“الانتداب البريطاني” على فلسطين؛ الذي تعزز بإنشاء الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى “عصبة الأمم” ومن ثم مؤتمر سان ريمو 1920، بات يمثل بجدارة اطار الحماية السياسية والعسكرية لمشروع انشاء “دولة إسرائيل”. فقد انتقلت بموجبه ارهاصات الحلم الصهيوني إلى المضي قدما لما يمكن تحقيقه على أرض الواقع، في حال امتلكت القيادات الصهيونية الإرادة والخطط الجاهزة للانطلاق على هذا الطريق. وكما أشرنا سلفا جاءت نصوص “صك الانتداب” المعتمد دوليا؛ لتشكل واقعا مثاليا يمكن للعمل الصهيوني المنظم أن يستثمره بسهوله، من أجل تجاوز إشكاليات وضع الحلم موضع التنفيذ.
الإشكالية الأولى التي واجهت المشروع الصهيوني، كانت هي البشر الذين سيقيمون ويعملون في هذا المشروع، حتى بدت سنوات الانتداب البريطاني الأولى وكأن مهمتها الرئيسية هي كيفية تجاوز معضلة الديموجرافيا، التي تسبق حتى تعقيدات الجغرافيا التي لم تتشكل لها في حينه حلا واقعيا بعد رغم أهميتها. اثر ذلك بدأ بصورة محمومة تنظيم ورعاية؛ ما عرف بـ”موجات الهجرة” اليهودية إلى فلسطين، المسجلة في الأدبيات الإسرائيلية ووثائق الانتداب البريطاني، باعتبارها ستة موجات هجرة امتدت من العام 1882 وحتى عام 1948. جعلت من الممكن لما مجموعه (60 ألف يهودي) في فلسطين العثمانية طوال عقود ما قبل “وعد بلفور” 1917، أن يصل عددهم إلى (700 ألف إسرائيلي) في الدولة الجديدة سنة 1948. في بداية الانتداب البريطاني لم يكن يسمح بطرد الفلسطينيين من أراضيهم، لكن الوصول المتزايد للأعداد الكبيرة من المهاجرين اليهود، خلق توترا شعبيا شديدا بلغ ذروته خلال فترتين الأولى اضطرابات (1920 ـ 1921)، أعقبها حراك شهير عام 1929 يعرف بـ”انتفاضة البراق” على خلفية توجه مسيرة صهيونية تجاه حائط البراق بالمسجد الأقصى، في أول محاولة تغيير للوضع الديني “الإسلامي/ المسيحي” التنظيمي المستقر لقرون مضت.
التظاهرات عمت مدينة القدس، وأحدثت ردود فعل عنيفة من الفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد أشدها كان في الخليل وصفد، وامتدادها لشهور ولمدن أخرى بمواجهة سلطة الانتداب البريطاني، مما دفع الأخيرة إلى الانتباه لعمق الرفض الفلسطيني لفرض المشروع الصهيوني الذي بدت تتكشف بعض ملامحه. لجأ البريطانيون إلى امتصاص الغضب الشعبي الفلسطيني، من خلال تشكيل لجنة تحقيق في مارس 1930 “لجنة والتر شو” أكدت أن الفلسطينيين يرون في الهجرة اليهودية خطرا اقتصاديا وسياسيا كبيرا، كما يهدد الأوضاع الاجتماعية والدينية المستقرة في عموم فلسطين. في ظل هذه الصحوة البريطانية المؤقتة؛ قدم في لندن تقرير شهير جرى نشره في أكتوبر من نفس العام عرف بـ”تقرير جون هوب سمبسون”، حمل أسم السير سمبسون المحقق الشهير الموفد من حكومة صاحبة الجلالة كي يتباحث على الطبيعة مع المندوب السامي البريطاني لفلسطين، ويقدم رؤية واقعية حول ثلاثة قضايا رئيسية هي تسوية أوضاع الأراضي والهجرة وترقية الشؤون الاقتصادية. وقد خلصت تحقيقات السير سمبسون إلى أهم وأخطر نقطة؛ أنه لم تعد ثمة أراض إضافية فلسطينية أو عثمانية قديمة، من أجل إقامة مستوطنات زراعية لليهود المهاجرين الجدد عليها. بعدها مباشرة قامت الحكومة البريطانية بجمع نتائج وتوصيات ما جاء في تقارير لجنتي التحقيق وتقصي الحقائق، ضمنته في “كتاب أبيض” صدر في نفس العام أكتوبر 1930.
