شهّدت مناطق التماس بمحيط الجدار الرملي الفاصل بين القوات الملكية المغربية وبين الأقاليم الجنوبية التي تتمركز بها جبهة البوليساريو وتحديدًا “مدينة تندوف”؛ تصعيدًا محدودًا من جانب عناصر الجبهة عبر محاولة استهداف تمركزات القوات الملكية المغربية؛ والتي تجلت في عمليتين عسكريتين في منطقة “المحبس” وقطاع “الكلتة” الواقعتين تحت سيطرة القوات المغربية على طول وخلف الجدار الرملي، وذلك في (التاسع، الثامن عشر) من نوفمبر 2024.
ولعل هذه العمليات التي يمكن وصفها بأنها “نمطية” اعتادت “البوليساريو” على شنها منذ إعلان انسحابها الأحادي من قرار وقف إطلاق النار الموّقع عام 1990 عقب عملية الكركرات في نوفمبر 2020 – تأتي في ضوء المتغيرات السياسية/ الدبلوماسية أو العسكرية/ الميدانية الراهنة التي يشهدها ملف الصحراء الغربية، وكذلك تأتي بصورة دورية بالتزامن مع الخطاب الملكي السنوي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، وهذا في ضوء رغبة جبهة البوليساريو في إقرار وجودها وعدم تطبيق سياسة الأمر الواقع التي باتت تلوح في الأفق لتصفية مسار القضية الصحراوية.
طبيعة التصعيد العسكري
بالنظر إلى العملية العسكرية التي قامت بها “البوليساريو” فقد نفذت باستخدام صواريخ تتراوح وفقًا للتقديرات ما بين (أربعة إلى سبعة صواريخ) تم إطلاقها بصورة عشوائية بالقرب من مناطق مدينة في مدينة “المحبس” وتم استخدام عربات الدفع الرباعي في تنفيذ هذا الهجوم، وقد نجحت القوات المغربية عقب ذلك الاستهداف في التصدي للمنفذين باستخدام طائرة مسيرة واستهداف سيارتهم في منطقة “قليبة الفولة” الواقعة شرق الجدار الرملي على مقربة من مدينة الداخلة بنحو 150 كم.
عطفًا على السابق، وباستقراء النطاق الجغرافي المتمثل في منطقة “المحبس” اعتادت الجبهة استهدافها لكونها الأقرب لمناطق تمركزها في مدينة “تندوف الجزائرية”؛ حيث تقع على قرابة نحو 90 كم، وهي النقطة الأقرب من قواعد البوليساريو ويسهل اختراقها من أجل تنفيذ عمليات مسلحة، إلى جانب أن تلك المنطقة لها أهمية استراتيجية تتمثل في جغرافية المدينة ذاتها؛ حيث تُمثل نقطة سيطرة للجيش المغربي يستطيع من خلالها إغلاق الطرق المؤدية إلى شرق الجدار الرملي.
ويمكن من خلال السابق القول إن جبهة البوليساريو لا تزال تعتمد على تكتيك حرب العصابات التي تقبع تحت مظلة المناوشات المستندة للهجوم والانسحاب، وذلك في مواقع صغيرة على طول الجدار الرملي، في ضوء افتقاد الجبهة لقدرات عسكرية متطورة سواء عبر الأسلحة الجوية أو الأسلحة الثقيلة القادرة على اختراق الجزء الأخر من الجدار، أيضًا فإن محدود العمليات (كما تم في الحادثتين الاعتماد على سيارات دفع رباعي محدودة العدد) يأتي في ظل عدم قدرة الجبهة على نشر عملياتي لقواتها على طول الخط الرملي لتخوفات من خطر التدمير عبر القوات الجوية الملكية أو المسيرات.
يقابل هذا النهج رد فعل هادئ ومنظم من جانب المغرب في الرد على العمليات؛ حيث لم توسع الرباط من نطاق ردها العسكري بل اقتصرت على منفذي العملية، ولعل هذا الأمر يبرهن على رغبة المغرب في رصد وتوثيق العمليات التي تقوم بها البوليساريو للاستناد عليها في المحافل الدولية والتي ربما تدفع بها المملكة المغربية في سبيل تعديل وضع المنطقة العازلة قانونيًا.
وبالنظر إلى أغراض التصعيد (المحدودة) من جانب جبهة البوليساريو يأتي ضمن جملة من الأهداف والتي يمكن توضيحها في الآتي:
- معالجة حالة الإحباط السياسي والشعبي التي يشهدها الشعب الصحراوي نتيجة افتقاد متراكم للثقة في قدرة قيادة جبهة البوليساريو على تحقيق مطالب الاستقلال والانفصال، مقابل نجاحات المغرب دبلوماسيًا وتنمويًا داخل الأقاليم الجنوبية، خاصةً وأن ذلك الاستهداف يأتي بالتزامن مع الاحتفالات المغربية بالمسيرة الخضراء الذكرى 49، وهذا الأمر يعزز من فرضية أن توقيت الاستهداف يأتي في سياق رغبة البوليساريو لتوظيف إعلامي واسع مع الاستهداف لإقرار وجوده.
- الأمر الثاني وبالنظر إلى جغرافية الاستهداف فهي تقع في منطقة “المحبس” وهذه المنطقة تتسم بكونها الحاضنة الرئيسية لعمليات أو مناورات الأسد الأفريقي التي تستضيفها الرباط كل عام بالشراكة مع الكثير من دول العالم، وتُشكل أبرز المناورات العسكرية التي تشهدها أفريقيا؛ حيث تستضيف المغرب خلال العام الحالي أعمال اجتماع التخطيط الرئيسي للمناورات العسكرية في هذه المدينة خلال الفترة من 18- 22 (نوفمبر 2024) وفقًا لما صرّحت به القيادة العليا للمنطقة الجنوبية في “أغادير”.
سياق ودلالات ضاغطة
إن العمليات العسكرية التي قامت بها “جبهة البوليساريو” تأتي تزامنًا مع جملة من المعطيات أو المحفزات التي تنشط من خلالها الجبهة وتتمثل تلك المتغيرات في الآتي:
- التطويق العسكري الميداني المغربي: عززت المغرب من تمركز قواتها العسكرية على المستوى الميداني خلال العامين الماضيين؛ حيث أنشأت منطقتين عسكريتين الأولى في الجنوب ومقرها “أغادير” وترتبط بصورة كبيرة بحالة الصراع المسلح مع جبهة البوليساريو، والثانية كتكتيك للردع مع الجزائر وتقع في الشرق ومقرها “وجدة” وامتداد استراتيجي للمنطقة الجنوبية، وأداة للدفاع في هذه الناحية حال قيام عمليات تصعيد عسكرية على الحدود المغربية الجزائرية.
إضافة إلى التطورات الميدانية خلال الأشهر القليلة الماضية من عام (2024) التي قام بها الجيش المغربي في تعزيز تموضعه غرب الجدار الرملي وذلك للتصدي لأي تهديدات عسكرية محتملة من جانب جبهة البوليساريو؛ حيث باتت هناك تطورات عسكرية شرق الجدار الرملي إذ إن الحيش الملكي وعقب إخطار لبعثة المينورسو في 22 فبراير 2024 بقرار إزالة جزء يبلغ طوله نحو 1250 مترًا من الجدار الرملي الواقع في قطاع أمغالا الفرعي على بعد 40 كم جنوب تمركز البعثة في منطقة السمارة، لتحسين الرؤية والاستجابة السريعة لوحدات القوات الملكية لأي تحركات مضادة من جبهة البوليساريو، وكذلك التوسع العسكري الميداني حيث رصدت بعثة “المينورسو” وجودًا لمعسكرين جديدين لقوات المغربية في منطقة “أوسرد” تضم مركبات مدرعة ومدفعية على بعد 5 كم من الجدار الرملي وذلك في ضوء مواجهة أعمال الإصلاح والتهديدات التي تشكلها جبهة البوليسار في هذا النطاق والتي تقع ضمن التدابير الوقائية والمؤقتة الضرورية التي تتخذها المغرب لحماية التراب الوطني.
- الانتقال من استراتيجية التدبير إلى استراتيجية التغيير: واحدة من بين المتغيرات التي شهدتها أقاليم الصحراء الغربية وزادت من حدة الضغط على جبهة البوليساريو، هو ما تبنته الرباط من استراتيجية التغيير في الأقاليم الجنوبية بها عبر استراتيجيات التنمية المختلفة ومشاريع البنية التحتية، وتجلت معالم ذلك في المبادرة التي أطلقها المغرب (جنوب – جنوب) أو المبادرة الأطلسية الرامية لولوج دول الساحل والصحراء إلى جنوب الأطلسي، وما تبعها من تغيرات في مواقف دول الساحل منها تشاد التي افتتحت قنصلية لها في مدينة العيون (أغسطس 2024) والتي تعزز تطوير البنى التحتية والمشاريع الاستثمارية في الأقاليم الجنوبية.
علاوة على مبادرة التنمية المختلفة للأقاليم الجنوبية التي برزت بشكل واضح في خطة الملك محمد السادس من خلال برنامج التنمية للأقاليم الجنوبية التي وضعه في عام 2015 وبصورة خاصة في منطقة العيون الساقية الحمراء والداخلة بميزانية تقدر بنحو 77 مليار درهم (نحو 8 مليارات دولار أمريكي) والتي تستهدف من خلالها المملكة تسريع وتيرة التنمية داخل تلك الأقاليم وربطها بريًا وبحريًا بين الدار البيضاء والداخلة، عبر مشاريع استثمارية ضخمة منها ميناء الداخلة الأطلسي والطرق البرية، وذلك ضمن رؤية المملكة لخلق واقع تنموي يعزز من تمرير الحل السياسي المستدام للصراع، وتأتي خطط التنمية في سبيل جذب القوى الغربية لدعم مبادرة الحكم الذاتي في ضوء ما تمثله الأقاليم الجنوبية من مدخل استراتيجي للعديد من تلك القوى (فرنسا والولايات المتحدة) لبناء استراتيجياتها في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
- تجديد مجلس الأمن الدول لمهمة بعثة المينورسو: بموجب القرار رقم (2756) الصادر في (31 أكتوبر 2024) الذي تبناه مجلس الأمن عام آخر بداية من نوفمبر 2024 تم تمديد عام آخر للبعثة في الصحراء الغربية، وهو الأمر الذي استنكرته جبهة البوليساريو التي رفضت المشاركة في أي مشاورات للسلام تجريها البعثة الأممية في ضوء غياب أُطر قانونية واضحة تستند إلى قرار وقف إطلاق النار لعام 1991 وأن قضية الصحراء هي قضية تصفية استعمار وكذلك على قرارات الجمعية العام وخطة التسوية، ورفض مقترح الحكم الذاتي، في إطار الاعتبارات التي وردت في القرار رقم 2756 منها دمغ طابع شرعي نسبيًا (ضمنيًا) للتطور الراهن في مسار قضية الصحراء الغربية إذ إنه أكد على أن الحل السياسي لا يمكن أن يكون إلا واقعيًا وبراغماتيًا ودائمًا وقائمًا على التوافق، وهذا يتحقق في ضوء مبادرة الحكم الذاتي، إلى جانب أن ذلك القرار أكد أهمية البناء على الزخم الأخير في مسار قضية الصحراء الغربية.
وفي التقدير، إن طبيعة الهجمات التي قامت بها جبهة البوليساريو لا تخرج عن كونها هجمات رمزية ليس لها تأثير ميداني واضح، وإنما تحمل في طياتها رسائل عن استمرارية وجود الجبهة كمدافع عن حقوق الشعب الصحراوي لتحقيق تماسك داخلي وعدم افتقاد الثقة فيها من جانب الشعب الصحراوي، بعدما راكم المغرب تقدمًا دبلوماسيًا في هذا الملف بتبدّلات المواقف الدبلوماسية للفاعلين المؤثرين في دائرة الصحراء الغربية وآخرها (فرنسا) التي اعترفت بالمبادرة المغربية في الحكم الذاتي وفرض سيادة الرباط على الأقاليم الصحراوية المتنازع عليها.
كما تحمل هذه الهجمات رسائل للمدافعين/ الداعمين للجبهة بقدرتها على إحداث تأثير، وذلك للحفاظ على استمرارية الدعم بأشكاله المختلفة (السياسي/ الإعلامي/ العسكري واللوجستي)، لكن بكل الأحوال لا تؤثر تلك الهجمات في واقع المتغيرات الراهنة في الصحراء الغربية ولا يمكن مقارنة تلك العمليات بحادثة مثل “معبر الكركرات” التي وقعت في نوفمبر 2020، كما أنه من غير المرجح تبني الجزائر لخيار التصعيد العسكري عبر “البوليساريو” في الصحراء الغربية في ظل غياب مساعي الرباط لحسم الأمر بالقوة العسكرية وفرض سياسة الأمر الواقع، إلى جانب افتقاد “البوليساريو” لقدراتها على شن حرب هجينة تدمج بين حرب العصابات وبين الأسلحة الثقيلة، عقب افتقاد الجبهة لتحديث معداتها العسكرية الثقيلة.
ويمكن البناء على السابق والقول، إن غياب إحراز أي تقدم لتحريك المياه الساكنة والجلوس لطاولة المفاوضات لإنهاء ذلك الصراع وذلك لغياب إطار مشترك للتفاوض في ظل تمسك كل طرف برؤيته (الاستقلال- الحكم الذاتي وفرض السيادة المغربية) إلى جانب غياب أي تفاهم أو حوار وتواصل بين الفاعلين المؤثرين (الجزائر والمغرب)، فضلًا عن التطورات المتلاحقة دبلوماسيًا من قِبل الفاعلين الدوليين المؤثرين وتوجههم لدعم المبادرة المغربية – يُنذر بشكل كبير بأن هناك رغبة دولية في حسم ملف الصحراء الغربية بإقرار سياسة الأمر الواقع التي تتبناها المغرب بعدما حققت أمرين؛ تبدّلات دبلوماسية داعمة لموقفها، وتغيرات ميدانية عسكرية وتنموية.