الحديث عن وضعية الدولار لا يقتصر على مصر، بل هو منتشر في العديد من دول العالم، وفى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
الأسبوع الماضى، وفى مؤتمر جماهيرى، تحدث الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب عن أن «الدولار ينهار، ولن يكون قريبًا هو المعيار العالمى للعملة، وستكون هذه أكبر هزيمة لنا منذ ٢٠٠ عام، حيث ستحرم هذه الهزيمة الولايات المتحدة من أن تكون قوة عظمى».
حديث ترامب يرتبط بظاهرة تتسارع خطاها في الفترة الأخيرة، وهى ما تسمى De-Dollarization أو «فك الارتباط بالدولار».
ارتباط الاقتصاد العالمى بالدولار كعملة احتياطية وأداة لتسوية المعاملات التجارية هو ظاهرة تعود إلى ما يُعرف بنظام «بريتون وودز»، الذي تم تصميمه بعد الحرب العالمية الثانية، وأتاح للولايات المتحدة وضعية فريدة، وهى زيادة إنفاقها الداخلى بما لا يعبر عن إمكانياتها الحقيقية، وقيامها بتعويض ذلك من خلال سندات الدَّيْن الحكومى، التي تشتريها دول العالم بشكل مستمر لاحتياجها للدولار، لذا اعتادت الإدارات الأمريكية الإنفاق دون أي قلق بشأن العجز مادام هناك ضمان بشراء سندات الدَّيْن الجديدة، نتيجة لذلك ووفقًا لتقارير إعلامية ارتفع الدَّيْن العام الأمريكى خمسة أضعاف تقريبًا من حوالى ٦ تريليونات دولار قبل ٢٠ عامًا إلى ٣١ تريليون دولار اليوم.
وقد شبّه البعض هذا الوضع بآلية عمل شركات توظيف الأموال، والتى تقوم بدفع الأرباح لعملائها من التدفقات النقدية للعملاء الجدد، ويستمر عملها مادام لا يوجد خوف من انقطاع التدفقات الجديدة.
وظل الدولار الأمريكى مدعومًا بالذهب حتى قام الرئيس نيكسون في السبعينيات بإخراج الولايات المتحدة من معيار الذهب، وبالتالى لم تعد هناك أصول صلبة تدعم الدولار على مدى الخمسين عامًا الماضية، ومع ذلك استمرت الوضعية المتميزة للدولار نتيجة لعوامل أخرى، كان منها ما عُرف بظاهرة «البترو دولار»، وهى التزام عدد من الدول المصدرة للبترول بأن تبيع إنتاجها بعملة الدولار فقط وليس بأى عملة أخرى، وبالتالى سعت الدول للحصول على الدولار لدفع ثمن وارداتها البترولية.
الفترة الأخيرة شهدت عددًا من العوامل التي أضعفت الأسس التي أسهمت في هذه الوضعية المتميزة للدولار.
أحد هذه العوامل هو الحرب الأوكرانية، التي قامت فيها الولايات المتحدة باستخدام وضعيتها الدولارية كسلاح ضد روسيا، فجمّدت احتياطياتها النقدية في البنوك الأمريكية، وقامت بطردها من نظام التسويات المالية العابرة للحدود، والمعروف باسم «سويفت».
هذه السياسات جعلت العديد من دول العالم تخشى أن تتعرض لنفس العقوبات المالية لو دخلت في حالة عداء مع الولايات المتحدة، كما أن تحالف الدول الغربية مع الولايات المتحدة في هذه العقوبات جعل دول العالم تبحث عن بديل ليس فقط للدولار ولكن أيضًا للعملات الغربية الأخرى.
كما أسهمت المواجهة الاقتصادية الأمريكية للصين وفرض عقوبات عليها وتبنى إجراءات لفك الارتباط الاقتصادى بها في قيام الصين هي الأخرى بتبنى إجراءات تستهدف فك ارتباطها بالدولار الأمريكى.
يُضاف إلى ذلك تزايد التكهنات حول إمكانية تداعى نظام «البترو دولار» في ظل توارد أنباء عن تفاهمات بين الصين والمملكة العربية السعودية، تتيح التعامل بين البلدين فيما يتعلق بصادرات البترول بعملة غير الدولار وبإمكانية استخدام اليوان الصينى، وهو ما دفع البعض إلى الحديث المجازى عن ظاهرة جديدة أطلقوا عليها «البترو يوان».
الشهور الأخيرة شهدت أيضًا العديد من الأحداث التي تسهم في ظاهرة فك الارتباط بالدولار، ومنها توسع العديد من دول العالم في شراء الذهب كاحتياطى بديل للدولار، والاتفاق الصينى الروسى على تسوية معاملاتهما التجارية بالعملات المحلية، وإعلان الرئيس الروسى بوتين في زيارته الأخيرة للصين عن تأييده استخدام «اليوان» للتسويات التجارية بين روسيا ودول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والاتفاق بين الصين والبرازيل على استخدام «اليوان» و«الريال» البرازيلى في التعاملات التجارية بينهما، واستخدام «الروبية» الهندية كعملة بديلة للدولار في تعاملات الهند مع أكثر من ١٨ دولة.
ولكن يظل التطور الأكبر هو إعلان مجموعة دول البريكس، (التى تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا)، عن قيامها بمناقشة تبنى عملة موحدة للتعامل فيما بينها، وذلك باجتماعات القمة القادمة للمجموعة في أغسطس. وتزداد أهمية هذا الأمر مع تقدم المملكة العربية السعودية، (أحد أسس نظام البترو دولار)، والمكسيك، (الشريك التجارى الأساسى للولايات المتحدة والامتداد الصناعى لها)، بطلبات لعضوية مجموعة البريكس.
التطورات السابقة لن يكون لها تأثير على وضعية الدولار في الأمد القصير، بما في ذلك وضعيته في مصر. ولا توجد في الأفق عملة واحدة يمكن أن تحل محل الدولار، وكما تم بناء نظام الدولار عبر عدة عقود، فإن تفكيكه لن يتم بين يوم وليلة، وسوف يشهد مقاومة ضارية من الولايات المتحدة.
ولكن المؤكد أن سياسات فك الارتباط بالدولار التي أصبحت تتبناها العديد من دول العالم هي أشبه
بـ«العاصفة الكاملة» التي تتكون حاليًا، وستكون لها في المستقبل آثار ملموسة على الاقتصاد الأمريكى والاقتصاد العالمى.
