مؤسسات الإدارة والسياسة والاقتصاد هى أهم ما يميز المجتمعات والبلاد المتقدمة. الأمور هناك تديرها مؤسسات، تعمل وفقا لقواعد مكتوبة مستقرة، يتم تطبيقها بنفس الطريقة، بغض النظر عن شخص القائمين عليها والمتعاملين معها. المؤسسة كيان لا شخصى، يسرى هذا على جهاز الإدارة الحكومية ومؤسسات التشريع والتنفيذ والتقاضي.المؤسسات خارج بلاد الغرب أضعف والأشخاص أكثر قوة. هذا نتيجة لعوامل كثيرة، بما فيها اختلاف الثقافات.
العالم الحديث هو نتيجة لانتشار مؤسسات الغرب إلى باقى أنحاء العالم. حقق الغرب قفزة كبرى فى إنتاج الثروة والسيطرة على الطبيعة وبناء قوة التدمير المسلحة وتحرير الفرد ورفع مستوى المعيشة. انبهر العالم غير الغربى بما حققه الغربيون وتمنوا لو أصبحوا مثلهم، أغنياء أقوياء مسيطرين أحرارا. تاريخ العالم الحديث فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط هو تاريخ استعارة المؤسسات الغربية، وتكييفها مع الظروف المحلية. فى الهند كما فى روسيا والصين ومصر والبرازيل تجارب مختلفة لاستيراد وتكييف وتوطين المؤسسات الغربية. درجات النجاح المتفاوتة التى حققتها البلاد المختلفة هى فى الحقيقة درجات مختلفة من النجاح فى استيراد وتكييف وتوطين المؤسسات الغربية.
كيف يتصرف الفرد فى المجتمع غير الغربى عندما يجد نفسه مطلوبا منه إدارة هذه المؤسسات المستوردة، هل يديرها بنفس الطريقة التى يديرها بها نظيره الغربي؟ ماذا يفعل المواطن الغربى عندما يجد نفسه مطالبا بالتعامل مع هذه المؤسسات المستحدثة، هل يتعامل معها بنفس الطريقة التى يتعامل بها الفرد فى الغرب أم بطريقة أخرى؟
يدار الجهاز الإدارى والمؤسسات العامة فى الغرب وفقا لمعايير العقلانية والكفاءة المنصوص عليها فى دساتير وقوانين ولوائح تطبق بمساواة على كل المواطنين. أطلق عالم الاجتماع الكبير ماكس فيبر مصطلح العقلانية البيروقراطية rational bureaucratic للدلالة على النظم السائدة فى الغرب الحديث. ماذا لو غادرنا السياق الغربى، وانتقلنا إلى البلاد التى استعارت من الغرب مؤسساته وطرائقه، هل تعمل المؤسسات خارج السياق الغربى بنفس الطريقة التى تعمل بها فى السياق الذى أتت منه؟ كيف يتصرف الموظف العام المسئول عن إدارة مصلحة حكومية. هل يطبق القانون وقواعد عمل المؤسسة بحسن نية، أم يفسرها بمرونة تسمح له بتحقيق مكسب من نوع ما. إلى أى مدى تتداخل العوامل والمصالح الشخصية فى قراراته؟ماذا لو احتاج أحد معارفه خدمة من المؤسسة التى يديرها، هل يوجهه للمكتب المختص ليتعامل معه كباقى المواطنين؟ فى كثير من البلاد النامية لا يكفى أن تعرف المؤسسة التى عليك التوجه إليها لقضاء مصالحك، فالأهم هو أن يكون لديك واسطة يسهل الأمور.كيف يتصرف المواطن طالب الخدمة الحكومية لو له مصلحة يريد إنهاءها فى مصلحة حكومية يعمل فيها أحد معارفه، ما الذى يتوقعه من قريبه الموظف العام، وكيف يرى الأصدقاء والأقارب موظفا عاما يمتنع عن تقديم خدمات خاصة لمعارفه بدعوى المساواة بين المواطنين.
فى الغرب توجد مؤسسات تمارس الرقابة على السلطات وتطبق القانون. يطبق القاضى نفس القانون على المتقاضين بغض النظر عن الثروة والمنصب والمكانة. غير أن إصدار حكم فى غير مصلحة أصحاب الشأن قد يحتاج إلى ثقافة وشجاعة خاصة. ماذا لو غابت الشجاعة، أو شعر القاضى بأنه قد يدفع ثمن حكم أصدره؟ هل يتصرف بنفس الطريقة، أم يحاول المواءمة بين مصلحته ومخاوفه وقواعد القانون؟
المدرسة والجامعة الحديثة فى بلاد الغرب هى مؤسسات لإنتاج المعرفة وتحصيلها. لكن الطلب على المعرفة محدود جدا فى بلاد كثيرة، يهتم الناس فيها بالحصول على شهادة تضمن لهم وظيفة ووجاهة اجتماعية. فهل مؤسسات التعليم هى نفسها فى الحالتين؟
لم يكن هناك انتخابات قبل أن تقرر بلاد غربية اللجوء إلى الصندوق لاختيار الحكام. لم يكن هناك أحزاب سياسية قبل ظهور الأحزاب فى بلاد الغرب. انتخاب ممثلين للشعب لمراقبة طريقة تصرف الحاكم فى الضرائب التى يجمعها من المواطنين هى ممارسة غربية لم تعرفها الشعوب خارج أوروبا قبل ذلك. الصحافة كوسيط لنقل الأخبار والترويج للآراء هى أيضا ممارسة بدأت أولا فى الغرب.
يذهب المواطن فى العالم الغربى لصندوق الانتخابات لتحقيق عدة أهداف: التعبير عن رأيه، ممارسة حقوقه السياسية، أداء واجبه المدنى، انتداب ممثل يعبر عن مصالحه، اختيار مرشح يتشابه معه فى الأفكار والأيديولوجيا. لماذا يذهب الناخب فى العالم غير الغربى إلى صندوق الانتخابات؟ هل لنفس الأسباب والدوافع التى تحرك الناخب الغربى؟ هل يريد تحقيق أهداف مشابهة، أم أن له فى الانتخابات مآرب أخرى؟ هل يتوقع من ممثله فى البرلمان التصويت لسياسات معينة، أم يفضل لو أنه توسط لابنه للحصول على وظيفة حكومية؟ تبقى البيروقراطية والانتخابات والمحاكم والمدارس والجامعات قائمة فى كل البلاد، لكنها لا تقوم بالضبط بنفس الدور الذى تقوم به فى البلاد التى أتت منها. المؤسسات ليست نصوصا فى الدساتير والقوانين، ولكنها أيضا ثقافة القائمين على هذه المؤسسات والمتعاملين معها. نصوص القوانين والدساتير هى بيوت خالية تنتظر من يسكنها، حتى يأتى الناس فيبثون فى الهياكل حياة وروحا مستمدة من ثقافتهم. لو تبنى الناس فى بلد أفريقى دستور الدنمارك فلن تصبح لدينا دنمارك ثانية.الدرجات المختلفة من تحقيق النهضة والتقدم خارج الغرب هى تعبير عن درجات مختلفة من النجاح فى توطين وتكييف المؤسسات الغربية للسياق والثقافة الوطنية.