الاشتباك العسكرى الهندى الباكستانى الذى اندلع بشكل مفاجئ، حمل فى طياته العديد من الغرائب، أبرزها مسببات وتوقيت اللجوء لتفعيل الخيار العسكرى بين الدولتين اللتين تجهران بالعداء المتبادل طوال الوقت. فالجماعات المسلحة التى تتهمها الهند بأنها مدعومة من اسلام آباد (عسكر طيبة، جيش محمد)، سبق تحميلها مسئولية ارتكاب عديد من الهجمات داخل الشطر الهندى من «كشمير»، أكبر وأكثر خطورة من الهجوم الأخير، بل هناك ما هو داخل الدولة الهندية أشهرها «هجوم مومباي» 2008 الذى أسفر عن مقتل (166 شخصا). الوساطة السياسية عادة ما كانت تتدخل وتحصر الأمر فى معالجات ذات بعد أمنى واستخباراتي، لذلك فالمسبب والنمط هذه المرة ليس بجديد، مما جعل التصعيد الهندى العسكرى مثيرا للدهشة، فضلا عما استتبعه من إجراءات سريعة متتالية، وضعت الدولتين فى غضون ساعات فى وضعية «حالة الحرب» !
حالة الاحتقان القومى بين البلدين، ساهمت فى خلق «حالة انزلاق» نموذجية عبر تنفيذ عمليات عسكرية من كل طرف داخل حدود الدولة الأخري، متجاوزين فى ذلك حدود كشمير الذى استقر تاريخيا على اعتباره ساحة تصفية الخلافات بينهما. هذا بالتأكيد أثار غرابة من مدى السرعة والجاهزية للانتقال إلى هذه المرحلة، التى شهدت هجمات جوية وقصفا للوحدات العسكرية ومقار جيوش كلا البلدين. صاحب هذا التصعيد، مجموعة إجراءات منها إبعاد وسحب متبادل لممثلى البعثات الدبلوماسية خاصة العسكريين. لكن الأخطر بالتأكيد هو الإعلان الهندى عن تعليق العمل بمعاهدة مياه «نهر السند»، حيث بدا الأمر حينها وقد تكاملت عناصره فى صناعة مشهد حرب ممتدة متكاملة. لم تلحق الوساطة الدولية أو الإقليمية بهذا التسارع، وترددت الولايات المتحدة فى البداية، ربما تحت تأثير بعض التقارير التى لم تتوقع تلك الخطوات فى المدى الزمنى والتأثير ومسارح العمليات، لكنها وصلت فى النهاية ووضعت الإطار الذى سمح بإعلان وقف إطلاق النار. وفتح الباب أمام كلتا العاصمتين؛ أن يعلن كل منهما أنه حقق انتصارا، رغم اختلاف التسمية الخاصة بتلك النهاية. نيودلهى تطلق عليها تفاهم لـ«هدنة» وتقرر بأن المحادثات اللاحقة ستتناول فقط آلية تأمين وقف اطلاق النار، فيما تصفه إسلام آباد بـ«اتفاق» لوقف إطلاق النار والعمل العسكري، وتنتظر أن تشمل المحادثات أمر تعليق معاهدة مياه نهر السند.
