لا يُعد مشهدُ الانهيار الدراماتيكي لمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى INF التي استحوذت على خطابات الساسة وصناع القرار بين منصتي مؤتمر ميونخ للأمن العالمي، ثم خطاب الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في الجمعية الفيدرالية في موسكو؛ مفاجأةً تُضاف إلى مسلسل التصدع الراهن في بِنَى الأمن العالمي التقليدية التي ترسخت في حقبة ما بعد الحرب الباردة، بقدر ما تعكس التحولات الراهنة في بيئة الأمن الدولي. ومن المتوقع أن تُشكّل حالةُ “معاهدة القوى النووية متوسطة المدى” مقدمةً لحالات أخرى محتملة في المستقبل القريب، ربما يكون من بينها معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية الجديدة “ستارت 2” التي يجري العمل بها حتى 2021.
وعلى الرغم مما شهدته هذه المعاهدة من شدٍّ وجذبٍ على مدار أكثر من ثلاثة عقود؛ إلا أنها شكّلت -في الوقت ذاته- تراكمًا مهمًّا في ترتيبات الأمن العالمي لضبط حالة التسلح. وبالتالي، فإن التداعيات المترتبة على انهيارها ستقود بالتبعية إلى حالةٍ من الانفلات على الصعيد الدوليّ، أو بتعبير الأمين العام لحلف الناتو حالة “اللا يقين” التي تُشكّل سمة عالم بدون المعاهدة، والتي ستعيد في سياقها حالة سباق التسلح الذي كان سمة مرحلة من حقبة الحرب البادرة التي أُبرمت فيها المعاهدة أيضًا عام 1987، لكن بشكل أكثر خطورة في ظل عالم متعدد الأقطاب، ومستويات أعلى في تكنولوجيا التسلح.
لكن على جانب آخر، هناك رؤى عديدة تكاد تشكل حالة من الإجماع بين خبراء التسلح، ولا سيما المعنيين بالأسلحة النووية، أن الواقع العملي على صعيد التسلح، سواء بين الولايات المتحدة وروسيا أو بين القوى الدولية والإقليمية التي دخلت حلبة السباق الصاروخي أفقدت الاتفاقية جوهرها، ومن ثم لم يعد مجديًا استمرار التمسك بها. لكن هذه الرؤى ركزت أيضًا على بدائل عديدة، منها: إصلاح الاتفاقية، والعمل على إبرام اتفاقيات أخرى تحقق الهدف ذاته أو توسيع نطاقها، بما لا يُخلّ بموازين القوى الدولية الحالية.
الطموحات الدفاعية مبرر لفض المعاهدة
طريق مسدود لإصلاح الاتفاقية
عُقد أكثر من 30 اجتماعًا بين أطراف المعاهدة، روسيا والولايات المتحدة، إلى جانب الناتو، لم تُسفر عن خطة عمل مشتركة لإصلاح المعاهدة. وانتهى مسار التفاوض إلى طريق مسدود في يناير 2019، حيث أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” نيته الانسحاب منها خلال 60 يومًا بسبب إخلال روسيا بها، وبالتالي أصبح مقررًا أن الولايات المتحدة ستنسحب من المعاهدة بحلول مارس الجاري، معتمدًا على تقارير تفصيلية للاستخبارات الأمريكية نُشرت تفاصليها في العديد من التقديرات والتقارير ووسائل الإعلام الأمريكية، والتي أكدت أن روسيا نشرت صواريخ SS-20 وفقًا لتعريف الناتو أو 9m729 وفقًا للتعريف الروسي، بما يُشكّل مصدرًا لتهديد أوروبا، لأن مداها يصل إلى 5000 كم، وتتمتع بالدقة العالية في إصابة أهداف في أوروبا الغربية، وشمال إفريقيا، والشرق الأوسط، كما يمكنها ضرب أهداف في ولاية ألاسكا الأمريكية، بحسب تلك التقارير.
