شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور عدد من المجموعات الاقتصادية والمؤسسات المالية الجديدة التي سيكون لها انعكاساتها المؤكدة على هيكل النظام الاقتصادي والمالي العالمي. كما طُرحت العديد من الأفكار الكبرى من جانب مفكرين اقتصاديين من دول الجنوب والدول الناشئة، ذات صلة بإعادة هيكلة هذا النظام، بدأت تجد صدى لها داخل الجماعة العلمية المعنية بهذه القضية، كان أبرزها ما قدمه المفكر الاقتصادي الصيني البارز جستين ييفو لين عقب وقوع الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية في 2008-2009. بل يمكن إرجاع بعض المبادرات التطبيقية في هذا الإطار إلى هذه الأفكار، وهو تأثير لم يكن ليحدث لولا التغيرات الجارية في هيكل توزيع القدرات الاقتصادية العالمية لصالح قادمين جدد من الدول النامية والناشئة– مفكرين ودولاً- على حساب هيمنة القوى الدولية التقليدية (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية)، وعلى حساب هيمنة الفكر الاقتصادي الليبرالي الغربي على أدبيات النظرية الاقتصادية.
مؤسسات دولية مالية جديدة
يعد تأسيس “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية” (AIIB) في أكتوبر 2014، برأسمال 100 بليون دولار، من أهم المؤسسات الدولية المالية الجديدة. وقد دخل الاتفاق المنشئ له حيز النفاذ في 25 ديسمبر 2015. ورغم أن تأسيس البنك جاء بمبادرة من الرئيس الصيني شي جين بينج، طرحها في أكتوبر 2013، إلا أنه يعد مؤسسة تمويل دولية متعددة الأطراف بامتياز.
وبالإضافة إلى هذا الكيان التمويلي المهم، هناك شبكة أخرى من المؤسسات التمويلية، بعضها محلي، مثل “صندوق طريق الحرير” SRF وهو صندوق تأسس في ٢٩ ديسمبر ٢٠١٤، كمؤسسة حكومية صينية، للعمل كذراع مالية لمبادرة الحزام والطريق، برأسمال قدره ٤٠ بليون دولار، وبعضها الآخر ذو طابع إقليمي، مثل “بنك التنمية الجديد” NDB الذي يعمل كذراع مالية لمجموعة “بريكس” BRICS، برأسمال أولي قدره 50 بليون دولار (بدأ عمله رسمياً في يوليو 2015)، و”صندوق البريكس لاحتياطيات النقد الأجنبي”، برأسمال قدره 100 بليون دولار (بدأ عمله رسميا في يوليو 2015)، بهدف تخفيف الضغوط التي قد تتعرض لها موازين المدفوعات في دول بريكس، وغيرها من المقترحات الجاري النقاش حولها.
هذه الشبكة من المؤسسات التمويلية الجديدة تمثل تهديداً للمؤسسات التمويلية التقليدية التي تأسست في إطار نظام “بريتون وودز” عقب الحرب العالمية الثانية (صندوق النقد والبنك الدوليان)، من أكثر من زاوية. أول هذه التحديات يتعلق بما تمثله المؤسسات الجديدة من نموذج أكثر فاعلية لتعاون “الجنوب- الجنوب”، وبناء نموذج لتدفقات التمويل في إطار “الجنوب- الجنوب” والتي ظلت محدودة طوال العقود السابقة، وذلك على العكس من المؤسسات المالية الدولية التقليدية التي قامت على فكرة تدفق “التمويل المشروط” من الشمال إلى الجنوب.
تهديد مستقبل المؤسسات الماليةالدولية التقليدية
والأهم من ذلك هو ارتباط هذه المؤسسات الجديدة بتمويل المشروعات التنموية ذات الصلة بقطاعات الاقتصاد الحقيقي، بخاصة الاستثمار المرتبط بتنمية البنية التحتية، وهو ما يهدد مستقبل المؤسسات المالية الدولية التقليدية، على خلفية المساهمة التاريخية المتواضعة للأخيرة في هذا المجال، بسبب انحرافها عن وظيفة تمويل التنمية إلى تمويل برامج الإصلاح المالي والاقتصادي في الدول المأزومة كوسيلة لنشر اقتصاد السوق وتطبيق الإملاءات الغربية في هذا المجال.
وأصبح دور مؤسسات “بريتون وودز” أكثر وضوحاً في هذا المجال مع بداية تسعينات القرن الماضي، مع تطور ما عرف بمبادئ “توافق واشنطن”، كما قدمها الاقتصادي الأميركي جون وليمسون في سنة 1989، والتي تشتمل على عشرة مبادئ أساسية اعتبرها وليمسون تمثل جوهر حزمة السياسات الأساسية التي تتوافق عليها مجموعة المؤسسات الاقتصادية التي تعمل من داخل واشنطن، سواء المؤسسات الدولية ممثلة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أو المؤسسات المالية والاقتصادية الأميركية، والتي اعتقد أنها ضرورية أيضاً لتعافي اقتصادات أميركا اللاتينية من الأزمات الاقتصادية والمالية التي مرت بها خلال ثمانينات القرن الماضي.
وتركزت هذه المبادئ على تجنب الارتفاع الكبير في نسبة العجز المالي إلى الناتج المحلي الإجمالي، وإعادة توجيه الإنفاق العام في اتجاه التحول من الإنفاق على الدعم إلى الإنفاق على القطاعات المنحازة للفقراء، مثل التعليم الأساسي والرعاية الصحية، والإصلاح الضريبي، وتحرير معدلات الفائدة وإخضاعها لنظام السوق، وتطبيق أسعار صرف تنافسية تحكمها قواعد السوق، وتحرير التجارة الخارجية، وتسهيل عمليات تدفق الاستثمار الأجنبي، وخصخصة القطاع العام والمشروعات المملوكة للدولة، وإلغاء القيود المفروضة على حرية الدخول إلى السوق والخروج منها من خلال إلغاء القيود التي تؤثر سلباً على المنافسة، والحماية القانونية لحقوق الملكية الفكرية.
“توافق بكين”:
وفي مقابل “توافق واشنطن”، يمكن القول إن المؤسسية الدولية الجديدة تعتمد على ما يمكن أن نطلق عليه “توافق بكين” كفلسفة بديلة. ترتكز هذه الفلسفة على عدد من المبادئ، تشمل “أولوية الاستثمار في تنمية البنية التحتية والاقتصاد الحقيقي” كوسيلة رئيسة لحل معضلة النمو والتنمية وخلق التجارة في الاقتصادات النامية والناشئة، وأنه “لا يوجد نموذج تنموي واحد قابل للتعميم»، و «لا توجد وصفة واحدة لمعالجة مشكلات التنمية”، ذلك أن الدول التي نجحت في تحقيق معدلات تنمية مرتفعة ليست تلك التي طبقت “توافق واشنطن”، ولكنها تلك التي استفادت من مختلف التجارب التنموية، وطوعت دروس وخبرات هذه التجارب مع بيئاتها المحلية، وأن حلول المشكلات التنموية الراهنة تأتي بالأساس من داخل الموجة الحديثة من النماذج التنموية (الآسيوية بالأساس) أكثر مما تأتي من دول الموجة الأولى، التي حققت تجاربها التنموية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين (الاقتصادات الغربية بالأساس).
لكن التحدي الأبرز الذي تمثله المؤسسات الجديدة يأتي من الوزن النسبي الذي تحتله الصين داخل هذه المؤسسات، فبالإضافة إلى المؤسسات التمويل الحكومية الصينية الخالصة (صندوق طريق الحرير)، تلعب الصين دوراً مركزياً داخل المؤسسة الجديدة متعددة الأطراف والإقليمية، وعلى رأسها “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية”، وذلك بالقياس إلى حجم المساهمة المالية الصينية في رأس مال البنك، والتي تقدر بنحو 29.8 بليون دولار، بنسبة مساهمة قدرها 31.3 في المئة من إجمالي رأس مال البنك، وبإجمالي أصوات قدرها 300600 صوت، بنسبة 26.9 في المئة من إجمالي القوة التصويتية. يلي الصين في هذا الإطار كل من الهند، بمساهمة مالية قدرها 8.4 بليون دولار، بنسبة 8.8 في المئة قريباً من إجمالي رأس مال البنك، وبعدد أصوات 86469، بنسبة 7.7 في المئة تقريباً من إجمالي القوة التصويتية، ثم روسيا، بمساهمة قدرها 6.5 بليون دولار، وبنسبة 6.9 في المئة من إجمالي رأس مال البنك، وبعدد أصوات قدرها 68158، بنسبة 6.1 في المئة تقريباً من إجمالي القوة التصويتية. وعامة، فإن توزيع حجم المساهمات المالية في رأس مال البنك، والقوة التصويتية، يشيران إلى ارتفاع الوزن النسبي للقوى الآسيوية (خصوصاً الصين، الهند، روسيا، كوريا الجنوبية، إندونيسيا)، بينما تأتي القوى الأوروبية وغير الآسيوية بعامة في ترتيب تالي، سواء من حيث نسبة مساهماتها في رأس مال البنك، أو قوتها التصويتية.
ولعل ما يؤكد التهديد الذي يمثله “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” هو اتجاه عضوية البنك إلى الاتساع في شكل يؤكد تكريس طابعه العالمي. فقد بلغ إجمالي عدد أعضاء البنك في 19 كانون الأول 2017، 61 عضواً، بالإضافة إلى حوالى 23 دولة أخرى في انتظار قرار الموافقة على الانضمام إلى البنك. اتساع حجم عضوية البنك يدحض القول إنه مؤسسة تمييزية أو مغلقة، كما أنه يسحب تدريجاً، المشروعية من المؤسسات المالية التقليدية.
وإزاء المخاوف الأميركية من التداعيات الاستراتيجية للمؤسسات المالية الجديدة، فقد أعلنت الولايات المتحدة صراحة رفضها مشروع البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ورفضت الانضمام إليه. ولا يتوقع نجاح واشنطن في وقف تمدد هذه المؤسسات وتزايد ثقلها داخل النظام الاقتصادي والمالي العالمي. وكان المؤشر الأبرز في هذا الإطار هو فشلها في إقناع حلفائها الأوروبيين الانضمام إلى البنك، بل وإعلان الكثير من المؤسسات المالية التقليدية أنها ستتعاون مع المؤسسات المالية الجديدة. أضف إلى ذلك القدرات المالية الضخمة لهذه المؤسسات، والفلسفة الاقتصادية المغايرة التي تقوم عليها.