تجدد الصراع في شرق الكونغو الديمقراطية بعودة حركة 23 مارس المتمردة في شرق الكونغو الديمقراطية (الذي أصبح يُعرف بالحرب الأبدية الكبرى لأفريقيا)، وقد أدى ذلك إلى سقوط المنطقة في دوامة لا تنتهي من انعدام الأمن وعدم الاستقرار، وظلت ساحة معركة للصراعات المتداخلة بين القوى الإقليمية والجماعات المسلحة، وهي منطقة غنية بالموارد الطبيعية المتنوعة، بما في ذلك الذهب والماس والنفط؛ إذ تعتبر جمهورية الكونغو الديمقراطية ثالث أكبر منتج للماس في العالم بنسبة 23% من الإمدادات العالمية، وأكبر منتج للكوبالت بنسبة 70%، وهو عنصر أساسي نادر في ثورة التكنولوجيا وإنتاج البطاريات، حيث استولت الحركة على مساحات شاسعة من الأراضي في مقاطعة كيفو الشمالية وتحديدًا مدينة جوما التي تقترب جغرافيًا من كيجالي – عاصمة رواندا، حيث تُمثل هذه الحركة نقطة شائكة في تدهور العلاقات بين الكونغو ورواندا، ويعتبر العديد من المقاتلين المتمردين من أصل توتسي كونغولي، ورئيس رواندا من أصل رواندي من التوتسي.
اتصالًا بالسابق، احتدمت التوترات خلال عام 2022 بسبب تعزيز العلاقات بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وبوروندي، حيث شنت هذه الدول عمليات عسكرية منفصلة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد أثار ذلك مخاوف كيجالي بشأن تقليل نفوذها الاستراتيجي. كما استضافت مدينة لواندا (عاصمة دولة أنجولا) قمة مصغرة حول السلام والأمن في شرق الكونغو الديمقراطية في الثالث والعشرين من نوفمبر 2022 بحضور رؤساء دول الكونغو الديمقراطية، ورواندا، وكينيا، حيث يتوسط الرئيس الأنجولي “جواو لورينسو” باعتباره رئيس المؤتمر الدولي لمنطقة البحيرات الكبرى (ICGLR)، ووسيط الاتحاد الأفريقي لحل الأزمة بين الكونغو ورواندا. كما وضع خارطة طريق لواندا لدعوة البلدين إلى احترام وحدة أراضي بعضهما بعضاً والتوقف عن دعم المتمردين. تأتي هذه القمة لمناقشة تخفيف التوترات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، وتهدئة الأوضاع في المقاطعات الكونغولية الشرقية كيفو الشمالية وكيفو الجنوبية وإيتوري، ووضع جدول زمني لتنفيذ الإجراءات ذات الأولوية بهدف وقف الأعمال العدائية والانسحاب الفوري لحركة 23 مارس من الأراضي المحتلة، ولا سيما فيما يتعلق بتفعيل آلية التحقق المخصصة في 9 نوفمبر 2022، ونشر القوات الإقليمية لمجموعة شرق أفريقيا (EACRF) في مقاطعات شمال شرق الكونغو الديمقراطية، وخارطة الطريق الدبلوماسية إلى وقف الأعمال العدائية والانسحاب الفوري لحركة 23 مارس.
مسارات التصعيد وخرائط دوافع الصراع
ابتليت منطقة شرق الكونغو الديمقراطية بالجماعات والميلشيات المسلحة على مدى عقود، وكثير منها إرث من الحروب الإقليمية التي اندلعت خلال فترة التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واستمرت التوترات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا في التصاعد، حيث وجّه الجانبان الاتهامات التي أدت إلى تأجيج الوضع الأمني في شرق الكونغو. وتؤكد رواندا أن جمهورية الكونغو الديمقراطية تعمل على تخريب الجهود الإقليمية لإيجاد حلول دائمة ومستدامة التي تسترشد باتفاقيات لواندا ونيروبي.
في هذا السياق، تأسست حركة 23 مارس عام 2012، وبرزت في ذلك العام عندما استولت على مدينة جوما في شرق الكونغو، قبل أن يتمكن هجوم مشترك بين الكونغو والأمم المتحدة من طردهم، وبعد اتفاق سلام عام 2013، تم دمج العديد من مقاتلي الحركة في الجيش الوطني لجمهورية الكونغو الديمقراطية، لكن استأنفت القتال في أواخر عام 2021، متهمة الحكومة في كينشاسا بالفشل في الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاق السلام. بحلول مارس 2022، استولت الحركة على أجزاء رئيسية من إقليم روتشورو المتاخم لأوغندا ورواندا. وفي مايو 2022، اجتاحوا قاعدة رومانجابو العسكرية، وهي أكبر منشأة عسكرية للقوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية في شمال كيفو. ثم توغلوا جنوبًا باتجاه العاصمة الإقليمية جوما وعبر مدينة جيسيني الحدودية في رواندا. وفي يونيو 2022، اجتاح فرع آخر من حركة 23 مارس، يعمل في أقصى الشمال، مدينة بوناغانا الحدودية، مما أجبر الجنود الكونغوليين على الفرار إلى أوغندا.
تأسيسًا على السابق، كان ذلك بمثابة مفاجأة بالنظر إلى فترة الهدوء التي استمرت 10 سنوات في نشاط الحركة التي عانت من عدة هزائم على يد الجيش الكونغولي، وبعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية (MONUSCO). وفقًا لتقرير خبراء الأمم المتحدة، تدخل الجيش الرواندي لتعزيز موقف حركة 23 مارس وكذلك لمحاربة القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR) المنحدرة من مجموعات الهوتو الرواندية التي نفذت الإبادة الجماعية التوتسي عام 1994 في رواندا. عليه، أدى ظهور حركة 23 مارس المتمردة في شرق الكونغو إلى زيادة معاناة المدنيين وتأجيج التوترات الدولية، واتهمت كيجالي كينشاسا بالتواطؤ مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا. بالإضافة إلى ذلك، اتهام الجيش الرواندي جيش جمهورية الكونغو بقصف المدنيين في مقاطعة رواندية على الحدود، لكن نفت كيجالي أي تورط فيما وصفته بصراع كونغولي داخلي.
في هذا الصدد، قالت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية إنها تتمسك بقوة بعملية نيروبي لحل الأزمة الأمنية في المقاطعات الشرقية من البلاد من خلال تحديد شكل المفاوضات مع جميع الجماعات المسلحة، وليس مع جماعة مسلحة منفردة، حيث تُقاتل أكثر من 120 جماعة مسلحة. في حين تريد حركة 23 مارس من الحكومة الكونغولية تنفيذ اتفاقية 2013 التي توصلوا إليها في نيروبي، ولا سيما يجب الاعتراف بهم على أنهم مواطنين كونغوليين يعيشون في شرق الكونغو، والسماح لهم بتشكيل حزب سياسي، ودمج المقاتلين المتمردين في الجيش الكونغولي. من ناحيةٍ أخرى، أدت المحادثات بين الكونغو ورواندا في لواندا إلى اتفاق هدنة في 23 نوفمبر 2022. بموجب الاتفاق، كان على حركة 23 مارس إلقاء السلاح والانسحاب من الأراضي المحتلة، لكن استمرت الاشتباكات مع الحركة وظهرت ميليشيات محلية غيرت التحالفات وخلقت ديناميات جديدة مع الجيش الكونغولي.
فيما تصاعد النزاع بين الكونغو ورواندا بعد قرار الرئيس “تشيسكيدي” طلب الدعم من جماعة شرق أفريقيا في أبريل 2022، بتشكيل قوة مشتركة مؤلفة من قوات إقليمية لمحاربة الجماعات المسلحة في شرق الكونغو مع استبعاد الجنود الروانديين من هذه القوة، مما أثار غضب الرئيس “كاجامي”، إلى جانب اقتناعه بأن كينشاسا تساعد الجبهة الديمقراطية لتحرير رواندا، في ظل مفارقة أن رواندا واحدة من أصغر الدول في أفريقيا، في حين أن جمهورية الكونغو الديمقراطية هي الأكبر. كما تعتبر القوات المسلحة الكونغولية أكبر بأربعة أضعاف من قوة الدفاع الرواندية، وعلى عكس رواندا، تتمتع جمهورية الكونغو الديمقراطية بموارد طبيعية وفيرة. مع ذلك، فإن رواندا دولة أكثر فاعلية ولديها نفوذ دولي أكبر.
اتجاهات خطرة وتهديدات أمنية متصاعدة
أطلقت القوات الجوية الرواندية النار على طائرة عسكرية لجمهورية الكونغو في مدينة جوما في 23 يناير 2023، بدعوى أنها انتهكت المجال الجوي الرواندي، وكانت بمثابة نقطة التحول في تصاعد التوترات بين البلدين، وتبادل الاتهامات بعدم الامتثال لاتفاقية السلام الموقعة في العاصمة الأنغولية لواندا في نوفمبر 2022. وجاء التطور بعد أن أعلنت كينشاسا أنها تستخدم شركات عسكرية خاصة لمواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة، واعتبرت كيجالي هذه الخطوة بمثابة إعلان حرب، ويمكن توضيح أهم المخاطر والتداعيات على خلفية التوترات الإقليمية بين رواندا والكونغو على النحو التالي:
• تكلفة الصراع على المدنيين: أسفر الصراع المسلح في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية عن عواقب إنسانية مدمرة على المدنيين الكونغوليين، بما في ذلك عمليات النزوح الجماعي والعنف الجنسي والقتل خارج نطاق القضاء وتجنيد الأطفال، حيث تواصل الجماعات المسلحة ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وقال منسق الأمم المتحدة في البلاد “برونو ليماركيز” إن الأمم المتحدة ستحتاج إلى تعبئة رقم قياسي بلغ 2.25 مليار دولار لمواجهة النزوح الجماعي في أعقاب هجوم كبير شنه متمردي حركة 23 مارس خلال عام 2022، ويضيف انعدام الأمن المتصاعد في الشرق إلى الأزمات الإنسانية المستمرة الأخرى مثل تزايد انعدام الأمن الغذائي المرتبط بتداعيات التغير المناخي.
• تصاعد التوترات الجيوسياسية بين رواندا وأوغندا: أطلقت أوغندا والكونغو الديمقراطية عملية عسكرية مشتركة في المنطقة في نوفمبر 2021. كما وافقت كمبالا على تحديث البنية التحتية للطرق في شرق الكونغو من خلال تعزيز دبلوماسية البنية التحية، مما قد يشجع طرق الإمداد البديلة التي من شأنها تجاوز المعابر الحدودية الرواندية، ويعتبر التنافس الطويل الأمد بين أوغندا ورواندا في جمهورية الكونغو الديمقراطية ومنطقة البحيرات العظمى محركًا رئيسيًا للأزمة الحالية، وهناك صراع أكبر حيث يتزامن التنافس الأوغندي والرواندي على السيادة مع تصاعد العنف في شرق الكونغو، حيث شهدت العلاقات المضطربة تقليديًا بين الحلفاء السابقين منعطفًا نحو الأسوأ خلال السنوات الأخيرة. وتوجت أشهر من الادعاءات المتبادلة العدائية بشكل متزايد بإغلاق رواندا المفاجئ لمعبر جاتونا الحدودي في فبراير 2019، وانهارت التجارة بين البلدين وشرق أفريقيا ككل مع إغلاق الحدود. وتعتبر المنافسات الاقتصادية جزء من سبب العداء بين رواندا وأوغندا للسيطرة على الموارد الطبيعية في شرق الكونغو، ويتم تهريب ما يصل إلى 90 % من ذهب الكونغو إلى الدول المجاورة، مع وصول الجزء الأكبر منه إلى رواندا وأوغندا. مع ذلك، فإن العمليات العسكرية التي تقوم بها بوروندي وأوغندا في شرق الكونغو، جنبًا إلى جنب مع استمرار نشاط الجماعات المسلحة، يمكن أن تعيد إشعال العداء التاريخي بين الدول المجاورة وتزيد من زعزعة استقرار جمهورية الكونغو الديمقراطية.