في المقابل، ردّت موسكو بأن تجربتها الصاروخية لـ 9m729 لم تتجاوز السقف المقرر في المعاهدة، بحيث لم تزد عن 480 كم، وأن الولايات المتحدة تبحث عن ذريعة للخروج من المعاهدة.
كما أعلنت أن واشنطن اخترقت المعاهدة بنشرها منظومة “إيجيس آشور” بصواريخ Block IB Standard Missile-3 الموجهة، بهدف توسيع مظلة الحماية من الصواريخ في منطقة جنوب أوروبا (رومانيا – بولندا)، وأن لديها صواريخ محملة على طائرات تزيد مدياتها عن 500 كم، والشروع بإنتاج رؤوس نووية من طراز w-76-2. لكن المراكز المعنية في واشنطن، ومنها معهد العلماء في ماساتشوستس، استعرضت تفاصيل التجربة الروسية استنادًا للتقارير الاستخبارية والرصد الفضائي، وخلصت إلى أن هناك تحايلًا روسيًّا في هذا الصدد، فقد تكون روسيا لم تقم بعملية ملء خزانات الصاروخ الذي تم اختباره بالوقود بالكامل وإنما بحدود المسافة التي أعلنت عنها، ومن ثم تبقى لديه القدرة على تجاوز تلك المسافة بكثير.
الناتو وتحدي انهيار المعاهدة
وفقًا لما تم استعراضه في ميونخ، ألقى الناتو باللوم على روسيا فيما يتعلق بالاتفاقية قبيل إعلان “بوتين” الصريح الانسحاب منها، وتم استعراض حزمة سياسات دفاعية في إطار ما أسماه الأمين العام للحلف “إدارة اللا يقين” والاستعدادات للمستقبل، وجاءت على النحو التالي:
- كرر “ستولتنبرج” فكرة “الظهير الأوروبي” للولايات المتحدة الذي يتشكل من أعضاء الحلف، لدعم الموقف الأمريكي في إطار تحدي تنامي القدرات الصينية، وهو ما ألمح إليه بحذر. وفي المقابل، ألمح “ستولتنبرج” إلى أهمية تجاوز عتبة الإنفاق التقليدي 41 مليار دولار وصولًا إلى 100 مليار دولار بفضل الدعم الأمريكي لإغراء القوى الأوروبية لعدم الخروج عن المسار الأمريكي لتحقيق المصالح المشتركة أو تبادل المصالح بمعنى أدق.
- “الحزمة الثالثة”، وتتعلق بإصلاح الناتو أو ما أشار إليه صراحة بتحديث هيكل القيادة وجهود مواجهة الهجمات السيبرانية والهجينة، ومكافحة الإرهاب، ومواجهة التهديد الروسي في المقام الأول.
في هذا السياق، ووفقًا لطرح “ستولتنبرج” فإنه يمكن تصور توسيع دائرة انتشار الناتو خارج الحدود التقليدية باعتباره أسلوبًا جديدًا للردع، وهو ما يشكل محورًا للاشتباك مع روسيا، وهو المسار ذاته الذي أكده بخطاب أكثر حدة وزير الدفاع البريطاني “جافين ويليامسون” الذي أشار إلى أهمية هذه التحركات باعتبارها تشكل “تكلفة” على روسيا أن تدفعها لاختراقها المعاهدة، على حد قوله. مضيفًا: “بعد مرور 30 عامًا على سقوط جدار برلين، وبعد خمس سنوات من الضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم، لا تزال روسيا تشكل تهديدًا لأمننا”. ومن ثم، هناك مبرر لاتخاذ تلك التدابير، ومنها نشر قوة الاستطلاع المشتركة التي تقودها بريطانيا مع تسع دول في أول عملية من نوعها في بحر البلطيق.
ولم تكن الرسالة البريطانية الوحيدة التي تنسجم مع توجهات إذعان الناتو لقيادة أمريكية، ففي منعطف هذا التناول جاءت رسائل نائب الرئيس الأمريكي “مايك بنس” استطرادية في إبراز الدعم الأمريكي لأوروبا دون مقابل في ظل إدارة الرئيس “ترامب”.
مع التلويح بفكرة “التبعية” لواشنطن وليس في سياق ما يسوّق له أوروبيًّا بجيش أوروبا الموحد، وهي الإشكالية التي تعامل معها كل من “ستولتنبرج” ومممثلة الشئون الخارجية للاتحاد “فيدريكا موجريني” بدبلوماسية. فالأول تحدث في سياق فكرة الازدواجية الدفاعية ومقبوليتها، عندما قال: “إننا لا نمتلك سوى قوات فردية، ولدينا موارد محدودة، ولا يمكننا أن نكرر بعضنا بعضًا”.
ورحب بجهود الاتحاد الأوروبي في الدفاع، لكنه استدرك قائلًا إن “الوحدة الأوروبية لا يمكن أن تحل محل الوحدة عبر الأطلسي”. أما الثانية فتحدثت عن “الاستقلالية التعاونية” والتعاون مع الناتو باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. وفي هذا السياق، يمكن القول إن أوروبا هي الأخرى أصبح لديها مبرر لزيادة قدراتها الدفاعية في إطار مشروع الجيش الموحد في مواجهة التهديد الروسي، وهو ما يمكن تسويقه حتى للولايات المتحدة التي تُبدي اعتراضًا على هذا المشروع. لكن في الأخير يظل المشروع مجرد طموح أوروبي ليس أكثر.
محدودية قيود الانتشار وضبط التسلح
ثمة روايات عديدة تفيد بأن المعاهدة التي لم تقيد أطرافها لم تكن ملزمة لغيرهم، ما سمح لأطرافٍ خارجها بتطوير أسلحة وبناء قدرات يمكنها الإخلال بموازين القوى الدولية. وتم التركيز في بداية الأمر على الصين، بجانب روايات أخرى تتعلق بحصر الاتفاقية على الانتشار الأرضي، في حين أن الواقع الميداني في ظل تحميل صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية على طائرة بدون طيار وعلى متن غواصات في أعماق البحر أفقد الاتفاقية هدفها الاستراتيجي. وعلى الرغم من أن هذه المخاوف تجاه الصين معلنة، واعتُبرت أحد المبررات الأمريكية للانسحاب من المعاهدة؛ لكن ظلت أوروبا هي العقدة التي يتم التمسك بها في إطار الحديث المباشر حولها. ذلك أن هناك أطروحات جدلية حول السباق أو التنافس على الساحة الدولية، بما يجعل من مصلحة الولايات المتحدة الانسحاب من المعاهدة، وهو ما يتعلق بقوى أخرى على الساحة الدولية، منها: الصين، والهند، وكوريا الشمالية، وإيران، وباكستان، وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية. لكن الإشارات الأمريكية -في هذا الصدد- تُلمح إلى أن هناك مفاوضات تسير مع كوريا الشمالية، فيما هناك قوى تعمل تحت السيطرة وفي إطار التحالف مع الولايات المتحدة. بينما الصين وإيران هما مصدر التهديد الذي يجب التعامل معه.
لكن تبدو هناك مشكلة مع الصين يتم التلميح بها، في حين يتم التركيز على إيران بشكل دائم، كما برز اشتباك في ميونخ بين ألمانيا والولايات المتحدة مع إصرار الأخيرة على أن تنسحب المجموعة الأوروبية من اتفاق مجموعة العمل المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، وربط هذا الإصرار ببرنامج التسلح الصاروخي الإيراني، وهو ما ألمح إليه نائب الرئيس الأمريكي “بنس”، ووزير الخارجية “مايك بومبيو” في حديثهما. وفي المقابل، أصرت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” على عدم الانسحاب من الاتفاق ذاته.
