من أكثر تحديات العالم صعوبةً في القرن الحادي والعشرين هو مجابهة أخطار التغيرات المناخية، ومحاولة تقليل الانبعاثات. وتأتي صعوبة هذا التحدي من فرط اعتماد النمو الاقتصادي على أنشطة ترتبط بطبيعتها بزيادة تلك الانبعاثات الضارة. وقد كانت التصادمات بين الحكومات والحركات البيئية منذ بدايات القرن التاسع عشر مرتبطة -بصورة أو بأخرى- دومًا باعتبارات الموازنة بين الحفاظ على البيئة من ناحية، والمحافظة على عجلة الإنتاج أو النمو الاقتصادي من ناحية أخرى. غير أن الموقف يزداد صعوبة وتعقيدًا مع تزايد الاهتمام بالقوانين والاتفاقات البيئية العالمية، وتوسع الأطر الدولية الهادفة إلى الحفاظ على البيئة، وتزايد تأييد العديد من الحكومات والمنظمات لهذه الأطر. لكن لا تزال بعض الدول تقف معارِضةً لهذه الاتجاه العالمي بسبب التكاليف الاقتصادية للالتزام بهذه الاتفاقات والأطر تارة، أو بسبب غموض نتائجها تارة أخرى، خاصة في ظل التباين الضخم في الدراسات العلمية المختلفة للآثار الفعلية للمشكلات البيئية.
في تقرير تم نشره في أكتوبر 2018 من جانب “اللجنة الدولية للتغيرات المناخية” Intergovernmental Panel on Climate Chang (IPCC)، تم تقييم السيناريوهات الحالية للتغير المناخي طبقًا للنشاطات الصناعية والسكانية والزراعية المختلفة في العالم، لا سيما تلك المرتبطة بالدول ذات الاقتصادات الأكبر عالميًّا لجسامة تأثيرها على حجم التغير المناخي. وقد أشار التقرير إلى أن التغير المناخي لن يتوقف طالما لم يتغير العالم نفسه تغيرًا جذريًّا، وإن كان ذلك مكلفًا.
وقد أوضح التقرير التغيير المطلوب من جانب دول العالم في عدة نقط، أهمها تقليل الانبعاثات العالمية لثاني أكسيد الكربون بنسبة 45% مقارنة بمستويات سنة 2010 بحلول عام 2030، وهو العام المعلن من قبل الأمم المتحدة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة SDGs. كما دعا التقرير إلى استخدام سبعة ملايين كيلومتر مربع من الأراضي في زراعة محاصيل الطاقة عوضًا عن استخدام الفحم، حيث أكد ضرورة تقليل استخدامه إلى ما يقارب الصفر. كما حذّر التقرير من الاستهانة بتلك التوصيات، مؤكدًا أن تجاهل خطر التغيرات المناخية سيؤدي إلى كوارث طبيعية مختلفة، منها ارتفاع منسوب مياه البحر وحرارة المحيطات، مما سيؤثر على نسب تشبع التربة والمياه الجوفية بالأملاح ويقلل من نسبة المياه العذبة الصالحة للاستخدام في الأنشطة المختلفة، خصوصًا المتعلقة بزراعة محاصيل الأرز والذرة والقمح.
المفارقة أن الدولة الأكبر، وهي الولايات المتحدة، لا تزال تتبنى موقفًا معارضًا للتوجه العالمي بتعزيز الالتزامات البيئية. فعلى سبيل المثال، قابلت إدارة “ترامب” بالاستياء تقريرًا آخر فيدراليًّا صدر في نوفمبر الماضي (2018) حول آثار التغير المناخي على الولايات المتحدة الأمريكية. فقد ذهب وزير الداخلية الأمريكي “ريان زينك”، إلى أن التقرير يركز على السيناريوهات الأسوأ على الإطلاق، ما يضخم من الآثار السلبية المحتملة، متجاهلًا السيناريوهات الأكثر تفاؤلًا التي لا تُنذر بخطر كبير على البيئة. وقارن “زينك” بين التغيرات المناخية وخطر الحرب النووية، حيث أوضح أنه إذا تم انتهاج نفس سياسة التركيز على السيناريوهات الأسوأ، فسيضطر المواطن للعيش في الملاجئ وارتداء الملابس الواقية لدرء الخطر النووي، وهو ما لا يُعتبر منطقيًّا من وجهة نظره. وكانت إدارة “ترامب” قد أعلنت مرارًا في مناسبات سابقة أن التغير المناخي لا يؤثر على الاقتصاد الأمريكي. وجاء في هذا الإطار إعلان “ترامب” في يونيو 2017 انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة باريس المتعلقة بتخفيف آثار التغيرات المناخية، كجزء من سياسة “أمريكا أولًا”.
الموقف الأمريكي، في ظل إدارة “ترامب” بشكل خاص، يقوم على أن اتفاقية معاهدة باريس، والالتزام بسياسات الحماية من التغيرات المناخية عمومًا، ينطوي على تقييد كبير لفرص نمو الاقتصاد الأمريكي. وقد أشار “ترامب” إلى ذلك أثناء حملته الانتخابية، ومن ثم وعد بالانسحاب من الاتفاقية فور توليه الرئاسة. بل إنه كان قد نشر تغريدة في عام 2012 تتهم السلطات الصينية بصناعة وترويج مصطلح “التغير المناخي” بهدف ضرب القدرة التنافسية للصناعة الأمريكية. كما شكك بعض أعضاء حكومة “ترامب” في مناسبات مختلفة في السند العلمي لأبحاث التغيرات المناخية. بل إن “ترامب” نفسه في أكتوبر الماضي (2018) اتهم العلماء المعارضين لرؤيته بأن لديهم “أجندة سياسية كبيرة”، على حد قوله. وأضاف أنه لا يريد خسارة المليارات من الدولارات وملايين الوظائف بسبب هذه السياسة.
