في ضوء الارتباط العضوي بين مصر والسودان؛ تسعى “القاهرة” بكافة الأدوات السياسية لمعالجة الأزمة السودانية الراهنة التي تفاقمت وتيرتها إثر الصراع المسلح بين قوات الجيش السوداني والجماعات المنضوية تحت مظلة “الدعم السريع” منذ أبريل 2023، وذلك عبر تفعيل دبلوماسية التفاوض والحوار بين الأطراف المعنية لإنهاء معاناة الشعب السوداني وبناء مؤسسات الدولة وإقرار الأمن والاستقرار بها.
واتصالًا بالجهود المبذولة على صعيد القنوات الرسمية، فقد تطلب ذلك تكاملًا لهذه الجهود عبر فتح نافذة حوار ونقاش فكرية بين المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية وبين القوى السياسية المؤثرة في المشهد السوداني؛ لذا جاءت استضافة المركز للسيد الدكتور “عبد الله حمدوك” رئيس الوزراء السوداني السابق ورئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” والوفد رفيع المستوى المرافق في التاسع من مارس 2024، لطرح وتناول الأزمة الراهنة في محاولة لفهم أبعادها وتشابكاتها، ومحاولة وضع رؤية مشتركة لحلها في ظل المتغيرات الداخلية والمساعي الإقليمية لحلها.
بقايا نظام الإنقاذ ومعضلة خلط الأوراق
بقراءة واقع المشهد السياسي السوداني فإن الأزمة السودانية منذ الخامس عشر من أبريل 2023 هي نتاج لعشرات السنوات من احتكار السلطة من قِبل نظام الإنقاذ وذراعه السياسي “المؤتمر الوطني” والذي تعمد بصورة كبيرة تفريغ المشهد السياسي من الكوادر السياسية، وكذلك الافتقار إلى مشروع وطني واحد، وهو ما أدى إلى عدم قدرة النظام السياسي على معالجة الأزمات الداخلية، ما أحدث فجوة بين المركز والهامش، وتراجعت فيه مؤسسات الدولة خاصةً في ظل غياب دستور دائم.
إن الأزمة السودانية أخذت منحنى تصاعديًا في ظل تطلع حزب “المؤتمر الوطني” للعودة إلى السلطة، وفي سبيل تحقيق ذلك فقد قام بتوظيف التناقضات الداخلية وتعددية الهيئات العسكرية الرسمية (الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع) في سبيل إحداث فوضى شاملة داخل الدولة، بهدف إجهاض ثورة ديسمبر (2019)، ومن ثم يُصر “المؤتمر الوطني” على فكرة الحسم العسكري بغية إقصاء طرف بصورة نهائية وضمان تواجدهم في السلطة.
وفي هذا السياق، أوضح رئيس الوفد الدكتور “حمدوك” أن ما يتعرض له السودان من أزمة غير مسبوقة خلفت الآلاف من الضحايا وتسببت في نزوح الملايين؛ ناتج بصورة رئيسية عن عقود ماضية من الاستبداد ومساعي النظام السابق للعودة إلى السلطة، وهذا الأمر يُمثل تهديدًا لثورة ديسمبر 2019.
لقد أكّد الوفد السوداني أن بقايا نظام الإنقاذ هي المتسبب الرئيس في الأزمة الطاحنة التي يشهدها السودان، ولعل قدرتها على التأثير نابعة بصورة كبيرة من تغلغلها داخل مفاصل وأركان الدولة وخاصةً المؤسسة العسكرية بفضل ما قام به نظام “البشير” من تطبيق برامج التمكين السياسي والاقتصادي والعسكري في السودان على مدار 30 عامًا لهذه الجماعة، مبينًا أن أبعاد هذا الأمر تتجلى في الوقت الراهن فيما أنتجه مسار الحرب الراهنة من بروز العديد من الجماعات على الأرض (مثل: كتائب البراق، وكتائب البنيان المرصوص، وهيئة العمليات) والتي تشكل رقمًا هامًا في الحرب الدائرة.
