالحة الوطنية خلال الفترة من 15-21 سبتمبر 2022 باعتباره أسبوعًا مكرسًا للسلام والتسامح الوطني، تحت شعار “لنجعل التنوع رصيدًا للتماسك الاجتماعي”، ويأتي هذا الأسبوع قبل الاحتفال بعيد الاستقلال يوم 22 سبتمبر 2022.
دوافع مراجعة اتفاق السلام والمصالحة
بعد مرور سبع سنوات جاءت الدعوة لمراجعة وإحياء اتفاق السلام مدفوعة بالتحديات والتهديدات المتعددة التي تواجهها مالي، سواء على الصعيد السياسي أو الأمني في ضوء تصاعد الصراع المسلح بين الحكومة المالية والجماعات الانفصالية المسلحة في إقليم أزواد بشمال البلاد في سياق إقليمي مضطرب؛ إذ تعاني مالي من أزمة متعددة الأبعاد التي بدأت في شمال البلاد بإقليم أزواد، امتدت تدريجيًا إلى وسط وجنوب البلاد، مما فاقم من انعدام الأمن، وعودة الصراعات بين المجتمعات وداخلها، ونزوح مئات الآلاف إلى مخيمات دول الجوار. ويمكن توضيح أهم أسباب ودوافع إحياء الاتفاق على النحو التالي:
• تفاقم انعدام الأمن: زاد خطر الهجمات الإرهابية من تحديات المشهد الأمني في مالي، لا سيما في ظل توتر العلاقات بين الحكومة المالية والجماعات المسلحة التابعة لتنسيقية أزواد، وصعوبات التنسيق بين الطرفين في مجال مكافحة الإرهاب، وخاصة بعد انسحاب مالي من جميع أجهزة ولجان دول مجموعة الساحل الخمس (G5)، بما في ذلك القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل في الخامس عشر من مايو 2022، وانسحاب القوات الفرنسية والأوروبية من عمليات مكافحة الإرهاب من مالي في الخامس عشر من أغسطس 2022؛ إذ سيطر تنظيم داعش في الصحراء الكبرى (ISGS) على منطقة تلاتايت بشمال شرق مالي، وتعتبر هذه المنطقة استراتيجية لموقعها على الطرق المؤدية إلى مدن جاو وميناكا وكيدال، وتقع في قلب مناطق النفوذ والاشتباك بين الجماعات المسلحة في إقليم أزواد والجماعات الإرهابية؛ تنظيم “داعش” ولاية غرب إفريقيا، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية لتنظيم القاعدة، وتنظيم “داعش” في الصحراء الكبرى، ويهدف كل طرف للسيطرة على هذه المنطقة، بما تمتلكه من ثروات حيوانية وموارد الطاقة مثل النفط والغاز الطبيعي.
• التشكيك في جدية تنفيذ الاتفاق: أدى تصاعد أعمال العنف، سواء الاشتباكات الطائفية أو الهجمات الإرهابية إلى سقوط مئات القتلى نتيجة تأخير إعادة تشكيل الجيش الوطني والفشل في حل المظالم الاجتماعية والسياسية طويلة الأمد، كما تم استبعاد المجتمع المدني، بما في ذلك النساء والشباب والزعماء التقليديون من عملية تنفيذ الاتفاق، وساهم ذلك في إثارة الشكوك حول جدوى التنفيذ، في ظل التحديات الأمنية التي يواجهها السكان المحليون، ويحاول المجلس العسكري الانتقالي في مالي كسب الشرعية الدولية في ظل العزلة السياسية التي يمر بها من خلال تمديد العقوبات على المؤسسات والكيانات المالية من قبل مجلس الأمن الدولي، ومحاولة إظهار نفسه أنه ليس معطلًا لاتفاق السلام بدعوته لإحياء الاتفاق، وإلقاء اللوم على حركات أزواد لعدم تنفيذ الاتفاق.
• تأمين إمدادات الغاز: تعمل الجزائر والاتحاد الأوروبي على دعم إحياء اتفاق السلام بين الحكومة المالية وحركات أزواد، لتأمين خط أنابيب الغاز عبر الصحراء من نيجيريا والنيجر إلى الجزائر ثم أوروبا، في ظل أزمة الغاز التي يُعاني منها الاتحاد الأوروبي بسبب الحرب الأوكرانية، في إطار البحث عن بدائل للغاز الروسي، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لمالي، حيث ينعكس الوضع الأمني في شمال مالي على استقرار الأوضاع في جنوب الجزائر. لذا، قام وفد جزائري برئاسة وزير خارجية الجزائر “رمطان لعمامرة” في الثاني من سبتمبر 2022، في إطار الحراك الدبلوماسي للجزائر لإنجاح وبحث تسريع تنفيذ اتفاق السلام، باعتبار استقرار مالي جزءًا لا يتجزأ من أمن الجزائر.
