جاء فى الجزء الأول من كتاب «انتصار أكتوبر فى الوثائق الإسرائيلية»، ترجمة نصية كاملة لجلسة المشاورات التى انعقدت بمكتب رئيسة الوزراء يوم 7 أكتوبر 1973 فى الساعة الثانية وخمسين دقيقة ظهرا. الوثيقة تحمل تصنيف (سرى للغاية)، وقد ضمت رئيسة الوزراء جولدا مائير ونائبها يجال آلون، والوزير يسرائيل جاليلى ووزير الدفاع موشيه ديان وآخرين. الواضح من سياق ما دار بالجلسة؛ أنها كانت مخصصة للاستماع إلى وزير الدفاع وهو يقدم أمام الحضور تقييما للوضع بعد 24 ساعة أولى من عمر الحرب، خاصة أنه استهل حديثه أمام الحضور، بأنه قام بزيارة الجبهة الشمالية (الجولان) وللتو كان عائدا من الجبهة الجنوبية (سيناء). ما ذكر فى إفادة موشيه ديان نصا: فى الجبهة الجنوبية؛ أقترح أن نرسى خطا على «ممر متلا».
سنتخلى عن خط القناة، ونتثبت عند خط المضايق على بعد ثلاثين أو عدة كيلومترات من القناة. أقترح أن نصدر أمرا بإخلاء المواقع التى لا أمل فى الوصول إليها، أما الأماكن التى يمكن إخلاؤها فسنخليها. الأماكن التى يستحيل إخلاؤها سنبقى المصابين، وإذا قرروا الاستسلام فليستسلموا. ينبغى أن نبلغهم بأننا لا يمكننا الوصول إليكم. حاولوا كسر الحصار أو استسلموا. هناك أربعة أو خمسة مواقع على هذا النحو، وهناك مئات من الدبابات المصرية أصبحت موجودة فى الضفة الشرقية، وأى محاولة للوصول إلى تلك المواقع، هى بمنزلة سحق للدبابات. ينبغى لنا أن نخلى ذلك الخط دون أمل فى الرجوع إليه، بل الانسحاب إلى خط المضايق. الحرب ستستمر، خط ممر متلا له مزايا، لكن له أيضا عيوب، أما خط القناة فلا أمل فيه. والآن فيما يخص موازين القوى، ليس هذا هو الوقت المناسب لمحاسبة النفس.
إننى لم أقدر جيدا قوة العدو، ولا قدراته القتالية، بينما بالغت فى تمجيد قواتنا وقدرتها على الصمود. نواجه مشكلة تتعلق باختلال شديد فى توازن القوى، إنهم يقاتلون بشكل جيد ولديهم مظلة جيدة من الصواريخ، فما العمل؟. بعد أن انفض هذا الاجتماع نحو الرابعة والنصف عصرا، عاد ليلتئم مرة أخرى فى نفس اليوم قبيل دقائق من منتصف الليل 23.50، وأوردت ما جاء به وثيقة تالية تحمل تصنيف (سرى للغاية) أيضا، انضم هذه المرة للجلسة الوزيران بنحاس سابير وإسحاق رابين. وذكر بالوثيقة أن هذا النقاش جرى بعد عودة الأخير من زيارة للجبهة الجنوبية، رافقه فيها رئيس الأركان. جاءت إفادة رابين نصا: بأنه كان لنا لقاء بجميع قادة الفرق العسكرية، فى أم خشيب. هناك ثلاث فرق، الفرقة الشمالية ـ بيرن، والفرقة الجنوبية ـ ألبرت، والفرقة الوسطى ـ إريك. فرقة ألبرت تكبدت العديد من الخسائر، وأنا هنا لا أتقيد بأرقام، كثير من الدبابات غرقت فى الوحل، حيث فقدوا قرابة 150 دبابة. بحسب التقديرات فإن قوتنا حتى صباح الغد سيبلغ قوامها 650 دبابة.