المتغير الأساسى فى تلك الجولة الهندية الباكستانية؛ تمثل فى تراجع الاهتمام الدولى والإقليمى بالصراع العسكرى الذى يدور بين دولتين نوويتين، لصالح التفات مفاجئ مصحوب بالدهشة والإثارة الواسعة، بعد تكشف ظهور السلاح الصينى للمرة الأولى فيما تداولته الأخبار الخاصة باستخدام الجيش الباكستانى له فى المعارك، مواجها به السلاح الأمريكى والروسى الخاص بالهند. عاصفة غير متوقعة من الاهتمام سرقت الأضواء من أحداث الحرب، وسرعان ما جرت المقارنات على نحو واسع بين كفاءة السلاح الأمريكى بالتحديد، وبين نظيره الصينى الذى غزت صور ومقاطع استخدامه فى المعركة وسائل الإعلام الدولية، وتجاوزتها إلى منصات التواصل الاجتماعى التى سحبت المشهد برمته، واختزلته فى حالة التنافس والاستقطاب بين الولايات المتحدة والصين. حالة التباطؤ والعزوف عن التدخل من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب، انقلبت إلى تسارع فعال بعد تدخلات واضحة من أركان الدولة العميقة الأمريكية، التى استشعرت خطورة تردى الأوضاع، وعبرت عن ذلك فى عرض مجموعة من تقديرات الموقف، حملت ضرورة التحرك بهدف حصار هذه العاصفة، وعدم السماح بتمددها من خلال تنفيذ الجيش الباكستانى عمليات متوقعة بالسلاح الصيني، قد تحوز بانتشار غير مطلوب على شاكلة إسقاط باكستان الطائرات الهندية داخل أراضيها، حيث اعتُبر هذا خللا فادحا ألزم الولايات المتحدة بتغيير بوصلة خرائطها الزمنية بشكل مفاجئ.
الثابت أن ما جاء فى تقارير أجهزة الاستخبارات الأمريكية المختص منها بالشئون العسكرية، أوردت وكالة بلومبيرج بعضا مما جاء فيها، أهمها الارتفاع السريع للقيمة السوقية للأسلحة الصينية بعد أن أثبتت نجاحا لافتا فى الحرب القصيرة بين الهند وباكستان، وأن هذا الصراع الأخير يدفع إلى إعادة تقييم لقدرات السلاح الصينى بما يخالف المفاهيم السائدة بمحدودية قدراتها بالمقارنة بالأسلحة الغربية والروسية. أبرز النجاحات التى لفتت الانتباه بالتأكيد هى الطائرة الصينية من طراز (J – 10 C)، التى سجل بحقها أنها تمكنت من إسقاط طائرات (رافال) الفرنسية، وهذا دفع إلى تنامى سعرها لأكثر من ربع ثمنها السابق فى أسبوع، بعد نشر المقاطع المصورة التى نقلت ذلك على نطاق واسع. هذه التجربة القتالية العملية التى وقعت بشكل مفاجئ ساهمت فى صناعة ذلك المتغير، لكن أيضا مما يجب ذكره أن هذا الاشتباك يجرى للمرة الأولى وبشكل استثنائي، فالطائرة الصينية لم تخض تجارب قتالية من قبل ومهامها الرئيسية المعتمدة من جانب الجيش الصيني، مقصورة على القيام بدوريات فى مضيق تايوان، وتاريخها التشغيلى ظل محصورا فى دوريات التأمين البحرى الحدودي. لذلك فالشكوك مازالت حاضرة؛ حول أدائها فى مواجهة المقاتلات الأمريكية من طراز (F – 16) التى تشكل الرصيد الأكبر للقوة الجوية التايوانية مثلا. لاشك أن التطورات الأخيرة، وعنصر المفاجأة المصاحب لظهور تلك القدرات الصينية، يتجاوز تمكن طراز احدى طائراتها من جيل متوسط، من إثبات تمتعها بالتقنية القتالية العالية، بل من شأنه أن يرفع تلقائيا مبيعات بكين من الأسلحة خلال وقت قصير قادم. خاصة الصين قبل الصراع الهندى الباكستانى الأخير تحتل المرتبة الرابعة، كأكبر مصدر للأسلحة فى العالم، وإن ظلت تدور فى فلك عملاء من الدول ذات الموارد المالية المحدودة، هذه معادلات ترشحها المؤشرات الدولية أنها عرضة للتبدل السريع، فهناك فرص سانحة أكثر جاذبية للدخول إلى آفاق التعاون مع دول متوسطة وعالية القدرة المالية. الأجيال الجديدة التى تعكف الصين على انتاجها فى هدوء من طرازات الأسلحة المختلفة، قد تعيد تشكيل خريطة الإنتاج والشراكات التسليحية، التى من المعلوم أنها شراكات ذات طابع استراتيجى بالغ الأهمية، وهذا ما يبدو حرك مساحة كبيرة من القلق والترقب لدى الغرب، وفى مقدمتهم الولايات المتحدة.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية