غرض الجماعة الدولية في أي زمان هو احترام الالتزامات الدولية والحفاظ على السلم والأمن الدوليين والعمل على احترام كافة أشخاص القانون الدولي لذلك، وتوقيع الجزاء على المخالف والعمل على مكافحة الجرائم الدولية من خلال قضاء دولي جنائي مهمته ردع المجرمين الدوليين.
نتيجة لانتهاك الأفراد لقواعد القانون الدولي والتطور السريع للجريمة الدولية تطورت قواعد المسئولية الدولية لتواجهه ذلك التطور واعتبرت الشخص في هذه الحالة شخصًا من أشخاص القانون الدولي وممكن أن يكون محلًا للخطاب بقاعدة قانونية جنائية دولية.
في نوفمبر 2023، قدمت جنوب أفريقيا وبنغلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي طلبات للمحكمة الجنائية الدولية، للتحقيق في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، في قطاع غزة والضفة الغربية، وأعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه تلقى إحالة من الخمس دول بشأن الوضع في دولة فلسطين وبتلقي الإحالة، أكد أنه يُجري تحقيقًا واسعًا للوضع في دولة فلسطين،
وأكد المدعي العام للمحكمة أنه وفقًا لنظام روما الأساسي يتمتع مكتبه بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة على أراضي دولة طرف في المحكمة وفيما يتعلق بمواطني الدول الأطراف وهو ما ينطبق على دولة فلسطين، فهي طرف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية منذ الأول من أبريل 2015، لذا فهي مختصة بالتحقيق في الجرائم الخاضعة لولايتها والتي وقعت على أراضي الدولة الفلسطينية.
وفي يناير الماضي، انضمت المكسيك وتشيلي إلى الدعوات للمطالبة بإجراء تحقيق من جانب المحكمة الجنائية الدولية في جرائم حرب محتملة خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، وفي مارس الماضي قدم تحالف دولي ملفًا قانونيًا شاملًا مشتركًا حول ارتكاب القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وبذلك تكون قوات الاحتلال الإسرائيلية ارتكبت معظم الجرائم الدولية من جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد إنسانية، وجرائم حرب وهي الجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي 1998 والذي يعد ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
وقد قام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ببدء تحقيق بشأن الحالة في فلسطين 3 مارس 2021 الذي يشمل السلوك الذي قد يرقى إلى مستوى الجرائم الدولية والتي تم ارتكابها منذ 13 يونيو 2014 في غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وهي الجرائم الممتدة لتشمل تصعيد الأعمال العدائية والعنف منذ هجمات السابع من أكتوبر 2023 وفقًا للمحكمة.
وفي ٢٠ مايو ٢٠٢٤ أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية طلبات للدائرة الأولى بالمحكمة لإصدار أوامر قبض وتوجيه الاتهام إلى كلا من نتنياهو، غالانت وذلك لمشاركتهم في ارتكاب الجرائم ولكونهما رئيسين مباشرين وعملا بالمادتين ( 25، 26 ) من نظام روما الأساسي، وأكد أن لديه أسبابًا معقولة بأن نتنياهو، ويوآف غالانت وزير الدفاع الاسرائيلي يتحملان المسئولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في قطاع غزة اعتبارًا من ٧ أكتوبر، فقد استخدم تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة (8) من نظام روما الأساسي، وكذلك تعمد إحداث معاناة شديدة وإلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة وكذلك القتل العمد وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين وجرائم إبادة بما يخالف المادة (7) من نظام روما الأساسي وكذلك تم الاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية والأفعال اللا إنسانية الأخرى، وكل ذلك ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي موجه ضد السكان المدنيين الفلسطينيين إعمالًا بسياسة الدولة وتلك الجرائم لا تزال مستمرة حتى الآن وهو يعد بمثابة عقاب جماعي للسكان المدنيين في غزة كوسيلة للتخلص من حماس ولضمان عودة الرهائن الذين اختطفتهم حماس وهو ما أكده المدعي بظهور مجاعات في بعض المناطق في غزة وأوشكت على الظهور في مناطق أخرى.
وهو ما أدى إلى حالة من القلق في الأوساط الإسرائيلية، وأن الحكومة الإسرائيلية تدرس بقلق احتمال صدور مذكرات اعتقال دولية بحق نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت.
التحليل القانوني لقرارات المدعي العام للمحكمة
في أعقاب كل جريمة من الجرائم الدولية ترتكب بحق جماعة تظهر المطالبات من أجل ملاحقة الأشخاص المتسببين بارتكاب هذه الجرائم وإثارة المسئولية الجنائية الدولية في مواجهتهم عقابًا لما ارتكبوه من أفعال تشكل جرائم دولية وقد طبقت تلك المسئولية على الصعيد الدولي في حالات كثيرة. ولا يحق للقادة الإسرائيليين التمسك بصفتهم الرسمية والحصانة في مواجهة أحكام المحكمة الجنائية الدولية حيث، إن المسئولية الجنائية الدولية للأفراد تنشأ على عاتق ممثلي الدولة سواء كانوا سياسيين أو عسكريين ويرتكبون جرائمهم باسم الدولة أو أي شخص من أشخاص القانون الدولي أو يرتكبون أي انتهاكات للقانون الدولي الإنساني في أثناء تنفيذهم للأعمال الحربية أو إدارتها أو أي سلوك يجرمه القانون الدولي الجنائي، وهو ما ذهبت إليه المحكمة الجنائية الدولية في المادة (27) حيث نصت على تطبيق النظام الأساسي للمحكمة على جميع الأشخاص دون تمييز بسبب الصفة الرسمية سواء كان الشخص رئيسًا للدولة أو حكومة أو عضوًا في الحكومة أو البرلمان أو موظفًا حكوميًا، ففي كل الأحوال لن يعفى مرتكب الجُرم الدولي من المسئولية الجنائية بموجب النظام الأساسي للمحكمة ولا تشكل تلك الصفات سببًا لتخفيف العقوبة، وأضافت المادة أيضًا أن الحصانات والقواعد الإجرائية التي ترتبط بتلك الصفات الرسمية للشخص سواء في القانون الوطني أو الدولي لا تحول دون ممارسة المحكمة لاختصاصها على هذا الشخص. فالمادة السابقة وضحت بشكل لا يجعل مجالًا للبس في التعريف أو المحاكمة صفة مرتكب الجريمة أو حصانته لا تكون حائل أمام محاكمته.
وهو ما نرى معه عدم أحقية نتنياهو وقادة الاحتلال الإسرائيلي بالتمسك بصفتهم؛ حيث إن الصفة الرسمية والحصانة هما صفتان لا يكتسبهم أي شخص
وفي تقديرنا أن هذه الصفات تكون سببًا لتشديد العقاب لا تخفيفه؛ نظرًا لأن من يكتسب هذه الصفات يكون لديه من المعلومات والآراء التي توضح له أن ما يرتكبه يعد جُرمًا دوليًا ويكون مصرًا على ذلك الفعل وكذلك يأمر مرئوسيه بذلك؛ مما يزيد من فداحة الأضرار والخسائر خصوصًا بالنسبة للجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها قوات الاحتلال في قطاع غزة.
وجاءت المادة (28) من النظام الأساسي للمحكمة تؤكد على أن هناك أسبابًا أخرى للمسئولية الجنائية عن الجرائم التي تدخل في نظام المحكمة فالقائد العسكري أو القائم بأعماله يكون مسئولًا جنائيًا أمام المحكمة عن الجرائم التي يرتكبها من جانب القوات التي تخضع لأوامره، ولا یُعفی الشخص الذي ارتكب جُرمًا دوليًا من المسئولية کونه قد تصرف باعتباره رئيس الدولة أو الحكومة أو مسئولًا حكوميًا، ووفقًا لهذا المبدأ فإن الصفة الرسمية لمرتكب الجريمة الدولية لا يعد سببًا للإعفاء من العقاب.
فالقانون الدولي الجنائي لا يعترف بالحصانة للإعفاء من المساءلة لأن الجميع متساوٍ أمام القانون وحتى لا يفسح المجال للتهرب من المسئولية عن ارتكاب الجرائم الدولية تحت ذريعة الحصانة.
وهو ما أدى إلى قيام الحكومة الإسرائيلية بتحذير إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من أنها ستتخذ إجراءات انتقامية تؤدي لانهيار السلطة الفلسطينية حال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين.
وهو ما يعرقل عملية السلام في الشرق الأوسط ويضع الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأول لدولة الاحتلال الإسرائيلي في وضع حرج أمام الرأي العام العالمي إزاء دورها في حرب غزة ومساندتها لإسرائيل بكافة الطرق واستخدامها لحق الفيتو لصالح إسرائيل في مجلس الأمن خمس مرات منذ اندلاع طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023 وهو ما سينعكس على عملية السلام في الشرق الأوسط ويعرقل أي إجراء في ذلك.
وكذلك نرى أن قرار المدعي العام لم يتضمن أي بيان عن جريمة التهجير القسري للمدنيين في قطاع غزة وهي من إحدى الجرائم ضد الإنسانية الخاضعة للنظام الأساسي للمحكمة، فالعبرة بإرغام السكان قسرًا على نقلهم من مكان لآخر دون رضاهم، ويكون الإرغام ليس بالقوة المادية فقط، فممكن أن يتخذ أشكالًا أخرى كالتهديد باقتراف أفعال إجرامية ضدهم أو استغلال بيئة قسرية وهو ما تفعله دولة الاحتلال في قطاع غزة.
مآلات قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية
أولًا: إذا أصدرت المحكمة حكمها ضد القادة الإسرائيليين فإننا نكون أمام أمر اعتقال للقادة الإسرائيليين؛ مما يعني منع المسئولين الإسرائيليين من السفر إلى 124 دولة أعضاء في المحكمة الجنائية فعدم عضوية إسرائيل في المحكمة الجنائية لا يمنع اعتقالهم على إقليم الدول الأعضاء.
ففي ظل قواعد القانون الدولي عامةً والقانون الدولي الجنائي والقانون الدولي الإنساني وهو ما خرقتهم دولة الاحتلال جميعًا بانتهاكها لجميع الأعراف والمواثيق الدولية وخرقها للقانون الدولي لحقوق الإنسان المتمثل في ارتكاب الجرائم الدولية بحق الفلسطينيين في غياب ضوابط العمليات العسكرية برًا وجوًا كون العمليات العسكرية موجهة إلى تدمير القطاع وقتل أبنائه وعرقلة عملية السلام والهدنة.
ثانيًا: ستنغلق إسرائيل على قادتها في حال صدور بحقهم مذكرات اعتقال، فلن يستطيعوا السفر إلى أي دولة في العالم إلا التي ترضى بأن تستقبل مجرمي جرائم دولية فمعظم الدول الأوروبية هي جزء من نظام روما الأساسي، وبالتالي هي ملزمة باعتقال من يصدر بحقه مذكرة اعتقال.
ثالثًا: توجيه الاتهام إلى إسرائيل للمرة الثانية من محكمة دولية غير محكمة العدل الدولية فالمحكمة الجنائية الدولية في حالة صدور أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل وقيام محكمة العدل الدولية إصدار آراء استشارية وأحكام فيما بعد بشأن قيام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد إنسانية في فلسطين عمومًا وقطاع غزة خصوصًا، سوف تكون سابقة دولية إصدار أوامر من محكمتين دوليتين؛ الأولى: ضد قاده الدولة، وتكون من المحكمة الجنائية الدولية، وثانيها: صدور أحكام من محكمة العدل الدولية ضد دولة الاحتلال نفسها نتيجة لقيامها بخرق القانون الدولي وإتيانها جرائم دولية.
دكتور القانون الدولي العام