روسيا أم الصين؟
يظل الجدل في الولايات المتحدة مثارًا فيما يتعلق بالتحلل من الاتفاقية بين المسئولين والخبراء: هل التهديد الحقيقي هو روسيا؟ أم إن الاتفاقية باتت تشكل قيدًا مزدوجًا تجاه الصين أيضًا؟
فوفقًا لتقارير عديدة نشرتها The National Interest وglobal security، هناك إشارات واضحة إلى أن الإدارة الأمريكية تعتبر أحد مبررتها للانسحاب من الاتفاقية أنها تمنع واشنطن من التصدي للصواريخ الأرضية قصيرة المدى والمتوسطة المدى التي تنتشر في الصين، باعتبار الأخيرة تمتلك حاليًّا أكبر ترسانة في العالم وأكثرها تنوعًا من الصواريخ الأرضية، ومخزونًا يحتوي على أكثر من 2000 صاروخ باليستي وكروز تتجاوز حدود الاتفاقية.
لكن في المقابل، أكد المسئولون في العديد من جلسات الاستماع في الكونجرس وكذلك الخبراء أن الجيش الأمريكي طور آليات ردع مناسبة، منها ما يمكن إطلاقه بحريًّا مثل توماهوك وجويًّا مثل JASSM-ER، ويمتلك منها الجيش الأمريكي الآلاف. وبالتالي تتحقق معادلة الردع ومن ثم لا داعي للدخول في جدل بهذا الشأن حاليًّا. وبالتالي، يعيد الخبراء الأمريكيون الكرة مرة أخرى إلى الساحة الأوروبية باعتبارها مجالًا للتهديد الحيوي في ظل الظروف الأوروبية الراهنة. وكرر الخبراء أن الولايات المتحدة لديها خيارات عديدة ممكنة، منها ما يتعلق بالقدرات غير المنصوص عليها في الاتفاقية، ولا سيما البحرية والجوية، ومن ثم يكفي نشرها وفقًا للاحتياجات الدفاعية التي يقتضيها أمن الحلفاء.
السيناريو القادم
هناك سيناريوهان للعمل مع مرحلة ما بعد وقف العمل بالمعاهدة.
السيناريو الأول: هو “إدارة اللا يقين”، كما وصفها الأمين العام لحلف الناتو “ينس ستولتنبرج”، والتي يجري التعامل معها من خلال عدد من الآليات التي يبدو أيضًا أن “بوتين” تقاسمها مع الحلف على الجانب الآخر. وترتكز هذه الآلية على زيادة القدرات الدفاعية بلا حدود، والاستعداد لمرحلة “اللا يقين” مهما كانت التبعات. وثمة مبرر آخر سوق به “ستولتنبرج” تلك الاندفاعة وهو عدم القدرة على التنبؤ بما سيجري في المستقبل. وضرب أمثلة عديدة لكل الأحداث التي تدعم خطة إطلاق سباق تسلح أخطر مما كان عليه الواقع في أتون الحرب البادرة، منها سقوط جدار برلين وأحداث 9/11 وصولًا إلى صعود “داعش”.
السيناريو الثاني: وهو ما يوصف بـ”تبريد الرؤوس الحامية”، وهو المصطلح الذي طُرح في دهاليز السياسة الأمريكية – الروسية. ففي موسكو أُشير إلى أن ثمة صقورًا جددًا في الإدارة الأمريكية يسعون إلى إحماء الرؤوس النووية مجددًا، لا سيما مستشار الرئيس للأمن القومي “جون بولتون”. وذلك على خلاف توجهات الرئيس “ترامب” الذي يمكنه المضي في طريق مختلف، خاصة أنه أعلن في أكثر من مناسبة أنه يحترم الخصم القوي. لكن في المقابل، اعتبر الرئيس “بوتين” في خطاب الجمعية الفيدرالية أنه أيضًا لن يكون البادئ بالحوار مجددًا على غرار أنه لن يكون صاحب الضربة الأولى. كما أنه في خطاب سابق له في أكتوبر الماضي أشار إلى العقيدة النووية الروسية، مؤكدًا أنها لا تعتمد فكرة الضربة الاستباقية.