اكتملت الانتخابات الرئاسية، وظهرت نتائجها، وبتنا مستعدين لدخول مرحلة جديدة مع بدء فترة رئاسة ثالثة للرئيس السيسي. فى جملة المشهد الانتخابى علامات تدعو للارتياح وتبشر بأن نظامنا السياسى بات جاهزا لخطوات ونقلات إيجابية مهمة. المنافسة بين مرشحين متعددين جادين. حرية التواصل مع الناخبين. ظهور المرشحين على قنوات مختلفة فى لقاءات مطولة شرحوا فيها أفكارهم. تطبيق القوانين ذات الصلة بدقة عالية. نسبة المشاركة غير المسبوقة. التقاء الرئيس السيسى بمنافسيه غداة إعلان النتائج.
فوز الرئيس السيسى بفترة رئاسة جديدة لم يكن مفاجئا، فهذا هو ما توقعه أغلبنا. كان فوز المرشح عبدالفتاح السيسى متوقعا فى كل مرة ترشح فيها للرئاسة قبل ذلك، لكن الأمر مع هذا يبدو مختلفا هذه المرة، فالقضية ليست فيمن نجح فى الانتخابات إنما فى المناخ العام المحيط بالانتخابات، والمناخ هذه المرة مختلف، ويبشر بآفاق جديدة.
النظام السياسى والثقافة السياسية فى مصر يمنحان أفضلية كبيرة للمرشح صاحب الخبرة فى مناصب السلطة التنفيذية.
فرصة الرئيس المرشح لإعادة انتخابه للمنصب تكاد تكون مؤكدة. هذه هى التعبيرات المعاصرة عن الموروث التاريخى للعلاقة بين المصريين والسلطة، وهذه التعبيرات لا تزيد على كونها الجزء الظاهر من جبل الجليد الكبير الغاطس فى الموروث التاريخى والثقافى للأمة المصرية عبر قرون طويلة.
الموروث السياسى المصرى ليس فيه سوى القليل من المشاركة والمحاسبية. الواقع الاجتماعى والموروث السياسى والثقافى المصرى يسمح للحاكم بالانفراد بالقرار والرأي. ليس هذا وضعا مثاليا، لكنه وضع ممكن بتكلفة محتملة فى أغلب الأوقات. هذا هو الحال الذى ساد فى مصر طوال العهود السابقة، وخلالها تميزت مصر، المجتمع والدولة، باستقرار يحسدها عليه كثيرون، وركود مثير للشفقة، والمطلوب هو صيغة تصون الاستقرار وتضع حدا للركود.
طوال الوقت يوجد فى مصر مطالبون بتوسيع نطاق المشاركة والتمثيل، غير أن إجمالى الطلب الاجتماعى المساند لهؤلاء أقل بكثير من أن يحدث فرقا مهما فى علاقات السلطة، ولولا المبادرات القادمة من الرؤساء على قمة النظام السياسى لضاعت علينا فترات الانفتاح السياسى المتباعدة التى مرت علينا خلال العهود السابقة. للمبادرات القادمة من قمة النظام السياسى أهمية كبيرة فى تشكيل واقعنا السياسى، ويبدو أن مصر باتت ناضجة لمبادرة قيادية من هذا النوع.
نسبة المشاركة الكبيرة، والطريقة التى توزعت بها الأصوات التى فاز بها منافسو الرئيس السيسى هى المفاجأة الحقيقية فى الانتخابات الرئاسية. فى هذه النتائج ملامح لمرحلة سياسية قادمة، تدور حول رئاسة قوية، ومشاركة سياسية أوسع، وانفتاح على النخب السياسية والثقافية، ودور أكبر للأحزاب السياسية، وصعود أحزاب جديدة،وهبوط أخرى.
خطاب الرئيس السيسى عقب إعلان نتيجة الانتخابات شديد الأهمية فى بسط رؤية الرئيس للمرحلة القادمة، خاصة مكونها السياسى. الفقرة التالية هى قلب وجوهر خطاب الرئيس وفيها القسم الأكبر من عناصر رؤيته لمصر فى المرحلة القادمة. «دولة ديمقراطية، تجمع أبناءها فى إطار من احترام الدستور والقانون، وتسير بخطوات ثابتة نحو الحداثة والتنمية قائمة على العلم والتكنولوجيا، محافظة على هويتها وثقافتها وتراثها، تضع بناء الإنسان فى مقدمة أولوياتها، وتســعى لتوفيـر الحياة الكريمة له، تمتلك القدرات العسكرية والسياسية والاقتصادية التى تحافظ على أمنها القومي».
الحداثة والتنمية القائمة على العلم والتكنولوجيا، هى رؤية الرئيس لاستراتيجية النمو والنهوض فى مصر.
المحافظة على الهوية والثقافة والتراث، توجه عبر عنه الرئيس، وعلينا أن نضعه فى إطار دعوته المتكررة لنهضة ثقافية وإصلاح الخطاب الدينى. وضع بناء الإنسان فى مقدمة الأولويات. هذه عبارة شديدة الأهمية لو نسبناها إلى سياق الجدل الفكرى الدائر فى مصر بشأن الأولويات والأهمية النسبية للتنمية المادية والتنمية الإنسانية. كلمات الرئيس السيسى تنحاز للقائلين بالأولوية للبشر لا الحجر، والأرجح أن يكون هذا توجها مركزيا موجها لسياسات الدولة المصرية فى الفترة المقبلة.
شغلت القضايا ذات الصلة بالحالة السياسية المصرية المكان الأبرز فى خطاب الرئيس السيسي. لخص الرئيس رؤيته للنظام السياسى المصرى فى مصطلحات ثلاثة، هى الديمقراطية، واحترام الدستور والقانون. أظن أن الطريق نحو الديمقراطية مازال طويلا، لكن مادمنا نحترم الدستور والقانون، فإننا بالتأكيد نسير بخطى ثابتة نحو الديمقراطية والحداثة والاستدامة السياسية. لقد أتاح كل من الحوار الوطنى والانتخابات الرئاسية عناصر مهمة يمكن البناء عليها من أجل التقدم فى اتجاه حالة سياسية جديدة. قال الرئيس «سنستكمل حوارنا الوطنى بشكل أكثر فاعلية وعملية مستفيدين من تلك الحالة الثرية، التى شهدتها العملية الانتخابية وهو ما أفرز تنوعا فى الأفكار والرؤى».الحوار الوطنى الذى بدأ قبل نحو عام سيتحول إلى حالة متواصلة، تضمن استمرار التواصل مع النخب بأقسامها.ما جرى فى مصر منذ إطلاق الدعوة للحوار الوطنى حتى الانتهاء من الانتخابات الرئاسية يجب النظر له كوحدة واحدة، وتنفيذا لرؤية متبلورة تستهدف إحداث نقلة إيجابية فى أوضاع مصر السياسية.
حديث الرئيس السيسى عن احترام الدستور يرتبط بقوة مع الجملة التى ختم بها خطابه المهم. تحدث الرئيس عن قيادة الوطن، الأمانة التى دعا الله لكى يمكنه من حملها بنجاح وتسليمها بتجرد. هذه كلمات مختارة بعناية شديدة تعكس رؤية الرئيس البعيدة المدى لنظام سياسى يجرى التوالى على قيادته وفقا للدستور، لأن المؤسسات والأوطان هى الباقية وهى الأساس، فليوفق الله الرئيس السيسى، ولنعاونه على تحقيق رؤيته.