الإصلاح لا يأتى إلا بعد أزمة. الإصلاح تغيير. يفضل الأفراد التغيير ولو من باب التخلص من الملل، لكن الدول والمؤسسات لا تحب التغيير، تجنبا للمخاطر، فلا داعى للمخاطرة مادامت الأمور تسير بشكل طيب، فقد ينتهى بك الأمر وقد أفسدت ما كنت تحاول إصلاحه.
الإصلاح يصبح ضرورة عند الدخول فى أزمة. الأزمات تحدث.هذه ليست مشكلة. المهم هو التصرف بطريقة مناسبة للخروج منها بلا رجعة. بعض الدول النامية لا تخرج من أزمة اقتصادية إلا لتدخل فى واحدة جديدة، كما لو كانت تعيش فى أزمة واحدة كبيرة ممتدة. الأرجنتين وفنزويلا هما من بين هذه الدول. هناك على الجانب الآخر دول تستجمع عزيمتها، وتنفذ إصلاحا عميقا يخرجها من الأزمة مرة واحدة، وإلى فترة طويلة تالية. لن أتحدث عن دول الأزمة فلدينا معرفة كافية بهذه الحالة، لكنى سأتحدث عن الهند، هذا العملاق الاقتصادى، صاحب قصة النجاح المذهلة التى أتت بعد سنوات من التعثر والفشل.
اتبعت الهند منذ استقلالها فى نهاية الأربعينيات سياسات اشتراكية تشبه تلك التى طبقناها فى مصر. تدخلت الدولة بقوة فى الاقتصاد وفرضت سيطرتها عليه. بحلول السبعينيات كانت أعراض التأزم ظاهرة على الاقتصاد الهندي. فى سنوات الثمانينيات طبقت الهند إصلاحات جزئية، شبيهة بالتى طبقناها فى مصر فى السبعينيات. ما إن انتهت الثمانينيات إلا وكانت الهند تواجه عجزا فى كل المؤشرات. حدث هذا بينما كان الاتحاد السوفيتى، الشريك التجارى والعسكرى الأهم للهند يتفكك، فى حين كانت الصين، المنافس والتهديد الإستراتيجى الرئيس للهند،تشهد نهضة مذهلة منذ بدأت تنفيذ الإصلاحات فى عام 1979.
الخوف من الإصلاح الشامل، وضغوط جماعات المصالح القوية الكامنة فى أوساط البيروقراطية الهندية وحزب المؤتمر الحاكم منعت تحقيق الإصلاح الشامل، فكانت النتيجة الدخول فى أزمة لم يعد ينفع معها اتباع الحلول الجزئية القديمة. وصلت الأزمة إلى ذروتها فى عام 1991. فى شهر يناير من هذا العام كان الاحتياطى النقدى فى الهند لا يكفى سوى لتغطية الواردات لمدة 13 يوما فقط، بعد هروب رأس المال من الاقتصاد المأزوم، وبعد أن بلغ العجز بأنواعه المختلفة مستويات كارثية.
كان على الهند أن تتعامل جديا مع الوضع الجديد الذى باتت فيه المخاطر تتهددها أمنيا واستراتيجيا واقتصاديا، فأدركت أنه لا مفر من إصلاح شامل، فالأمر أكبر من أن يحتمل الحلول الجزئية والترقيع.لم يكن أمام الهند سوى الحصول على قرض من صندوق النقد الدولى، مصحوبا بالروشتة الإصلاحية التقليدية التى يطبقها البنك مع كل من يلجأ إليه. تم تخفيض سعر صرف العملة الهندية، ورفع سعر الفائدة، وجرى إحداث خفض كبير فى نفقات الحكومة وألغى الدعم المقدم للشركات الحكومية. تم تنشيط وإصلاح بورصة الأوراق المالية، وجرى الحد من تدخل الدولة فى الاقتصاد، وتم إلغاء نظام التراخيص المعقد الذى عرقل تأسيس المشروعات.
كانت العولمة تتسارع، وكانت فى الأسواق العالمية أموال كثيرة متاحة للاستثمار والإقراض، بشرط توافر الشروط المناسبة. كانت الأسواق الكبيرة والمستهلكون الأثرياء فى الغرب شرهين للحصول على منتجات رخيصة، وهى الفرصة التى استفادت منها الصين قبل ذلك، وكان على الهنداللحاق بهذا القطار هى الأخرى.
بدأت السياسة الاقتصادية الجديدة فى الهند فى يوليو 1991، فتم تخفيف القيود على إصدار الرخص الصناعية، واتخذت إجراءات لجذب الاستثمار المباشر، وأصبح من حق الاستثمار الأجنبى امتلاك حتى 51% من المشروع، بعد أن كان ممنوعا من امتلاك أكثر من 40% من أى مشروع. تم تشجيع الاستثمار فى أدوات الدين العام، أى فى أذون وسندات الخزانة، وجرى تخفيض الرسوم الجمركية لتخفيض تكلفة حصول المصانع على مستلزمات الإنتاج والماكينات، فبعد أن كانت الرسوم الجمركية فى الهند تصل إلى 400%، تم الوصول بها الآن إلى أقل من 10%.
تم تقليص دور القطاع العام، واقتصرت القطاعات التى تسيطر عليها الحكومة فى قطاعات ثلاثة، هى الطائرات والسفن الحربية، والطاقة النووية، والسكك الحديدية. خففت القيود على المشروعات الصناعية، وروجعت القيود التى تمنع إنشاء المصانع فى مناطق معينة.لم تكن الهند قبل إصلاحات التسعينيات معروفة بالتميز فى أى مجالات صناعية معينة، فأصبحت بعد إصلاحات التسعينيات لاعبا رئيسا فى صناعات البرمجيات والأدوية والكيماويات.
تم إصلاح قوانين الإفلاس، بحيث أصبح من السهل استعادة الحقوق لدى المتعثرين. إن قيمة هذا التسهيل شديدة الأهمية لأنه عندما يكون من الصعب الحصول على الحقوق فإن المقرضين يترددون بشدة قبل تقديم القروض خوفا من تعثر المقترضين، فتتعطل الأعمال، فالقاعدة الذهبية فى الاستثمار هى أنه كلما كان الخروج من السوق سهلا، تشجع الناس على الدخول إليه، دون خوف من أن «يغرزوا»، فلا هم يكسبون ولا هم قادرون على وقف الخسارة والخروج من السوق.
ضمن هذه الحزمة الواسعة من الإصلاحات يصبح تخفيض سعر الصرف نعمة، لا نقمة. تخفيض سعر العملة الوطنية أعاد رءوس الأموال الهاربة، وأتاح للصناعة الهندية قدرات تصديرية وتنافسية فى السوق العالمية. ظهرت النتائج الإيجابية لهذه الإصلاحات بسرعة كبيرة لأن حزمة الإصلاحات الهندية كانت متكاملة، بحيث أصبح سعر العملة المنخفض حافزا للنمو، وليس أداة لإفقار المواطنين.
فرصة الإصلاح موجودة دائما، فأوان الإصلاح لا يفوت أبدا، وهناك دروس كثيرة نتعلمها من الهنود.