اتخذ البنك المركزي قرارًا برفع سعر الفائدة، وذلك القرار هو إحدى أدوات السياسة النقدية التي تعتمد على تنظيم وإدارة الكمية المتداولة من النقد في الاقتصاد، وذلك من خلال تحديد مستويات الفائدة والتحكم في إمدادات النقد والائتمان، من خلال التحكم في سعر الفائدة، والتدخل في سوق النقد، وتطبيق سياسات السيطرة على النقد والائتمان. تتخذ السياسة النقدية قراراتها بناءً على تحليلات اقتصادية معقدة وتوقعات المستقبل، وتعتمد على تعاون بين البنك المركزي والحكومة والهيئات المالية الرئيسية لتحقيق مجموعه من الأهداف التي تتمثل في تحقيق الاستقرار النقدي، ومكافحة التضخم، وتعزيز النمو الاقتصادي، وتوجيه الاقتصاد نحو مسار مستدام ومتوازن.
ويمكن تعريف معدل التضخم بأنه زيادة في مستوى أسعار السلع والخدمات بشكل عام في الاقتصاد خلال فترة زمنية معينة. ينجم التضخم عادة عن زيادة في كمية النقود المتداولة في الاقتصاد مقارنة بزيادة في القدرة الإنتاجية للبلد. يؤدي التضخم إلى تقليل قوة الشراء للعملة، مما يعني أنه يمكن شراء كمية أقل من السلع والخدمات بنفس القيمة المالية. يعتبر التضخم عاملًا مهمًا يؤثر على الاقتصاد بشكل شامل، حيث يؤثر على تكاليف المعيشة، والاستثمار، والادخار، والتوزيع العادل للدخل في المجتمع.
بالنظرة الأولى لذلك القرار فهو يتوافق تمامًا مع نظريات الاقتصاد العلمية بما يمكن تسميتها النظرية النقدية الكلاسيكية، تركز تلك النظرية بالأساس على أهمية عرض النقود في التحكم في التضخم بالاقتصاد وتتبنى تلك النظرية مفهومًا يُشير إلى أن التغيرات في كمية النقود تؤثر على معدلات التضخم والإنتاج بشكل مباشر، وتضع السياسة النقدية كأداة أساسية في الحفاظ على استقرار الأسعار من خلال التحكم في كمية النقود في الاقتصاد.
وقد تم اتخاذ القرار الخاص برفع سعر الفائدة بناء على مجموعة من المحددات الرئيسية التي يتمثل أهمها في: امتصاص السيولة من السوق، والسيطرة على التضخم، والقضاء على الدولرة. فبرفع سعر الفائدة ترتفع تكلفة الاقتراض للبنوك التجارية العاملة في مصر (البنك الأهلي، بنك مصر، التجاري الدولي.. وغيرها)، وهو ما يرفع من تكلفة الاقتراض بالنسبة للبنوك، وحيث إن البنوك هي وسيط مالي بين البنك المركزي وبين المستثمرين أو المدخرين، فإن البنوك ستدفع عوائد مرتفعة على أموال المدخرين، وهو ما يدفع الأفراد لوضع مدخراتهم بالبنوك المصرية بهدف الحصول على فوائد مرتفعة، بل وقد يدفع ذلك أنشطة الأعمال بمصر للإغلاق أو تأجيل عمليات التوسعات الخاصة بها بهدف إيداع الأموال بالبنوك والحصول على الفوائد المرتفعة، ذلك الإجراء تكون نتائجه هي سحب السيولة بالجنيه المصري من السوق، ووجود حالة من التباطؤ الاقتصادي التي هي بالأساس نتيجة لتباطؤ الطلب العام على السلع والخدمات، وبمجرد أن يقل الطلب العام يقلل ذلك من الضغط على الأسعار ويقلل من احتمال حدوث التضخم. كما يؤدي تقليل النشاط الاقتصادي إلى امتصاص السيولة من السوق، حيث يقلل البنك المركزي من كمية النقد المتداولة، ويحفز البنوك التجارية على تخزين مزيد من الأموال لديها بدلًا من إقراضها.
وفقًا للتحليل السابق فمن المتوقع أن يساهم قرار المركزي برفع أسعار الفائدة بنسبة 6% في امتصاص السيولة بالسوق بشكل كبير، وقد بدأت بالفعل البنوك الحكومية (بنكا مصر والأهلي المصري) بالإعلان عن إطلاق شهادات بالجنيه المصري لمدة ثلاث سنوات بعوائد 30% للسنة الأولى وعائد 25% للسنة الثانية، وعائد 20% للسنة الثالثة، وهو ما يعني أنه في حال إيداع مبلغ 1000 جم بتلك الشهادات تحصل بعد ثلاث سنوات على مبلغ 1750 جم، وهو عائد مغرٍ بالنسبة لوضع السوق حاليًا، خاصة وأنه تم القضاء تمامًا على سعر الصرف بالسوق السوداء، وبالتبعية فمن المحتمل أن يشهد الاستثمار بالذهب استقرارًا خلال الفترة المقبلة مع ثبات سعر المعدن الأصفر، وهو ما يعني أن المستثمرين بالمعدن الأصفر لن يحققوا أرباحًا في الفترة المقبلة، بل ويتحمل خطر التقلب في سعر الصرف والأسواق العالمية، في حين أن المدخرين بشهادات الجنيه المصري بالمصارف المصرية يحصلون على معدل عائد بمتوسط 25% سنويًا خلال السنوات الثلاث المقبلة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعزز جذب السيولة من السوق إلى المصارف المصرية، وبالتبعية التأثير إيجابيًا على مستويات التضخم.

من جانب آخر، وبالنظر إلى معدل التضخم العام بمصر ووفقًا للبيانات المعلنة من جانب البنك المركزي ليناير 2024، يبلغ معدل التضخم 29.8%، وهو الأمر الذي يعني أن معدل الفائدة الحقيقي المقدم من جانب البنوك على الشهادات التي تم طرحها بالأسواق يساوي تقريبًا معدلات التضخم في الوقت الحالي، مقابل معدل فائدة حقيقي سلبي في الأشهر السابقة وصل إلى ذروته عند -14.5% في شهر سبتمبر 2023، و13.9% في شهر أغسطس 2023 (معدل الفائدة الحقيقي هو معدل الفائدة المعلن مخصومًا منه معدل التضخم) وهو مقياس لصافي النمو في ذروة المدخرين بالسوق المصري.
وعليه، فمع تحسن سعر الفائدة الحقيقي كما سبق التوضيح فمن المتوقع أن تزيد قدرة المصارف المصرية على جذب السيولة النقدية بالأسواق من المدخرين، خاصة وأن قدرات البنوك المصرية على جذب السيولة في ارتفاع مستمر، حيث استطاعت المصارف المصرية جذب سيولة بحوالي 112 مليار جم لتصل إجمالي السيولة بالقطاع المصرفي إلى 8.9 ترليون جم بنهاية يناير 2024 مقابل 8.8 ترليون جم بنهاية ديسمبر 2023، لكن لا تزال هناك سيولة متاحة بالسوق خارج النظام المصرفي والتي تقدر بحوالي 1.08 ترليون جم وفقًا لبيانات يناير 2024 مقابل 1.07 ترليون جم وفقًا لبيانات ديسمبر، وهو ما يعزز من نجاح تلك الشهادات في جذب تلك السيولة، خاصة وأنها أضحت بديلًا استثماريًا مناسبًا لجذب الأموال التي كانت تذهب للاستثمار في الذهب والدولار، ومن المتوقع أن تساهم تلك الشهادات في امتصاص السيولة بالسوق وتهدئة معدلات التضخم.
نائب رئيس وحدة الاقتصاد ودراسات الطاقة