• تفاقم الأزمة الإنسانية وتصاعد تدفقات اللاجئين: يوجد أكثر من 5.5 مليون نازحًا داخليًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، و160.000 لاجئًا جديدًا منذ يونيو 2022. وقد يؤدي مزيد من زعزعة الاستقرار إلى تفشي الأمراض الخطيرة، بما في ذلك الإيبولا. كما كشف المفوض السامي للأمم المتحدة لشئون اللاجئين أن 5370 طالب لجوء جديد وصلوا إلى رواندا من جمهورية الكونغو الديمقراطية بين نوفمبر 2022 و23 فبراير 2023. مع ذلك، نظرًا لتزايد الأعداد، وحقيقة أن مخيم ماهاما قد وصل إلى طاقته الاستيعابية، في 12 يناير 2023 الثاني، أبلغت الوزارة المسؤولة عن إدارة الطوارئ (MINEMA) المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين بقرار حكومة رواندا استضافة طالبي اللجوء بالقرب من الحدود في نكاميرا موقع جديد.
• تنامي الاتهامات المُتبادلة بين رواندا والكونغو: اتهمت الكونغو رواندا برعاية حركة 23 مارس. في حين اتهمت رواندا الكونغو الديمقراطية وأوغندا وبوروندي بدعم الجبهة الديمقراطية لتحرير رواندا. كما اتهمت أوغندا رواندا بدعم القوات الديمقراطية المتحالفة. لذا، دفعت هجمات الحركة الرئيس الكونغولي إلى منعها من أحدث جولة من محادثات السلام مع الجماعات المتمردة المختلفة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومنحها تصنيفًا إرهابًا. وكشف استيلاء الحركة على مدينة جوما الثغرات الموجودة في تفويض بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البلاد وعجز قوات حفظ السلام عن حماية المدنيين. وفي أعقاب إدانة مجلس الأمن الدولي استيلاء الحركة على جوما، أصدر جوزيف كابيلا من جمهورية الكونغو الديمقراطية والرواندي “كاجامي” بيانًا مشتركًا دعا فيه الجماعات المتمردة إلى وقف العنف على الفور. بعد ذلك، أصدر المؤتمر الدولي المعني بمنطقة البحيرات الكبرى بيانًا يقصر حركة 23 مارس على منطقة طولها 20 كيلومترًا حول المدينة.
حاصل ما تقدم، بمرور الوقت يمكن أن يؤدي تزايد انعدام الأمن إلى عرقلة الانتخابات الوطنية بجمهورية الكونغو الديمقراطية المقرر إجراؤها في نهاية عام 2023، مما يزيد من إبعاد السكان عن الدولة، في ظل صراع متعدد الأوجه وتشابكه مع أهداف أخرى في منطقة شرق الكونغو، مع انخراط البلدين في حربين كبيرتين ومناوشات متعددة. مع ذلك، فإن التوترات الأخيرة تهدد بزعزعة استقرار منطقة شرق أفريقيا ككل، وتعطيل طرق التجارة والسماح بتكوين مجموعة تحالفات من الجماعات المسلحة المتمردة، ومن المرجح أن تستمر هذه الدول في فترات من الاستقرار والتوتر، وصراع كبير آخر مثل حروب الكونغو السابقة. علاوة على ذلك، القلق بشأن تصاعد خطاب الكراهية والعداء وتعقيدات العنف ضد السكان من أصل رواندي في شرق الكونغو. وعليه، يجب الموازنة بين الالتزامات الوطنية والإقليمية، وإدارة التحالفات الثنائية، والدور الحاسم للجهات الضامنة لاحتواء الأزمة الأمنية في شرق الكونغو، وتجنب إشعال الصراع بين الدول في منطقة البحيرات العظمى، واستغلال التمدد الشاسع للمساحات غير الخاضعة للحكم والممتدة من أوغندا إلى رواندا وبوروندي كجغرافيا مثالية للتجارة غير المشروعة، وإراقة الدماء تجعل منطقة البحيرات العظمى بأكملها على حافة الهاوية وتخلق احتكاكات خارج حدود جمهورية الكونغو الديمقراطية.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية