تسببت النزاعات المتكررة في قطاع غزة في تدمير واسع للبنية التحتية الأساسية؛ مما أدى إلى أزمة إنسانية حادة وزيادة المعاناة اليومية للسكان. شملت الأضرار قطاعات حيوية مثل الكهرباء، المياه، الصرف الصحي، الطرق، والاتصالات، وغيرها الكثير من القطاعات الرئيسية. مما أثر بشكل مباشر في الخدمات الأساسية وأعاق جهود التنمية وإعادة الإعمار. يتطلب فهم حجم الدمار وضع خطط إعادة إعمار فاعلة تركز على الأولويات العاجلة وتعتمد على حلول مستدامة لمنع تكرار الأزمات.
تكلفة إعادة الإعمار
تتفاوت تقديرات تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة بناءً على السيناريوهات المختلفة، وذلك اعتمادًا على حجم الدمار والموارد المتاحة وسرعة التنفيذ، ويمكن النظر إلى السيناريوهات المختلفة لتقدير التكاليف الخاصة بإعادة إعمار غزة، والتي صدرت عن ثلاث مؤسسات رئيسية؛ وهي سيناريو الأمم المتحدة، وسيناريو تم طرحه خلال تقرير بحثي تم اعدادة من جانب مؤسسة “راند”، بالإضافة إلى سيناريوهات أخرى تم طرحها من جانب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
- سيناريو الأمم المتحدة: قدَّرت الأمم المتحدة حجم الضرر الذي لحق بالقطاع بحوالي 70%؛ الأمر الذي يرفع تكلفة إعادة الإعمار الخاصة به لتصل إلى أكثر من 51 مليار دولار، مع فترة زمنية تبلغ حوالي 15 عامًا، والتي تأخذ في الاعتبار إعادة إعمار كافة القطاعات، بالإضافة إلى عمليات رفع الركام، التي تُقدَّر بحوالي 50 مليون طن من الأنقاض.
- سيناريو مؤسسة “راند”: يأخذ هذا السيناريو في الاعتبار جميع النفقات المباشرة وغير المباشرة، بما في ذلك التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية طويلة المدى. وقد استند إلى رأي الخبير الاقتصادي “دانييل إيغل”، الذي يرى أن إعادة بناء المباني ممكنة، لكن إعادة بناء حياة مليون طفل تُعد تحديًا أكبر. وتُقدَّر التكلفة وفقًا لهذا السيناريو بأكثر من 80 مليار دولار، ولم يُشِر التقرير إلى مدة زمنية متوقعة للتنفيذ.
- تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة: تشمل هذه التقديرات الأضرار التي لحقت بالمباني السكنية، والمنشآت التجارية والصناعية، والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والطاقة، بالإضافة إلى تكلفة إزالة الأنقاض، التي تُقدَّر بحوالي 42 مليون طن. ويفترض السيناريو أن تلك التكاليف تبلغ حوالي 18.5 مليار دولار للأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية، بالإضافة إلى حوالي 42 مليون طن من الأنقاض، وقد تستغرق عمليات الإزالة سنوات، بتكلفة تصل إلى 700 مليون دولار.
تحليل سيناريوهات تمويل إعادة إعمار غزة
لا توجد منهجية موحدة لجمع التمويل من أجل إعادة الإعمار بعد الحروب، بل تعتمد الجهات المانحة والحكومات المستفيدة على مجموعة من الآليات المختلفة، ولكل منها عوامل داعمة لنجاحها. فيما يلي بعض الآليات الشائعة وما يساعدها على تحقيق نتائج فاعلة:
- التنفيذ المباشر من قبل الجهات المانحة: في هذا النموذج، تتولى الوكالات أو الحكومات المانحة تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار مباشرة؛ مما يمنحها سيطرة كاملة على التخطيط والتصميم والتنفيذ، يعتمد النجاح هنا على وجود قدرة مؤسسية قوية لدى الجهات المانحة داخل الدولة المستفيدة، وتوفر موظفين ذوي خبرة، بالإضافة إلى أنظمة صارمة لمراقبة الأداء والتقييم لضمان تنفيذ المشاريع بكفاءة وبما يتماشى مع الاحتياجات المحلية.
- آليات التمويل المشترك (مثل صناديق الائتمان متعددة المانحين): تعمل هذه الصناديق على جمع إسهامات عدة جهات مانحة في وعاء تمويلي واحد يُستخدم لتمويل جهود إعادة الإعمار، يعتمد نجاحها على وجود تنسيق قوي بين المانحين، وهياكل حوكمة شفافة، ومعايير واضحة لصرف الأموال. كما يعد ربط التمويل باستراتيجية وطنية للتعافي أمرًا ضروريًا لتعزيز الملكية المحلية وضمان الاستدامة.
- ترتيبات التمويل المشترك: يسهم كل من الجهات المانحة والحكومات المستفيدة (أو غيرها من الجهات المحلية) في تمويل مشاريع إعادة الإعمار، يكمن مفتاح النجاح في تحقيق توافق المصالح وضمان المساءلة المشتركة؛ مما لا يساعد فقط في توفير موارد إضافية، بل يعزز أيضًا القدرات المحلية والالتزام بالإصلاحات.
- تمرير التمويل عبر الوكالات الدولية: لجأ الجهات المانحة أحيانًا إلى تمرير أموالها عبر منظمات دولية راسخة (مثل وكالات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية الدولية) التي تتمتع بشبكات محلية قوية وخبرات تشغيلية متقدمة، يعتمد نجاح هذا النهج على قدرة هذه الوكالات على نشر الموارد بسرعة، والتكيف مع المتغيرات على أرض الواقع، والتنسيق الفعال مع الجهات المحلية.
- الاستثمار الخاص والشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPPs: غالبًا ما تسعى مشاريع إعادة الإعمار، خاصة في قطاع البنية التحتية، إلى جذب الاستثمارات الخاصة لتعزيز التمويل العام.
- المنح والإسهامات الخيرية: تقدم المؤسسات الخيرية والمنظمات غير الربحية منحًا تتميز بمرونة أكبر مقارنةً بأموال المانحين التقليديين، حيث تكون أقل تقيدًا بشروط صارمة، يعتمد نجاحها على القدرة على استهداف قطاعات معينة (مثل الصحة أو التعليم) والعمل عن كثب مع المجتمعات المحلية لضمان أن المشاريع تلبي الاحتياجات الحقيقية.
- القروض والمساعدات من المؤسسات المالية الدولية (IFIs) : توفر مؤسسات مثل البنك الدولي أو البنوك التنموية الإقليمية قروضًا ومنحًا غالبًا ما تكون مشروطة ببرامج إصلاح اقتصادي أوسع، تعتمد فاعلية هذا النموذج على ربط التمويل بإصلاحات تحسن الإدارة المالية، وضمان الاستخدام الفاعل للأموال، إلى جانب توفير الدعم الفني لمساعدة الحكومات المستفيدة في بناء أطر تعافٍ مستدامة.
السيناريو الأنسب لتمويل إعادة إعمار غزة
يبدو أن السيناريو الأنسب لتمويل إعادة إعمار قطاع غزة يتمثل في نهج هجين متعدد المانحين، يجمع بين عدة آليات تمويلية لمعالجة كل من الاحتياجات العاجلة وإعادة بناء المؤسسات والبنية التحتية على المدى الطويل. في الممارسة العملية، يشمل هذا النهج ما يلي:
- استخدام آلية تمويل مشترك – مثل صندوق ائتماني متعدد المانحين– يجمع إسهامات من المانحين الدوليين وأصحاب المصلحة الإقليميين وربما حتى الشركاء من القطاع الخاص، يتميز هذا النموذج بصرف الأموال بطريقة منسقة وربط التمويل باستراتيجية تعافٍ وطنية، وهو أمر بالغ الأهمية في سياق سياسي واقتصادي معقد مثل غزة.
- تمرير جزء من التمويل عبر وكالات دولية راسخة أو منظمات غير حكومية دولية موثوقة. تمتلك هذه الوكالات حضورًا محليًا وخبرة تشغيلية تتيح لها التعامل مع التحديات الأمنية والسياسية في غزة، كما أن دورها يعزز المساءلة ويساعد في ضمان إنفاق الأموال وفق الأولويات المتفق عليها.
- إدراج ترتيبات تمويل مشترك مع السلطات المحلية والمجتمع المدني لبناء الشعور بالملكية المحلية، وتصميم المشاريع وفق الاحتياجات الفعلية، وتعزيز هياكل الحوكمة المحلية بشكل تدريجي. عندما يسهم الشركاء المحليون ماليًا أو عينيًا، فإن ذلك لا يقتصر فقط على توفير موارد إضافية، بل يعزز أيضًا استدامة جهود إعادة الإعمار.
- دمج آليات شفافة للمساءلة والرقابة – بما في ذلك أنظمة صارمة للرصد والتقييم وإشراف مجتمعي– للحد من أخطار الفساد وسوء الإدارة التي أعاقت مبادرات إعادة الإعمار السابقة. يُعد هذا الأمر بالغ الأهمية في بيئة تتسم بتحديات سياسية وأمنية طويلة الأمد.
من الصعب تقديم تحديد دقيق لاحتمال نجاح أي سيناريو لتمويل إعادة الإعمار بعد الصراع ، خاصة في سياق معقد ومتقلب مثل غزة. ومع ذلك، استنادًا إلى تجارب سابقة في تدخلات مماثلة وقوة النهج الهجين المقترح، يمكن التقدير بحذر أنه إذا كان التصميم قويًا والتنفيذ منسقًا بشكل جيد، فقد تتراوح احتمالية النجاح بين 50 – 70%.
العوامل الرئيسية المؤثرة في هذا التقدير:
- تنسيق المانحين والمساءلة: أظهرت التجارب السابقة أن الصناديق الائتمانية متعددة المانحين، عند هيكلتها بشكل جيد مع رقابة صارمة وحوكمة شفافة، تعزز من فرص النجاح. إذا تحققت هذه الشروط، فستزيد احتمالات تحقيق النتائج المرجوة.
- الملكية المحلية والتمويل المشترك: يسهم إشراك السلطات المحلية والمجتمع المدني، إلى جانب ترتيبات التمويل المشترك، في تعزيز الاستدامة وضمان توافق المشاريع مع الاحتياجات الفعلية. يُعد الدعم المحلي ضروريًا للحفاظ على استمرارية الجهود بعد انتهاء فترة التمويل الأولية.
- تمرير التمويل عبر وكالات ذات خبرة: استخدام وكالات دولية أو منظمات غير حكومية دولية ذات خبرة في تقديم المساعدات في البيئات الصعبة يمكن أن يحسن من كفاءة التنفيذ والقدرة على التكيف؛ مما يزيد من فرص النجاح.
- البيئة الخارجية: يشكل عدم الاستقرار السياسي والأخطار الأمنية والضغوط الاقتصادية تحديات كبيرة قد تؤثر سلبًا في النتائج. هذه العوامل تجعل حتى الآليات التمويلية المصممة بعناية عرضة للصعوبات إذا لم يتحسن السياق العام.
عملية إعادة الإعمار بعد الصراع هي عملية شديدة التعقيد والصعوبة. وفي ظل الظروف المواتية، فإن تقدير احتمالية النجاح بنسبة 50-70% يستند إلى تحليل مدروس، لكنه يظل افتراضيًا، وأن أي تدهور كبير في الوضع السياسي أو الأمني قد يقلل من هذه النسبة بشكل ملحوظ.
نائب رئيس وحدة الاقتصاد ودراسات الطاقة