واتصالًا بهذا السياق، فقد أكد خبراء المركز المصري على أن جنوح الأزمة لمسار الصراع المسلح هو أمر يدفع السودان إلى الهاوية، وينعكس بصورة سلبية ليس فقط على الأمن الداخلي ولكن على الأمن الإقليمي والدولي، مع التأكيد على أن الأزمة الأخيرة تُعتبر أزمة مصرية بسبب الارتباط الاستراتيجي والمصير بين الدولتين، وهذا واقع بين الجانبين سيبقى ويظل، ولذا سيتم مجابهة التحديات معًا.
أبعاد متعددة ومخاطر الانزلاق إلى الهاوية
إن تنامي الصراع المسلح مع استمرارية خطاب الكراهية الراهن من شأنه أن يؤجج الحرب الأهلية، وهو أمر من شأنه أن يؤدي حال استمراره إلى تفتت السودان، كما سيؤدي استمرار الحرب إلى مرحلة اللا دولة. وارتباطًا بهذا الأمر، فقد سلط الوفد السوداني الضوء على الانعكاسات المختلفة الناتجة عن الأزمة السودانية، فما بين القضايا الإنسانية التي تجسدت في نزوح أكثر من ثمانية ملايين مواطن مع وجود نحو 2 مليون لاجئ سوداني وتعرض نحو أكثر من 25 مليون مواطن لخطر المجاعة، هناك خطر أكثر بروزًا وهو احتمالية انزلاق السودان إلى الهاوية والانهيار في ظل عدم التوصل إلى اتفاق لإنهاء الصراع المسلح. ولعل السابق سينعكس بطبيعة الحال على الأمن الإقليمي وعلى منطقة البحر الأحمر، خاصةً وأن السودان همزة الوصل بين غرب أفريقيا التي يتواجد بها تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش” وحركة الشباب الصومالية في شرق أفريقيا، ومن ثم فإن انهيار الدولة سيخلق حالة سيولة أمنية وتدفقات لموجات من الإرهاب.
مسارات التفاوض وآفاق التقدم
تتعدد المسارات والأطر التفاوضية التي تسعى لتوافق طرفي الصراع في السودان على وقف إطلاق النار. ومؤخرًا، حقّق مسار المنامة تقدمًا نوعيًا في معالجة الأزمة خاصةً في ظل الدعم الإقليمي الكبير، وقد ساهم ذلك بصورة كبيرة في إحراز تقدمٍ فيما يتعلق بالتوافق بشأن وقف العدائيات والصراع المسلح، وبشأن طيف واسع من القضايا الخلافية العسكرية والسياسية.
إنّ منبر المنامة بات نقطة هامة وحيوية في الجلوس لطاولة التفاوض لمعالجة أبعاد الصراع وإقرار لوقف إطلاق النار يستهدف إقناع الأطراف المنخرطة في الصراع بتقديم تنازلات والعمل على معالجة الصراع، وهو ما أكده الوفد السوداني الذي أبدى أهمية بذل الجهود من أجل استمرارية منصة “المنامة” أو البناء عليها، بغية التوصل إلى إعلان مبادئ يتم التوقيع عليه من الأطراف والقوى المدنية يساهم في تحريك المشهد بصورة تدفع للإنهاء العاجل للصراع.
وارتباطًا بالسابق، فقد أكد خبراء المركز المصري على أن السودان يُمثل بالنسبة لمصر إحدى أهم الأولويات، وأن مصر قيادة وشعبًا في قمة الانشغال بما يحدث في السودان، وأن هناك حرصًا مصريًا على أن يكون هناك استقرار وأمن في السودان، ومن المهم الدفع في مسار الحل التفاوضي التوافقي السياسي لكونه المخرج الوحيد للأزمة، وبدون تنسيق الجهود وتوحيد المبادرات من المحتمل أن يعاني السودان من أزمة وجود، وأن الدولة التي تنهار لن تقوم لها قائمة مرة أخرى، وتحتاج إلى عقود حتى تعود مرة أخرى، ومصر لديها حرص على تماسك الدولة السودانية وعدم سقوطها.
وفي الختام، تم التأكيد من الجانبين على أهمية الدور المصري في دعم محاولات تسوية الأزمة السودانية بالتنسيق مع الفاعلين الإقليمين من أجل استباق مسار الانهيار والانزلاق للهاوية عبر البناء على ما آلت إليه منصة “المنامة” الداعم للحل السياسي واستكمال التفاوض، حفاظًا على وحدة وسيادة السودان.