وحول السؤال: ما الوضع هناك؟ كل ما يتعلق بشأن القتلى والجرحى هو أمر معقد، يوجد 400 مصاب، و80 قتيلا. الوضع كالتالى: هناك قوات مصرية من «سلاح المشاة»، عبرت القناة وتقدمت. غالبية خسائرنا فى الدبابات لم تكن ناجمة عن نيران الدبابات، بل عن نيران سلاح المشاة وكذلك الصواريخ المضادة للدبابات. بحسب تقديرات اليوم، فإن ما لا يقل عن 350 دبابة عبرت القناة، ومن المرجح أن يقترب الرقم من 500 دبابة. عن نفس تلك الساعات من أيام الحرب الأولى وتحديدا يومى 7 و8 أكتوبر، جاء الفصل الخامس من كتاب «التقصير» الإسرائيلى عامرا بعشرات التفاصيل، عما كان يجرى من وقائع على طول مناطق الجبهة الجنوبية (سيناء).
تحت عنوان الفصل «حصن حصين»، ذكر أن المصريين عبروا عن طريق العشرة كيلومترات الفاصلة بين كل تحصين وآخر، مفترضين أن التحصينات ستسقط فى أيديهم كالثمار الناضجة. قبيل ساعات المساء، بدأت علامات هذا الاحتمال المريع ترتسم أيضا فى نظر القيادة العليا للجيش الإسرائيلي. فقد اتاحت أجهزة اللاسلكى المتطورة، الموجودة فى موقع القيادة العليا لكل من كان حاضرا، سماع ما يجرى فى كل من التحصينات التى كانت لاتزال مرتبطة بشبكة الاتصال. فى إحدى ساعات الليل وصل قائد المنطقة الجنوبية الجنرال «شموئيل جونين» إلى موقعه الأمامى فى سيناء، وأسرع الجنرال «ألبرت مندلر» أيضا إلى الأمام باتجاه الموقع الأمامى للقوات المدرعة بسيناء. ودل الوضع الذى ارتسم فى تلك الساعات على الخرائط؛ أن نحو مائة دبابة تخوض قتالا فعليا على امتداد الخط الأمامى، فى محاولات يائسة لإنقاذ المحاصرين فى التحصينات.
لم يتخذ القرار النهائى بشأن مصير التحصينات، إلا فى ساعات بعد ظهر الأحد 7 أكتوبر، عندما تسلم قائدا فرقتى الاحتياط الجنرال أريل شارون والجنرال إبراهام آدان قيادتهما الأماميتين. اقترح شارون الخروج بتشكيل من 100 دبابة من فرقته، لإحداث ثغرة فى الطوق المصرى وإنقاذ المحاصرين، وأمر الجنرال آدان فى قطاعه مقاتلى التحصينات بمحاولة النجاة بأنفسهم. وحينذاك عندما وضع موشيه ديان وزير الدفاع الذى وصل لموقع القيادة الأمامى فى الصورة، اقترح أنه: لا مناص من التخلى عن جنود التحصينات، فليهرب من يستطيع، أما الباقون بمن فيهم الجرحى، فليبقوا فى التحصينات. وقد اعتبر الكثيرون هذا القرار، كفرا بالمبدأ، وتنكرا لكل ما هو مألوف ومقدس لدى الجيش الإسرائيلى، ولكن لم يبق هناك خيار آخر. فى نفس الفصل شهادة لأحد الجنود الإسرائيليين بالقطاع الجنوبى، قال: كانت الدبابات التى أرسلت إلى التحصينات منهمكة فى إنقاذ نفسها، فقد احترق بعضها وأصيب البعض الآخر.
كان ثمن محاولة إنقاذ الجنود باهظا جدا، فعدد الخسائر كان فى تلك الساعة مخيفا للغاية. هنا فى الميدان، فوق الرمال، كان هناك عشرات كثيرة من القتلى لا يستطيع أحد أن يقدر عددهم. منهم الذين احترقوا داخل الدبابات، وآخرون ضاعوا فى متاهات الصحراء، وقد اصطدموا بمجموعات مصرية اشتبكوا معها، أو استسلموا لها، ووقعوا فى الأسر.
نقلاً عن الأهرام
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية