الكيان الصهيونى تثبتت أقدامه على أرض فلسطين، بحصوله على قرار التقسيم من الأمم المتحدة فى 29 نوفمبر 1947، وبات جاهزا لتنفيذ المخطط الذى عمل عليه لسنوات. وظل مدركا طوال الوقت أنه دون «التهجير القسري» للفلسطينيين، لن يتحقق حلم «دولة إسرائيل. فحصيلة جهد «الوكالة اليهودية» بعد عقود من العمل على توطين اليهود وزرعهم قسرا على الأراضى الفلسطينية، بالكاد يبلغ الثلث من عدد السكان الذى قدر من جانب الأمم المتحدة بنحو (مليون نسمة)، هم اجمالى سكان الدولة التى يجرى تقسيمها، لتصبح دولة يهودية تبلغ 56.5% من مساحتها، فى مقابل 43.5% لصالح الفلسطينيين الذين بدأ تأكيد تسميتهم فى كل الوثائق الدولية بالمكون العربى، حتى تكتمل أدوات نزعهم من أراضيهم وجنسيتهم، فتلك الأرض حتى هذا التاريخ كانت تسمى «فلسطين».
لذلك جرى على نحو متسارع، وبعد أسابيع قليلة من صدور قرار التقسيم، تنفيذ خطة التهجير القسرى للقسم الأعظم من الفلسطينيين. وقد جرت على عدة مراحل وبأشكال متنوعة بحسب الموقع الجغرافى والمكون الديموغرافى لكل قرية ومدينة، وكان هناك توزيع للأدوار حدده القادة لكل من «الهاجاناه» و«الإرغون»، فى هجومهما المسلح على النطاقات التى حددت لهما سلفا. شهد ديسمبر 1947 اطلاق البداية الرسمية لـ«التطهير العرقى» بحق الفلسطينيين على محورين متزامنين، ففى حين كانت «الهاجاناه» تشن هجوما على قرى «بلد الشيخ» فى قضاء حيفا و«لفتا» فى منطقة القدس، والذى خلف ما يزيد على (60 قتيلا) فى الأولى وطرد غالبية سكان الثانية البالغ عددهم 2500 نسمة.
كانت قوات «الإرغون» تدخل قرية «الطيرة» قرب حيفا، وتروع سكانها بقتل (15 فلسطينيا) وتصيب المئات بالرصاص، قبل أن تنتقل بعد أيام إلى قرية «العباسية» شرق مدينة يافا لتمارس ذات العمل، كى يصبح ذلك هو النمط المعتمد إزاء جميع القرى الفلسطينية القريبة من المدن الرئيسية.
فى الشهر نفسه كانت تلك المدن يلزمها نموذج صهيونى، سيصير مكررا مع بعض الاختلافات القليلة التى لا ينقصها ذات الوحشية المفرطة، وهو ما شهدته مدينة «حيفا» من ترويع لسكانها البالغ عددهم نحو 75 ألف فلسطينى، الأمر الذى تسبب برحيل نصفهم تقريبا ولجوئهم إلى مصر ولبنان كإجراء مؤقت وفق ما كانوا يعتقدون فى حينه. وتركزت أعمال التطهير السكانى بشكل مركز فى شهرى يناير وفبراير من 1948، فى محيط مدينة حيفا بقرى قيسارية وبرة قيسارية وخربة البرج ودالية الروحاء. وقبل نهاية المرحلة الأولى من مخطط التهجير، كان هناك نموذج أشد عنفا شهدته قرية «سعسع» بقضاء صفد، تمثل فى أولى عمليات نسف لبيوت سكانها مصاحب لعمليات القتل الذى سجل باسم عناصر «البلماح»، وهى القوات الصهيونية الخاصة التى تشكلت كسرايا بلغ عددها تسع سرايا.
