عرفت مصر عبر تاريخها الطويل حكم الفراعنة أشباه الآلهة، والخلفاء والسلاطين وعجيبة العجائب السياسية المعروفة بالمماليك. شكلت هذه الخبرات موروث الخبرة والثقافة السياسية المصرية التى تخللت واستقرت فى مكامن عميقة مخفية فى العقول والنفسيات. لمصر الحديثة خبرة سياسية مختلفة، لكنها قصيرة العمر متقطعة ومتقلبة، ما أتاح للموروث العتيق فرصة أكبر لتشكيل الحاضر.
خبرتنا السياسية الموروثة تختلف كثيرا عما ورثته شعوب وحضارات أخرى. ترك الميراث الرومانى آثارا عميقة على الخبرة السياسية للشعوب الأوروبية، والمشاركة والتمثيل والتعددية التى ميزت النظم السياسية فى أوروبا الحديثة هى فى جانب كبير منها انعكاس للموروث الرومانى فى عقول ونفسيات الغربيين.
طوال القرون الخمسة من عمر الدولة الرومانية انتخب أثرياء روما من بينهم ملكا مدى الحياة، فى نظام فريد يجمع بين الملكية والجمهورية وحكم الأرستقراطية. تجاوز آخر ملوك روما فعزلته الطبقة الأرستقراطية، وأسسوا جمهورية، يحكمها اثنان من القناصل، ينتخبون لمدة عام واحد فقط، بمعرفة مجلس شيوخ يمثل فيه أثرياء روما. لم تكن الجمهورية فى روما نظاما ديمقراطيا بالمعانى المفهومة لدينا اليوم، فقد كان نظاما لحكم أصحاب الثروة، لكن دون استبعاد الفقراء الذين شاركوا فى جمعية عمومية تمثل كل المواطنين أصحاب الأملاك، لكن دون تمكينهم من مراكز السلطة السياسية والعسكرية. كلمة ريبوبليك اللاتينية تعنى الشئون العامة وليس عموم الناس كما يوحى المصطلح المعاصر، وهذا هو المعنى الأصلى للجمهورية الرومانية.
بعد الجمهورية جاءت الإمبراطورية على يد يوليوس قيصر، الذى كان قائدا عسكريا كبيرا مظفرا، لكنه رفض التنحى بعد انتهاء فترة خدمته كقائد عسكرى كما تقضى القوانين الرومانية. فى عام 49 قبل الميلاد دخل يوليوس قيصر بجيشه إلى روما، وحكم لخمس سنوات، تم اغتياله فى نهايتها، ليس على يد مناضلين من أجل الحرية والجمهورية، لكن بأيدى معاونيه الذين تحولوا إلى منافسين طامعين فى السلطة.
دخلت روما فى حرب أهلية لمدة عقدين من الزمان بين قتلة قيصر من ناحية، وتحالف ضم مارك أنطونيو أحد أكثر المقربين من قيصر وأوكتافيوس ابن قيصر بالتبني. انتصر هذا التحالف، لكن الصراع نشب بين مارك أنطونيو وأوكتافيوس، فهكذا هى صراعات السلطة ما تكاد تنتهى إلا لتبدأ من جديد. عند هذه النقطة يتقاطع تاريخ مصر مع تاريخ الدولة الرومانية.تحالف مارك أنطونيو مع كليوباترا ملكة مصر، وسعى لنقل مقر الإمبراطورية إلى مصر وعاصمتها الإسكندرية. خسرمارك أنطونيو أسطوله فى معركة أكتيوم، وتحولت مصر إلى ولاية رومانية. احتلت معركة أكتيوم موقعا بارزا فى مسرحية مصرع كليوباترا التى كتبها أحمد شوقى، التى نعى فيها استقلال مصر والملكة المصرية، مع أن كليوباترا كانت من سلالة الغزاة الذين أتى بهم الإسكندر الأكبر قبل ثلاثة قرون.
لم يسترجع المنتصرون النظام الجمهورى لروما، فقد أعلن أكتافيوس نفسه إمبراطورا، وجعل من عائلته حاكمة للإمبراطورية. انتهى نظام القناصل الذين يتناوبون على السلطة، وأصبحت هناك سلالة مالكة تتوارث الحكم. غير أن العائلات الثرية واصلت البقاء، وحافظت على نفوذها، وظل مجلس الشيوخ باقيا تمارس من خلاله الأرستقراطية نوعا من الموازنة لسلطة الإمبراطور التى لم تتحول أبدا إلى حكم سلطانى مطلق على الطريقة الشرقية، بفضل الدور الذى لعبته طبقة الأثرياء الأرستقراطية فى أنحاء الإمبراطورية المترامية الأطراف.
كان الأثرياء فى عاصمة الإمبراطورية هم الأكثر حظا بحكم القرب من الإمبراطور ومجلس الشيوخ، أما فى المدن والبلدات الرومانية الصغيرة فقد كانت هناك جمعية عامة ومجلس بلدى يتوليان إدارة المدينة، وكان إظهار الكرم تجاه البلدة عبر إقامة الإنشاءات والاحتفالات هو أحد أهم أساليب كسب المكانة والتنافس بين أعضاء النخبة، الذين يرجع إليهم الفضل فى بناء المسارح والأسواق الكثيرة المنتشرة فى المدن الرومانية حول المتوسط. فى كل مدينة كانت هناك جمعية مفتوحة لكل الذكور البالغين أصحاب حد مقرر من الثروة، أما عضوية المجلس البلدى فكانت أكثر تدقيقا، ومحصورة فى 200-300 شخص الأكثر ثراء، والذين تنافسوا على تولى مناصب إدارة المدينة. إنه نظام يحكم فيه أهل الثروة لكن بالانتخاب، فتحت رعاية المجلس يتم تحصيل جمارك ورسوم تستخدم لتغطية نفقات المدينة، ودفع تكلفة الشرطة، وتوفير كمية مناسبة من القمح تضمن توفر الخبز بأسعار مناسبة، وصيانة نظام الصرف، والمبانى العامة والشوارع وتوفير الوقود للحمامات العامة، ومراقبة الموازين، فيما يتحمل أعضاء المجلس بشكل جماعى مسئولية جمع ودفع الجزية المقررة لروما، وتوفير ما تحتاجه الإمبراطورية من مجندين للجيش أو لإصلاح الطرق.
أبقى الرومان على النخب القديمة الحاكمة فى المقاطعات المفتوحة طالما كفوا عن المقاومة، وقبلوا بالتعاون مع الإمبراطورية، فتم توسيع قاعدة تأييد الإمبراطورية، وتحويل النخب المحلية فى الأقاليم المفتوحة إلى نخبة حاكمة تابعة ضمن الإمبراطورية، فشكل هؤلاء طبقة النبلاء ملاك الأرض، الذين تنافسوا على إثبات جدارتهم بمكانتهم عبر إنفاق الوقت والمال فى تنظيم الاحتفالات وتقديم الخدمات العامة.
النخب من الأرستقراطية الثرية، ونظام الجمعيات والمجالس التى تم الإبقاء عليها فعالة لعدة قرون متصلة، والإدارة الذاتية للمدن على يد نخب محلية تمتعت بقدر كبير من الاستقلال الذاتى ضمن الإمبراطورية، والانتخاب الدورى لأعضاء المجالس وشاغلى المناصب العامة الرئيسية، وتولى المناصب لفترات محددة؛ كل هذه مؤسسات وتقاليد شكلت الخبرة والثقافة السياسية الغربية، فيما كان لدى شعوب الشرق، قبل الإسلام وبعده، طرق مخالفة فى ممارسة الحكم والإدارة.
نقلًا عن الأهرام 27 يوليو 2023