وبعد تتويج هذه الرؤية بالانسحاب من الاتفاقية، تخوفت العديد من الدول والشركات العالمية الكبرى من أثر هذا القرار على الاقتصاد، حيث يرى البعض أن عدم التزام الولايات الأمريكية بالسياسات البيئية العالمية سيعطيها ميزة تنافسية على حساب الدول الملتزمة. من هذا المنطلق، صرح رئيس الرابطة الألمانية لصناعة السيارات VDA بأن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من الاتفاقية سيجعل من الحتمي أن تيسر أوروبا سياسة مناخية جديدة مجدية أكثر لتحسين الأسعار والجدوى الاقتصادية، وكي تحافظ على التنافس الدولي لصناعاتها أما الصناعة الأمريكية.
وعلى جانب آخر، يرى البعض أن للانسحاب الأمريكي، وإن كان يبدو جيدًا للاقتصاد في المستقبل القريب، تبعات سلبية في المستقبل الأبعد، ذلك أن الأضرار المادية للكوارث الطبيعية التي تم الربط بينها وبين ظاهرة التغير المناخي، مثل أعاصير فلورنس ومايكل، ستبلغ نحو 30 مليار دولار ما لم يتم تجنبها بالتخطيط المسبق والالتزام بسياسات التغيرات المناخية. وقد أكد على هذه الفرضيات العديد من الدراسات البحثية البيئية والاقتصادية المختلفة، أجرى بعضها جامعتا هارفارد وجورج واشنطن.
وتتزامن ردود الأفعال على تقرير “اللجنة الدولية للتغيرات المناخية” مع تحركات شعبية مناهضة لقرارات الحكومة الفرنسية فيما يتعلق بسياسات أسعار الوقود. ورغم أن الاعتقاد العام الشائع يركز على كون الزيادات الجديدة في الأسعار تتعلق بسياسة الضرائب الفرنسية؛ إلا أن “ماكرون” وصف السياسات الإصلاحية بفرنسا بكونها جزءًا من خطة بيئية انتقالية طويلة المدى، وسوقت الحكومة هذه الزيادة بأنها تمثل “ضرائب بيئية”، ومحاولة لتطبيق جاد لجزء من خطة المفوضية الأوروبية لإيصال الانبعاثات إلى مستوى صفر بحلول عام 2050. ومن المعروف أن فرنسا من الدول الأكثر استخدامًا للسيارات، والتي تأتي في الترتيب رقم 19، بكثافة استخدام قدرها 578 مركبة لكل ألف مواطن وفق بيانات عام 2014.
وكان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” قد تم إهداؤه جائزة “أبطال الأرض” في سبتمبر الماضي، وهو التكريم البيئي الأعلى المقدم من هيئة الأمم المتحدة لفئة القيادات السياسية. وقد تم تكريمه بسبب جهوده المتعلقة بدعم سياسات الطاقة المتجددة والتعاون الدولي في مجال البيئة. وكانت هذه آخر خطواته الناجحة في تثبيت الانطباع السائد حول سياساته ورؤيته التي جعلت منه في نظر العديد من أقوى النشطاء البيئيين في تاريخ الحركات البيئية. لكن هذا الانطباع تذبذب كثيرًا وتأثر بموجة الغضب المتصاعدة تجاه سياساته البيئية تلك، وبروز حركة “السترات الصفر”.
فقد لعبت حركة “السترات الصفر” دورًا مهمًّا في تنظيم العديد من التظاهرات الاحتجاجية الجارية في فرنسا في مناطق مختلفة بما في ذلك العاصمة باريس، نتج عنها سقوط قتلى ومصابين واعتقال المئات. وقد سبق تصاعد هذه الحركة استقالة وزير “التحول الإيكولوجي الشامل” (وهي الوزارة المعنية بشئون البيئة والتنمية المستدامة في فرنسا) “نيكولاس إولو” من الحكومة في 28 أغسطس 2018، بدعوى استيائه من سياسات “ماكرون” البيئية. فقد ذهب “إولو” إلى أنه لم يرغب في خلق “وهم” بأن الحكومة تُجابه التحديات البيئية حقًّا. وأصبحت كلمات “إولو” بابًا للتساؤل حول مدى مصداقية الرئيس الفرنسي “ماكرون” في سياساته الاقتصادية التي يتم وضعها تحت الأجندة البيئية. وأضاف “إولو” بعد تفاقم حركة “السترات الصفر”، إنه كان من غير الممكن تجنبها، وأنه قد حاول على مدار أسابيع قبل استقالته تغيير سياسات الإصلاحات الخاصة بالطاقة تغييرًا جذريًّا بهدف ضمان العدالة الاجتماعية.
في ظل كل هذه التطورات، وهذا الجدل، يصعب التنبؤ بما سوف تنتهي إليه العديد من الخطط والاستراتيجيات الدولية المتعلقة بالبيئة، كما يصعب حسم الجدل حول التكاليف الاقتصادية والاجتماعية للسياسات البيئية، وسيصعب أيضًا الوصول إلى ترتيب واضح للأولويات فيما يتعلق بحماية البيئة والعدالة الاجتماعية. فمن الممكن أن تستمر المظاهرات الشعبية تجاه هذه القوانين في حالة اتساع حجم تأثيرها على نمط الحياة اليومية والمستويات المعيشية. ومن الممكن أيضًا أن تُعيد الحكومات حساباتها الخاصة بخطط الإصلاح الاقتصادي المتعلقة بالبيئة بهدف توفير حلول أكثر استدامة للجانب الاجتماعي، وتحافظ على قدراتها التنافسية الصناعية دون إلحاق أضرار أكبر بالبيئة.