ثلاث من تلك السرايا فى منطقة الجليل شمالى فلسطين، واثنتان اختصتا بمنطقة المركز، وثلاث فى الجنوب وواحدة فى منطقة القدس. خلفت عملية قرية «سعسع» تدمير (35 منزلا)، وما يقارب (80 قتيلا) لتنتشر هذه الأخبار على نطاق واسع، وتعمل عملها فى ترويع وإرهاب السكان البسطاء. المرحلة الثانية من عمليات التهجير والتطهير العرقى، عرفت باسم «الخطة دالت» التى على أساسها تم الانتقال من العمليات الهجومية المتفرقة على السكان الفلسطينيين، إلى عمليات واسعة منظمة، بهدف السيطرة على أكبر قدر من الأراضى قبل انتهاء الانتداب البريطاني. وقعت أولى هذه العمليات فى الهضاب الريفية لجبال القدس، حملت اسم «عملية نحشون» ونفذتها سرايا «البلماح»التى نجحت بعد مقاومة فلسطينية شديدة، فى احتلال قرية «القسطل» ودخول قرية «دير ياسين» وارتكاب مجزرة وحشية ذهب ضحيتها أكثر من (100 قتيل)، واحتلال أربع قرى مجاورة أخرى وطرد سكانها.
وقد عملت الدعاية الصهيونية على نشر أخبار «مجزرة» دير ياسين فى جميع أنحاء فلسطين، من أجل ترسيخ الرعب لدى الفلسطينيين بقصد دفعهم إلى الهروب. وفى تسارع يسابق الزمن، وجهت قوات «الهاجاناه» عملها المسلح وجهدها الرئيسى أبريل 1948 إلى المراكز الحضرية الفلسطينية، فكان هدفها الأول طبريا التى طردت سكانها البالغين نحو (5 آلاف فلسطيني) فروا منها بعد سقوطها.بعدها مباشرة بدأ الهجوم الكاسح على حيفا، مما أسفر عن هروب معظم من بقى من سكانها الفلسطينيين عن طريق البحر إلى لبنان.
ثم تواصل الهجوم على صفد من منتصف أبريل حتى بداية مايو، فتم طرد سكانها العرب جميعا (10 آلاف نسمة). أما مدينة القدس، فقد بدأ الهجوم عليها فى 26 أبريل، ونجح المهاجمون فى احتلال (8 أحياء) فى منطقة القدس الكبرى، و(39 قرية فلسطينية) وطرد سكانها إلى الجزء الشرقى من المدينة.أعقب ذلك احتلال بيسان والقرى الواقعة فى جوارها، ثم عكا على الساحل فى 16 مايو، ليتوجه (5 آلاف مسلح) صهيونى من «الهاجاناه» بعدها إلى مدينة يافا ويقوموا بفرض حصار محكم عليها. صمدت يافا لأكثر من ثلاثة أسابيع، قبل سقوطها بأيدى القوات المهاجمة فى 13 مايو ويتم طرد جميع سكانها (5 آلاف نسمة) بعد «وساطة بريطانية». بينما كانت القوات الصهيونية قد احتلت خلال إبريل، العديد من القرى فى جوار يافا وتل أبيب وطهرت سكانها بالكامل.
المرحلة الثالثة من عملية تطهير فلسطين عرقيا، تزامنت مع اعلان دولة إسرائيل فى 14 مايو 1948، فقبل ذلك التاريخ لم يكن تبقى من القرى الفلسطينية الأربع والستين فى المنطقة الممتدة بين تل أبيب وحيفا، سوى قريتين فقط هما «الفراديس» و«جسر الزرقاء». كما شهدت تلك الفترة فى 22 مايو مجزرة قرية «الطنطورة»، وهى واحدة من كبرى القرى الساحلية وسكنها نحو (1500 نسمة)، ذهب ضحيتها وفق أقل التقديرات (230 شخصا)، فى الوقت الذى تكفلت فيه قوات «الإرغون» باحتلال القرى الواقعة فى الجليل الأسفل والشرقى وطردت سكانها، خلال أحداث الحرب العربية الإسرائيلية آنذاك.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية