فجر الخميس الماضي، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة بيانا مصورا بثته وكالة السودان للأنباء، حمل فى مضمونه تنديدا من القيادة لما سمته عملية تحشيد وانتشار لقوات الدعم السريع فى العاصمة السودانية الخرطوم، وبعض من المناطق الأخرى، أبرزها محيط مدينة «مروي» بالولاية الشمالية. جوهر تحفظ القيادة العامة أن تلك التحركات جرت جميعها دون موافقة القيادة العامة، أو التنسيق معها على الأقل بحسب المتبع فى مثل تلك التحركات. قيادة قوات الدعم السريع لم تتأخر فى الرد، ونفت أن تكون تلك التحركات بغرض القيام بعمليات عسكرية، بل تبقى فى إطار القيام بمهامها الاعتيادية لتحقيق الأمن فى ربوع السودان كافة، خاصة ما يتعلق بمحاربة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية ومكافحة التهريب والجريمة العابرة للحدود، بحسب بيان قيادة قوات الدعم، وخصت جزءا رئيسيا من بيانها لنفى أى نية لديها للقيام بعمليات حربية فى مروى بالخصوص.
بالطبع لم تكن مثل تلك التحركات العسكرية، وتبادل البيانات السريع فى ساعات الفجر من الجانبين، لتحدث مثل تلك الحالة من التوتر المتبادل، مع حرص كل جانب على استخدام ألفاظ وعبارات منتقاة بدقة شديدة، إلا كونها تعكس حالة التوتر المكتوم بين «المكونين» العسكريين، رغم التحفظ على صحة استخدام هذا التعبير. فمن وجهة النظر الفنية والسياسية الوطنية نرى أنه لا يجوز استخدام مثل هذا المصطلح، وربما هذا هو لب إشكالية هذا المشهد الذى جعله يخرج على تلك الصورة. فالقيادة العامة للجيش السودانى تظل هى العنوان الرئيسى والوحيد ومقر الشرعية لجميع الهيئات العسكرية السودانية، ومن ضمنها قوات الدعم السريع، التى تظل هى الأخرى مكونا رئيسيا لتلك الشرعية، فيما حمل ضباطه وجنوده الكثير من المهام الوطنية، منذ بدء عملية الانتقال السياسيm تجاوبا مع آمال وطموحات الشارع السوداني، الذى يتوق منذ سنوات إلى مرحلة استقرارأمنى حقيقى مستدام.
لذلك وبدافع أصيل من الحرص على مصير الأشقاء فى السودان، يمكن الوقوف أمام تلك الأزمة واعتبارها تدق ناقوس خطر، مفاده باختصار أن تحركا أو تصرفا معزولا هنا أو هناك، فى ظل حالة ضبابية من غياب التوافق على ثوابت العمل العسكرى الوطني، قد يدفع إلى انزلاقات أمنية غير محسوبة فضلا عن وقوعها فى تلك المرحلة الزمنية الدقيقة. فالمفارقة أن تجرى مثل هذه التحركات المفاجئة بعد ساعات، من استقبال الفريق أول عبد الفتاح البرهان اتصالا من وزير الخارجية الأمريكية أنتونى بلينكن، يؤكد فيه الدعم الأمريكى للعملية السياسية فى السودان متعهدا بتقديم جميع المساعدات لتذليل العقبات التى تعترض إتمام مسار عملية انتقال السلطة. كما شهد نفس اليوم لقاء آخر جمع البرهان مع مبعوثة الاتحاد الأوروبى وسفير الاتحاد فى السودان، أكدا خلاله دعم الاتحاد لمختلف الأطراف السودانية للتوصل إلى اتفاق سياسى شامل. فى الوقت الذى تقف فيه دول عربية رئيسية، كشريك داعم طوال الوقت من أجل عبور إشكاليات وتناقضات المراحل الانتقالية المتعاقبة.
لهذا تبقى الآن الكرة فى الملعب السودانى بمكوناته المتعددة، التى صار لديها اليوم جدار متنوع أيضا من الداعمين، لديهم الإرادة والرغبة فى إنتاج مشهد سودانى يحافظ على مقدراته الوطنية، ويسمح له بلعب أدوار مطلوبة فى تعزيز منظومة الأمن الإقليمى لتلك المنطقة التى مازال أمامها الكثير من الجهد والعمل المنتظر. وانطلاقا من هذا الحرص على المستقبل السودانى المؤثر على أمن الإقليم، يجب الوقوف على بعض من جذور الأزمة الأخيرة التى اندلعت بين القيادة العامة للجيش وقيادة الدعم السريع، التى يرى كثير من المراقبين أنها تتمحور حول الخلاف على عملية «دمج» قوات الدعم السريع داخل القوات المسلحة السودانية. وهو ما تسبب فى تعثر الوصول إلى توافق خلال ورشة الإصلاح الأمنى والعسكري، التى انعقدت فى الخرطوم أخيرا فى سياق الوصول لاتفاق سياسي. فبحسب ما جرى فى كواليسها كانت هناك رؤيتان؛ قدم الجيش مقترحات تحدد فترة دمج قوات الدعم السريع بعامين فقط، وعام إضافى لإنهاء عمليات التسريح، بحيث تشمل عملية الدمج والتسريح أكثر من (100 ألف عسكري) بين ضباط وجنود ومقاتلين يتبعون للدعم السريع. فى المقابل تمسك الدعم السريع بأن تمتد فترة الدمج إلى 10 سنوات، كما يرى أن تكون القيادة على القوات بيد مجلس السيادة المدني، وهو ما رفضته القوات المسلحة التى ترى أن السيطرة يجب أن تكون للقائد العام للجيش لحين إجراء الانتخابات على الأقل.
خلاف من هذا النوع والبحث فى جوهره، يؤدى بالضرورة إلى التفتيش عن مساحات عدم الثقة، وتشكك الأطراف فى المستقبل، فضلا عن احتوائه على شكل من التنازع على السلطة. وهذا يخلق حالة احتقان بين المكونات المدنية، التى ترى أن هناك نمطا متكررا لافتعال الأزمات من أجل التباطؤ فى الوصول لحل شامل للعملية السياسية، ويقرأ معظمهم الأزمة الأخيرة باعتبارها أحد تجليات هذا الافتعال غير المبرر من وجهة نظرهم. فكما هناك من يستبعد وقوع مواجهة مسلحة بين القوتين الجيش والدعم السريع، فإن الأصوات السودانية المستقلة ترى أن التطور الحالى مرده لفشل المفاوضات حول دمج الدعم السريع، الذى شعر قادته بضعف موقفهم فحاولوا إدارة الأزمة على هذا النحو، ولم يكن تحريك قواته الأخير إلا تناغما مع هذا النمط من الأداء السياسى والأمني. وهو أمر بالغ الخطورة فى الوقت الذى ترى فيه القيادة العامة أن السعى لفرض أمر واقع جديد، وإجبار الجيش على قبوله حول مناطق العاصمة الاستراتيجية وغيرها، لن يمر ولن يحدث مادام جاء بتحركات منفردة من قيادة الدعم ولم يحط الجيش علما به قبل إنفاذه على هذا النحو.
التباطؤ فى بحث القضايا الجوهرية، لصالح الدخول فى مثل تلك المشاهد لن يفضى إلا لتشظى القرار على أقل تقدير، فضلا عن سيناريوهات ما هو أسوأ. ما يجعل العمل على وحدة المكون العسكرى والأمنى السوداني، من الأهمية تصدره الأولوية من أجل أمن السودان وضمانة لنجاح مستقبله السياسي.
نقلا عن جريدة الاهرام
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية