زلزال سياسي، عار على نظام العدالة الدولية، احترام استقلالية المحكمة الجنائية واجب على كل الدول، قرار مشين يستحق العقاب على مَن أصدره ومَن يتعاون في تطبيقه، تذكّروا قانون لاهاي فقد يطبّق قريباً، قرار جرئ يبشر بتحقيق العدالة رغم صعوبات التنفيذ… ما سبق مجرد عينة مما قيل في شأن صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية باعتقال كلٍ من رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير الحرب الإسرائيلي المُقال يوآف غالانت، ومحمد ضيف، القائد العسكري في حركة «حماس»، رغم عدم اليقين بوجوده حياً.
تلك العينة المجملة تعكس ثلاثة تيارات كبرى في مواقف الدول، سواء المنضمة إلى المحكمة والتي ترحب بصدور المذكرة، وتعتبرها بشرى طيبة بشأن تفعيل نظام العدالة الدولية، والأبرز هنا ما صدر عن هولندا وجوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، وبالقطع يُعد موقف جنوب أفريقيا بارزاً في هذا الصدد. وتلك التي ترفضها من حيث المبدأ وتعادي كل ما يصدر عنها، اللهم إذا جاء بعضها متوافقاً مع مصالحها، ولو دعائياً وسياسياً، وتمثلها الولايات المتحدة وإسرائيل خير تمثيل. وثالثاً تيار يميل نسبياً إلى احترام قرارات المحكمة الجنائية، لكنه جزء من تحالف تقوده واشنطن، ومن ثم يواجه مشكلة أخلاقية في التأييد الكامل لقرارات المحكمة، ويفضّل المراوغة والصمت. وتبرز هنا مواقف إيطاليا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها الكثير.
وعلى الرغم من التفاوت الهائل في مبررات صدور المذكرة لكل من المتهمَيْن الإسرائيليَيْن، والمتهم الفلسطيني الحمساوي، فمجرد صدور المذكرة، رغم المساعي والمحاولات الحثيثة للضغط على قضاة المحكمة الجنائية لتجاهل الأمر، يمثل بالفعل نقطة فاصلة في نظام العدالة الدولية، مع اليقين أن تنفيذ القرار ليس بالأمر اليسير، خصوصاً بالنسبة للمسؤولَيْن الإسرائيليَيْن، اللذيْن يحظيان بدعم الولايات المتحدة الهائل، وتردد دول كبرى، في اتخاذ موقف واضح لتأييد مذكرة الاعتقال، والعمل على تنفيذها إن أتاحت الظروف لذلك.
بصدور مذكرة الاعتقال باتت الدول الموقّعة على نظام المحكمة الجنائية مُلزَمة سياسياً بعدم التعامل مع الأشخاص المطلوبين للعدالة، أو استقبالهم، أو حتى التصوير معهم، وتقديم كل الدعم للمحكمة لاعتقالهم وخضوعهم للمحاكمة العلنية. التزامات سياسية وقانونية ومعنوية، تؤدي عملياً إلى حصار وعزل الأشخاص المستهدفين، وهنا تتبلور الإشكالية الكبرى لرئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي اعتاد على رحلات للولايات المتحدة ولقاء كبار المسؤولين فيها والحصول منهم على كل أنواع الدعم السياسي والعسكري. صحيح أن رئيس المجر، وهو عضو في الاتحاد الأوروبي، انتقد القرار وعبَّر عن رغبته في استضافة نتنياهو، كخطوة عملية لازدراء قرار المحكمة، فإن إمكانية الزيارة في حد ذاتها تظل محل شك كبير، لا سيما أن خط سير الطائرة التي ستقل الضيف المعزول دولياً، ستمر من أجواء دول أوروبية أخرى قد ترفض مرور طائرة الضيف المتهم، وقد تُجبر الطائرة على تغيير مسارها، أو الهبوط ومن ثم اعتقال المتهم الدولي. وإن حدثت الزيارة بالفعل، يظل السؤال: ما هو العائد الذي ستحصل عليه المجر وضيفها المتهم دولياً بأبشع الجرائم وهي الإبادة والتجويع والقتل المتعمد لمجموعات من البشر ومنع الوقود واستهداف المستشفيات، وغير ذلك من الأفعال المشينة والمجرّمة دولياً؟
العائد المشوش الذي قد تحصل عليه المجر، في حال استقبلت المتهم المذكور، سيكون أضعافاً مضاعفة إن حدث أمر مماثل في الولايات المتحدة في بداية عهد الرئيس المنتخب دونالد ترمب، فالدور الأخلاقي الذي تدعيه واشنطن أمام العالم كله، بات في مأزق كبير بفعل المشاركة الفعلية في الحرب في قطاع غزة في العام الأخير لإدارة بايدن الراحلة، ومرشح لمزيد من التآكل المعنوي والسياسي. صحيح أن الرئيس ترمب وغالبية الأعضاء المرشحين في إدارته المقبلة لا يهمهم الدور الأخلاقي ولا القانون الدولي ولا النظام المتعدد الأطراف، ولا المؤسسات الدولية الجماعية، ولديهم مواقف مسبقة ومؤكدة تؤكد رفضهم هذه المؤسسات وما تستند إليه من مبادئ وقيم، والسخرية منها، وتهديد من يعلن انحيازه لها، بيد أن حدوث هذه الزيارة، سيجسد مأزقاً سياسياً غير مسبوق للولايات المتحدة ككل، وسيضع علامات استفهام لا حد لها بشأن ما يمكن أن تقدمه لأمن إسرائيل ذاتها وتماسكها الداخلي في ضوء رفض نتنياهو ووزراء اليمين الصهيوني المتطرف صفقة تنهي معاناة الأسرى لدى «حماس»، ناهيك عن التأثير العكسي على أمن المنطقة ككل وما تحتويه من مصالح أميركية كبرى، فما الذي يمكن تقديمه لمسؤول معزول دولياً ومرشح للاعتقال الدولي؟
حين يتأمل المرء عبارة «زلزال سياسي» المقترنة بمذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت الواردة في بعض ردود الفعل الدولية، يتجه التفكير مباشرة إلى أمرين رئيسيَيْن ومتشابكَيْن معاً. فالمذكرة صادرة عن مؤسسة دولية تجسد النظام الدولي المتعدد الأطراف ويفترض أنها تقوم بدور رئيسي في حماية النظام الدولي القائم منذ عام 1948، الذي تقوده الولايات المتحدة ذاتها، وحين يتم المساس بمثل هذه المؤسسات المتعددة الأطراف، فالنتيجة المباشرة هي تقويض النظام الدولي ككل، وهنا يبرز الموقف الأوروبي، الذي عبَّر عنه بوريل، والداعي إلى احترام قرارات المحكمة الجنائية باعتبارها احتراماً وحماية للنظام الدولي المتعدد الأطراف، وإلا فالبديل هو تراجعه ثم انهياره مع فوضى غير قابلة للسيطرة.
يلحق بذلك التصور، تصور خيالي آخر، لكنه أكثر تعقيداً يتعلق بما يعرف بقانون لاهاي الأميركي، والذي يتيح تدخلاً عسكرياً أميركياً ضد المحكمة الجنائية إن اعتقلت وحاكمت أحد الجنود الأميركيين أو مسؤولاً لدولة حليفة، فهل يُتصور أن تغزو أميركا دولة في «الناتو»؟ وإن حدث فكيف يكون مصير «الناتو» نفسه؟