فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة للعام الثانى على التوالى دعا الرئيس الأمريكى بايدن إلى إصلاح مجلس الأمن الدولى، وأشار إلى أن بلاده تجرى مشاورات مع الدول المختلفة لبلورة مقترحات عملية تفضى إلى إصلاح المجلس، خاصة توسيع العضوية فيه وإدخال دول جديدة. ولاشك أن هناك دوافع عديدة وراء المطالبة الأمريكية بإصلاح المجلس أبرزها العمل على تحييد الفيتو الروسى والصينى فى المجلس بعد أن توسعت الدولتان فى استخدامه خلال السنوات الأخيرة فى الكثير من الأزمات التى انخرطت فيها بشكل مباشر أو غير مباشر مما أدى إلى استبعاد مجلس الأمن من معالجة تلك الأزمات أو تسويتها، وكانت الحرب الروسية الأوكرانية أبرز مثال على ذلك حيث تم استبعاد مجلس الأمن منها تماما بسبب الفيتو الروسى. كما تستهدف أمريكا أيضا كسب تعاطف الدول الأخرى فى قارات العالم المختلفة والتى دعت مرارا لإصلاح المجلس، فى إطار صراع النفوذ والتنافس مع روسيا والصين، خاصة فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأيضا إظهار روسيا بأنها المعارض لعملية الإصلاح وأنها تقف ضد إرادة المجتمع الدولى.
ورغم مرور عام على دعوة بايدن لإصلاح المجلس فى الدورة الــ77 للجمعية العامة، إلا أن أمريكا لم تتحرك خطوة واحدة فى اتجاه الإصلاح أو إجراء المشاورات وبلورة الاقتراحات، مما يعنى أنها دعوة سياسية أكثر منها رغبة وإرادة حقيقية فى الإصلاح. فأمريكا مثل الدول الأخرى صاحبة الفيتو (روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا)، لديها مصلحة فى الاحتفاظ بالمكتسبات والمزايا التى حققتها بعد انتصارها فى الحرب العالمية الثانية ومنها حق الفيتو فى مجلس الأمن والذى يمكنها من الاعتراض على أى قرار يصدره المجلس لا يتوافق مع مصالحها، ومن ثم لن تتخلى بسهولة عن هذا الحق الذى تم تكريسه فى ميثاق الأمم المتحدة. كما أن دعوة الإصلاح تأتى فى سياق حدة التنافس والاستقطاب الحاد فى النظام الدولى بين أمريكا وحلفائها وبين روسيا على خلفية الحرب الأوكرانية ، وبينها وبين الصين على خلفية قضايا عديدة منها تايوان والحرب الاقتصادية والسيبرانية بين البلدين. وبالتالى فى ظل الحروب بالوكالة بين القوى الكبرى تبرز أهمية الفيتو كسلاح لها فى حماية مصالحها أو حماية الدول والأطراف التى تدعمها، خاصة فى الحروب الأهلية المنتشرة فى كثير من دول العالم، وبالذات فى إفريقيا وآسيا، كما حدث فى سوريا والسودان وليبيا وغيرها، بل أن أمريكا استخدمت الفيتو مئات المرات كمظلة لحماية حليفتها إسرائيل لمنع صدور أى قرار يدينها بسبب عدوانها المستمر على الشعب الفلسطينى وهو ما شجع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تحدى إرادة المجتمع الدولى والمضى قدما فى سياسة فرض الأمر الواقع والاعتداء على الشعب الفلسطينى ومنع حصوله على حقوقه المشروعة وعلى رأسها دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وكان من أبرز تداعيات الاستقطاب الدولى بين القوى الكبرى فى النظام الدولى، هو فشل مجلس الأمن الدولى فى معالجة أو تسوية الغالبية الساحقة من النزاعات والصراعات المسلحة خلال العقدين الماضيين، سواء بين الدول وبعضها البعض، كما حدث فى الحرب الروسية الأوكرانية أو الحرب الخاطفة بين أذربيجان وأرمينيا فى عام 2020، أو الصراع بين الهند والصين، أو الحروب الأهلية والصراعات الداخلية خاصة فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وكان آخرها التطورات فى النيجر والجابون وقبلها السودان وغيرها، نظرا لأن هذه الدول هى ساحة لصراع النفوذ والمصالح بين الدول الكبرى. كما أن المجلس أيضا فشل فى معالجة مصادر التهديد غير التقليدية أو غير العسكرية للسلم الدولى وعلى رأسها الأوبئة مثل كورونا والتغيرات المناخية والذكاء الاصطناعى وصراع المياه على الأنهار الدولية بسب رفض الدول الكبرى اعتبارها تهديدا للسلم والأمن الدولى.
وكانت المحصلة أن الدول الكبرى صاحبة الفيتو، والتى كان يقع على عاتقها العمل على حماية السلم والأمن الدولى، دخلت فى استقطاب حاد غير مسبوق منذ الحرب الباردة، وانعكس ذلك سلبا على فشل مجلس الأمن فى أداء دوره بفاعلية فى حفظ السلم والأمن الدوليين. كما أنه انعكس أيضا فى تراجع مفهوم العمل الجماعى الدولى والمسئولية التضامنية العالمية، خاصة بين الدول الكبرى لمواجهات التحديات الكونية المتزايدة، مثل التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية والأوبئة العالمية والأمن الغذائى وغيرها من التحديات التى تستهدف كل الدول وكل مناطق العالم وتتطلب ضرورة تعظيم العمل الجماعى الدولى وسرعة إصلاح الأمم المتحدة خاصة مجلس الأمن الدولى.
وبالتالى رغم ضرورات إصلاح المجلس سواء ترشيد استخدام الفيتو أو توسيع العضوية ليضم دولا جديدة تتمتع بعضوية دائمة مثل اليابان وألمانيا والهند ومصر والبرازيل وغيرها، ليكون أكثر فاعلية فى حفظ السلم الدولى وليكون أكثر تمثيلا للمجتمع الدولى، إلا أن عملية الإصلاح تواجه تحديات كبيرة وتتطلب بشكل اساسى أولا التوافق بين الدول الكبرى صاحبة الفيتو، وأيضا بناء توافق وإجماع عالمى للضغط على الدول الكبرى لدفعها نحو قبول الإصلاح. وثانيا: تتطلب التوافق بين الدول الأخرى حول من له حق عضوية المجلس ومعايير ذلك، وهو أمر يصعب تحقيقه حاليا بسبب الاستقطاب الحاد بين الدول الكبرى وبسبب التباين فى المواقف بين الدول المختلفة حول من له حق الانضمام فى ظل التضارب فى المصالح.