مثلت تلك الفترة محطة مفصلية باعتبارها أول تدقيق سياسي فعلي، لمجمل مكونات المشهد الذي هندسته بريطانيا على الأرض في عموم فلسطين، فهناك من وجهة نظرها أرض يتنازعها مصالح “شعبين” العرب واليهود. وبينهما “سلطة انتداب” مخولة على حد قول رمسى مكدونالد رئيس الوزراء البريطاني حينذاك بـ”تعهد دولي لا يمكن العدول عنه”، وخلال عرض الكتاب الأبيض على مجلس العموم أشار أيضا بجلاء أن حكومة جلالته قد استقر قرارها، على الاستمرار في ادارة فلسطين وفقا لأحكام صك الانتداب كما أقره مجلس عصبة الأمم. وقد وجه خلال تلك الجلسة العاصفة اشارات واضحة؛ أن من العبث للزعماء اليهود من الجهة الواحدة، أن يلحوا على حكومة جلالته لان تسير في سياستها فيما يتعلق بالمهاجرة والأراضي مثلا، حسب أماني طبقات الرأي العام الصهيوني الاكثر تصلبا. إذ أن قيامها بذلك ليس سوى تجاهل منها للواجب الملقى على الدولة المنتدبة ازاء غير اليهود من أهالي فلسطين، ذلك الواجب الذي لا يقل عنه أهمية. كما أنه من العبث أيضا، من الجهة الاخرى للزعماء العرب أن يصروا على مطالبهم لوضع نوع من الدستور يجعل قيام حكومة جلالته، أوفى قيام، بالتعهد ذي الشقين المشار اليه أعلاه في حكم المستحيل.
وقد ورد في هذا الكتاب الأبيض؛ الذي جرى العدول عنه لاحقا بعد هجوم شرس من الزعماء الصهاينة على الحكومة البريطانية والمحققين الذين انتقلوا إلى فلسطين، لتقديم احاطتهم من أرض الواقع. عدة نصوص بالغة الأهمية والدلالة؛ خاصة في صدورها مع بداية تكشف جوهر إشكاليات ما يجري داخل مشروع بناء دولة إسرائيل. أولها ما ورد بالكتاب تحت عنوان، المعنى الذي تعلقه حكومة جلالته على عبارة “الوطن القومي لليهود” الواردة في صك الانتداب. فهي تفسر هذا نصا بما يلي: “أنه وقد أعاد اليهود في الجيلين أو الثلاثة أجيال الأخيرة، انشاء طائفة لهم في فلسطين يبلغ عددها الآن ثمانين ألفا، ربعهم تقريبا مزارعون أو عمالة في الأرض. ولهذه الطائفة ادارات سياسية خاصة، منها مجمع منتخب لإدارة شئونها الداخلية، ومجالس منتخبة في المدن ورئاسة حاخامين، ومجلس رباني لإدارة شئونها الدينية. وتدار أعمال الطائفة باللغة العبرية كلغتها الوطنية، ولها صحف عبرية تفي بحاجاتها، وهي تتبع نمطا تهذيبيا يميزها عن سواها، وتبدي نشاطا كبيرا في الحركة الاقتصادية.
ووفق النص البريطاني: “ومتى سأل سائل ما هو معنى ترقية الوطن القومي اليهودي في فلسطين، يمكن أن يجاب على ذلك، بأنه لا يعني فرض الجنسية اليهودية على أهالي فلسطين إجمالا. بل زيادة رقي الطائفة اليهودية بمساعدة اليهود الموجودين في جميع أنحاء العالم، حتى تصبح مركزا يكون فيه للشعب اليهودي برمته اهتمام وفخر، من الوجهتين الدينية والقومية”.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية