نجحت أمريكا فى نزع فتيل الانفجار وسيناريو الحرب الشاملة بين الهند وباكستان عقب الأحداث المتسارعة وارتفاع منسوب التوتر والتصعيد بينهما خلال الأسبوعين الماضيين, عقب الهجوم على سياح هنود فى كشمير الهندية, وكادت تهدد بانزلاق الأمور إلى الحرب الشاملة بعد أن لجأ البلدان إلى القصف المتبادل بالصواريخ والطائرات الحربية والطائرات المسيرة وتبنى سياسة حافة الهاوية. فقد نجح الرئيس ترامب فى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بشكل فورى بين البلدين, ووقف كل أشكال التصعيد وهو ما يعكس دور أمريكا وعلاقتها القوية بالبلدين, ومحاولات الرئيس ترامب بأن يظهر أنه رجل سلام فى العالم, وأنه قادر على حسم الأمور, وهو ما يعد إنجازا له فى ظل تعثر مساعيه فى وقف الحرب فى أوكرانيا.
ورغم أن الجولة الحالية من المواجهة بين البلدين هى الأعنف منذ عام 1999, وكادت تشتعل حرب شاملة بينهما, إلا أن هناك عدة عوامل تدفع البلدين إلى تجنب سيناريو الحرب الشاملة:
أولا: المحدد العسكرى المتمثل فى توازن الردع النووى بين البلدين, فرغم التفاوت الكبير بينهما فى الأسلحة التقليدية مثل الدبابات والطائرات والصواريخ ومنظومات الدفاع الجوى وعدد أفراد الجيش, لصالح الهند, إلا أنهما تقريبا متساويان فى عدد الأسلحة النووية, حيث تمتلك كل منهما 170 رأسا نوويا, ولديهما الصواريخ الباليستية القادرة على حمل تلك القنابل, وهو ما يشكل عامل ردع, فلكل منهما القدرة على تحمل الضربة النووية الأولى وتوجيه ضربة للطرف الآخر, ولاشك فى أن اللجوء إلى الأسلحة النووية سيكون له تداعيات خطيرة من حيث عدد الضحايا والذى قد يصل إلى مقتل مائة مليون شخص وفقا للتقديرات إضافة إلى الخسائر المادية. وهو ما يجعل خيار الحرب الشاملة ذا تكلفة باهظة لا يمكن أن يتحملها اى من البلدين.
ثانيا: المحدد الاقتصادى, حيث يشكل الاقتصاد عاملا ضاغطا على كلا البلدين فى عدم الاتجاه إلى الحرب الشاملة, فالهند لديها تجربة تنموية بارزة وحققت إنجازات اقتصادية ضخمة خلال السنوات الماضية, حيث أصبحت تحتل المرتبة الخامسة فى الاقتصاد العالمى بعد أن أزاحت بريطانيا, كما أنها عضو فى مجموعة العشرين, وتجمع بريكس, وتسعى لأن تكون قوة اقتصادية عالميا, وبالتالى انجرافها إلى حرب شاملة مع باكستان سيمثل عائقا أمام طموحاتها الاقتصادية ويستنزفها وقد تضيع تلك المكتسبات. وفى المقابل فإن التحديات الاقتصادية التى تواجهها باكستان تجعل منها عاملا ضاغطا عليها باتجاه عدم الانجرار لحرب شاملة, لأن تلك الحرب ستفاقم من التدهور الاقتصادى.
ثالثا: العامل الخارجى, شكلت الضغوط الإقليمية والدولية على كلا البلدين عاملا مهما فى كبح اندفاع البلدين نحو الحرب الشاملة وممارسة ضبط النفس, خاصة أن أمريكا التى تتضامن مع الهند, والصين التى تتضامن مع باكستان, حريصتان على منع اندلاع حرب شاملة فى هذه المنطقة الحيوية من العالم, فأى حرب ستؤثر سلبا على مشروع الصين الضخم وهو مبادرة الحزام والطريق والذى يمر عبر باكستان, كما أن الحرب ستعيق أيضا مشروع الممر الذى طرحه الرئيس بايدن ويبدأ من الهند ويصل إلى أوروبا مرورا بإسرائيل. كما أن روسيا لعبت دورا فى الوساطة بين البلدين. ورغم أن تجربة التدخلات الخارجية غالبا ما تكون عاملا سلبيا فى إزكاء الصراعات والحروب فى ظل حروب الوكالة بين القوى الكبرى, وتحول الصراع بين البلدين لساحة لتجربة الأسلحة الأمريكية والصينية, إلا من مصلحة الجميع عدم اندلاع حرب شاملة بين الهند وباكستان لن يتحملها العالم مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية, هو ما جعل أمريكا تتدخل بسرعة لوقف التصعيد بين البلدين.
رابعا: المواجهات السابقة بينهما, فقد شهدت الدولتان العديد من الحروب بينهما منذ عام 1947, وكانت حروبا محدودة وخاطفة, كما أن المواجهات بينهما على خلفية مسألة كشمير تمت السيطرة عليها, وكان أخرها المواجهة فى 2019, واستطاع البلدان السيطرة على الأمور, ولذا جاء التصعيد الأخير مشابها لما حدث فى عام 2019, خاصة فى ظل مخاطر الحرب الشاملة وامتلاك البلدين الأسلحة النووية.
لاشك فى أن ارتفاع منسوب التوتر والتصعيد الأخير بين الهند وباكستان, يعكس حدة الاستقطاب والاحتقان بين البلدين وأن الأوضاع بينهما بالفعل على سطح صفيح ساخن, لكن هذه الجولة من التوتر والمواجهات على خلفية مشكلة كشمير, جاءت فى سياق حالة العسكرة التى تشهدها العلاقات الدولية وحالة الخلل فى النظام الدولى والاستقطاب الحاد بين القوى الكبرى, فى إطار الصراع على بنية النظام الدولى, ونزوع الدول إلى اللجوء إلى القوة العسكرية لإدارة وحل خلافاتها سواء السياسية او الحدودية, فى ظل الخلل فى النظام القانوى الدولى واستبعاد مجلس الأمن تماما من إدارة الصراعات الدولية وحلها بالطرق السلمية, نتيجة لانخراط القوى الكبرى صاحبة الفيتو فى مجلس الأمن فى تلك الصراعات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر, مما يدفع إلى النزوع نحو الخيارات العسكرية, وهو ما يعكسه سباق التسلح العالمى الرهيب, حيث بلغ الإنفاق العسكرى العالمى العام الماضى 2.7 تريليون دولار.
من المهم أن يكون هناك تحرك سريع وفعال من جانب البلدين والأمم المتحدة لإزالة الصراع التاريخى المزمن بينهما من جذوره، خاصة حل مشكلة كشمير التى تظل جرحا غائرا بين البلدين وتهدد باندلاع المواجهات بينهما كل فترة.