تحديات قائمة
لا تزال عملية السلام في مالي تُواجه تحديات ومُعضلات عديدة بعدم اكتمال تنفيذ اتفاق السلام، ولا بد من مضاعفة الجهود للمضيّ قدمًا في الإصلاحات المقررة بموجب الاتفاق، وقد يساهم عدم اكتمال تنفيذ الاتفاق في ظهور مسارات سياسية وعسكرية بديلة، ولا ينبغي النظر إلى هذا الاتفاق كخيار احتياطي، ومع إهمال الدولة مساحة الحوار مع الجماعات المسلحة تتجه لتوحيد قواها، وفقًا لموقع مشروع بيانات الصراع المسلح وأحداثه (ACLED)، وزاد العنف الذي تمارسه الجماعات الإرهابية بنسبة 70٪ عام 2022. وفي 22 يوليو 2022، حدث هجوم على قاعدة “كاتي” العسكرية المقر الرئيسي للقوات المسلحة المالية على بعد 15 كم شمال غرب العاصمة باماكو، و10 كيلومترات فقط من القصر الرئاسي. فضلًا عن الهجوم الأكثر دموية منذ عام 2019، على قوات الجيش المالي في أغسطس 2022 بمنطقة تيست في مدينة جاو على الحدود مع النيجر وبوركينافاسو، في إطار تواصل هذه الجماعات توسيع عملياتها خارج معاقلها التقليدية في شمال ووسط مالي. ويمكن توضيح أهم هذه التحديات كما يلي:
• نقص مخططات التنمية الشاملة: لا يتمتع سكان مدن جاو وكيدال وتمبكتو بالتمثيل الحقيقي في تحديد الحكم المستقبلي للمناطق الشمالية، على الرغم من إنشاء صندوق تنمية طويل الأجل لدعم المبادرات التنموية في شمال مالي، ولكن إدارته المشتركة من السلطات المالية والجماعات المسلحة، لا تزال تحديًا، مع استمرارية الأطراف الموقعة على الاتفاق في الطلب بالحكم الذاتي بشمال البلاد، وسيعرقل ذلك عملية السلام في مالي باعتبار قضية الحكم الذاتي الدافع الأساسي لحمل السلاح.
• مشكلات عملية الدمج والتسريح: على الرغم من نشر كتيبة مُعاد تشكيلها في الجيش المالي في فبراير 2020، لكن لم تقم بأي دوريات مشتركة في منطقة كيدال بشمال البلاد، وتعتبر بعض الجهات الفاعلة الدولية والدولة المالية أن الجيش المعاد تشكيله يجب أن يشارك في عملية مكافحة الإرهاب. ومع ذلك، فمن الخطورة ربط القتال ضد الجماعات الإرهابية بتنفيذ اتفاق السلام. علاوة على ذلك، فإن معظم الجماعات المسلحة لديها مقاتلون كانوا أعضاء سابقين في الجماعات الإرهابية أو لديهم روابط عائلية أو قبلية بعناصر إرهابية، وانخراط المقاتلين السابقين في أعمال التهريب على الحدود والجريمة المنظمة. وتتم عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج للجماعات المسلحة في شمال مالي من خلال جمع وتسجيل ومراقبة والتخلص من الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة والثقيلة والذخيرة والمتفجرات التي يحتفظ بها المقاتلون، والإفراج عن أفراد القوات والجماعات المسلحة وعودة المحاربين القدامى إلى الوضع المدني والمساعدة في الحصول على فرص عمل بشكل منتظم.
• الانشقاقات الداخلية داخل الجماعات المسلحة: منذ عام 2015 أدت انتهاكات اتفاق السلام إلى تحريض الجماعات المسلحة لائتلافين ضد بعضهما بعضًا وليس ضد الدولة المالية بسبب الخصومات السياسية بين قبائل الطوارق أو الاشتباكات بين شبكات المهربين، وضعف تحالف الحركات المسلحة الموالية لباماكو منذ عام 2017، ويرتبط الاستقرار باكتشافات الذهب في منطقة كيدال، ويتم الاستعانة بالمقاتلين السابقين في إطار عملية التسريح، لكن ستنفد ودائع الذهب في النهاية، وستنتهي المرحلة الحالية من التعدين الحرفي لمرحلة من التعدين شبه الآلي تتطلب عددًا أقل من العمال، ويمكن أن يصبح حمل السلاح مرة أخرى ضرورة، مع تسجيل انتهاكات متكررة لوقف إطلاق النار بسبب التغيرات في تحالفات الأطراف ومواقعهم.
وختامًا، يعتبر تسريع تنفيذ اتفاق السلام بأحكامه المتعلقة بدمج المقاتلين السابقين وعملية نزع السلاح، وكذلك إعادة بسط سلطة الدولة، من المكونات الأساسية للخروج من الأزمة في مالي، وخطوة مهمة نحو تعزيز قدرات الجيش المالي للسيطرة على مختلف مناطق وأقاليم الدولة من خلال تنسيق وتوحيد الجهود والقدرات بين الطرفين لمواجهة التحديات المشتركة، التي ترتبط بتصاعد الأنشطة الإرهابية وعمليات التهريب، بالتزامن مع عمل الحكومة المالية على مقترحات خطة السلام مع الجماعات المسلحة، وسياسة إعادة بناء الارتباط، وبدء عملية الاندماج على أساس خارطة طريق توافقية تحترم مصالح شعب أزواد، ويعتمد مدى تنفيذ بنود الاتفاق على موقف الحكومة المالية من مطالب الحركات المسلحة في منطقة أزواد، ولاستعادة الزخم وثقة الجمهور بالاتفاق، يجب على الحكومة مشاركة خطتها لتحقيق اللا مركزية، وتمكين المفوضيات الجديدة بشكل كامل، وتعزيز التنمية في المناطق الحدودية لتجفيف منابع الإرهاب.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية