يترقب الجميع كيف سيكون الرد الإسرائيلى على هجمات إيران الصاروخية فى الأول من أكتوبر، التى وجهت أساسا لمنشآت عسكرية، اعترف بحدوثها جيش الاحتلال الإسرائيلى، مع التقليل من حجم الخسائر التى حدثت. الاعتراف الإسرائيلى بتضرر مطارات عسكرية تنطلق منها الطائرات الإسرائيلية أمريكية الصنع من طرازى اف 16 و اف 35، لتضرب بعنف بالغ أهدافا مدنية فى قطاع غزة ولبنان وسوريا واليمن، جاء بعد نفى لعدة أيام من حدوث الهجوم الإيراني. المؤكد أن الاعتراف بعد تجاهل ونفى يُعد عنصرا مكملا ومشوقا أيضا فى إطار التحضير لضربة إسرائيلية مضادة، قد تحدث قريبا. فالنفى والتجاهل لأسباب تتعلق بعدم تصدير الخوف والانكسار للمجتمع الإسرائيلى، وُجد أنه لا يفيد فيما يتعلق بتبرير أى عملية عسكرية مضادة، ومن ثم جاء الاعتراف بحدوث خسائر فى مطارات عسكرية نتيجة الصواريخ الإيرانية كجزء من رسالة تستهدف القيام بعمل مضاد، والنظر إليه كحق مشروع للدفاع عن النفس، لعله يخفف الانتقادات التى توجه لإسرائيل من قبل دول ومؤسسات دولية مختلفة. وتثبت تصريحات نيتانياهو رئيس وزراء الكيان المتكررة بشأن ما يصفه بالتهديد الإيرانى، أن ثمة شعورا طاغيا لدى كيان الاحتلال بأن تلك فرصة كبيرة لتوجيه ضربات قاصمة لإيران ولمشروعها النووى تحديدا.
الرغبة فى الرد الإسرائيلى القوى والحاسم وفقا للتعبيرات المتداولة على ألسنة نخبة الحرب وإعلاميى الكيان، تعكس فى جانب منها شعورا خفيا بأن الردع الإسرائيلى بات ضعيفا ولم يعد يمثل عنصر ضغط على أى من الجهات والدول الكارهة لدولة الاحتلال والراغبة فى زوالها، وهو ضعف بات هيكليا منذ السابع من أكتوبر 2023، حين وجهت حركة حماس ضربتها الكبرى نصرة للأقصى. فقدان كيان الاحتلال ثقته فى قوة الردع ضد من يصفهم بالأعداء وضد إيران تحديدا، يمثل فى الواقع أكبر مُحفز لتوجيه رد يهين إيران، ومن ثم يعيد ترتيب علاقات القوى فى الإقليم لصالح الكيان من وجهة نظرهم.
رؤية إسرائيل وطموحها فى أن تقود ما يعتبره نيتانياهو عملية ترتيب كبرى للشرق الأوسط تتربع على قمته إسرائيل المنتصرة، وتلجأ إليها دول مختلفة لنيل بركة التحالف معها، انكسرت فعليا، وثبت أنها أوهام وافتراضات عبثية لا أساس لها لكى تصبح واقعا. فبالرغم من كل القتل الهمجى والإبادة الجماعية التى مارستها إسرائيل طوال العام المنصرم فى قطاع غزة، ما زالت حركة حماس موجودة على الأرض، حتى بالرغم من فقدانها العديد من مقاتليها، وما زالت إسرائيل عالقة فى القطاع، وليس لديها أى مخرج عملى يحقق لها أوهامها فى الانتصار الكاسح على الحركة وعلى الشعب الفلسطيني.
الأمر الثانى أن إسرائيل التى تتفاخر بأنها تواجه أكثر من مصدر لتهديد بقائها وأمن مواطنيها، تتجاهل تماما وعن عمد أن كل القدرات التى تستخدمها فى ضرب وقصف الأهداف المدنية كما هو الحال فى غزة وفى الضاحية الجنوبية لبيروت فى لبنان، هى قدرات أمريكية وغربية بالأساس، صحيح أن العنصر البشرى هو إسرائيلى استيطانى احتلالى يجيد توظيف تلك القدرات سواء المعلوماتية أو المادية كالأسلحة بكل أنواعها، لكنه فى حال قلة تلك الموارد الامريكية والغربية يصبح فاقدا للقدرة على حماية الحد الأدنى لبقائه ووجوده. وفى الوضع الراهن فلولا الكميات الهائلة من القذائف والصواريخ الامريكية والبريطانية وقطع الغيار للطائرات والمعدات، لما أمكن للكيان أن يمارس هذا القدر من الجنون والعبثية والعنف الراهن فى غزة ولبنان والضفة الغربية وغيرها، ولا أمكن له أن يرفض كل مبادرات وقف إطلاق النار التى طُرحت على مدى العام المنصرم. الأمر الأكثر أهمية فى أزمة الردع لدى الكيان ويُعترف به صراحة على لسان نيتانياهو يتجسد فى انتظار الدعم والمساندة لمواجهة أى رد إيرانى مضاد، خاصة فى حال الإقدام على ضربة غير محسوبة، ويعتبر نيتانياهو أن هؤلاء الداعمين لن يتخلوا عن إسرائيل أبدا، وكأنه يقر علنا بأن كيانه المريض لا يستطيع العيش ونشر الفساد فى الإقليم إلا بدعم سخى من الولايات المتحدة وحلفائها التابعين. وهنا تتجسد المفارقة الكبرى،إذ تسعى إسرائيل للعبث بمصير الإقليم لاستعادة توازنها النفسى، وفى الوقت ذاته تعترف بضعفها وهوانها واعتمادها المفرط على الولايات المتحدة وتابعيها.
والوجه المؤلم فى هذه المفارقة أن الولايات المتحدة التى تلتزم بأمن إسرائيل وحمايتها من المحاسبة الدولية على ما تقترفه من جرائم حرب وإبادة جماعية والاعتداء على سيادة دول أخرى، لا تستطيع فى ظل إدارة الرئيس بايدن، الحامى الأول للعبث الإسرائيلى، أن تحصل منها على ضمانات أو تعهدات بأن يكون هجومها على إيران مُراعيا للمصالح الأمريكية ذاتها فى المنطقة، بداية من تدفق النفط من منطقة الخليج بلا مشاكل، ومرورا بعدم التهور بقصف منشآت نووية إيرانية لما لذلك من تداعيات خطيرة ستضر الإقليم ككل بما فى ذلك إسرائيل ذاتها. وتبدو التوسلات الأمريكية للكيان بمراعاة النصائح الأمريكية، رمزا حيا على فقدان الدور العالمى الأمريكى، وسببا جوهريا لكثير من أصدقاء واشنطن للبحث عن أصدقاء دوليين آخرين، أكثر قدرة على لجم الهمجية الإسرائيلية. والقول هنا بأن نيتانياهو يستنزف قدرات الرئيس بايدن بالرغم من كل الدعم السياسى والعسكرى، مستغلا فى ذلك فترة الانتخابات الرئاسية وحرص المرشحين على عدم إغضاب الكيان أيا كانت ممارساته الخطيرة، هو قول صحيح نسبيا، والوجه الآخر له يكمن فى ضعف الرمز الشاغل للبيت الأبيض، وقبوله الإهانة مرة تلو أخرى، وفقدانه التام لإرادة التأثير على الكيان ومغامراته الخطيرة، التى حتما ستضع حدا لأبدية إسرائيل ومعها نفوذ أمريكى يتجه نحو الأفول والاختفاء.