منذ بدء شرارة الحرب في 7 أكتوبر2023، تعرض القطاع لدمار هائل نتج عنه انعدام الظروف المعيشية الأساسية لسكان القطاع، وتباعًا، انعدمت خدمات الإعاشة (الصحية والغذائية)، فانقسم المشهد بقطاع غزة ما بين موجات غير مسبوقة من النزوح والتهجير القسري، بالتوازي مع موجات من الشهداء والمصابين قوامها من الأطفال والنساء وكبار السن؛ مما كان له أبلغ الأثر في أوضاع السكان ومستقبلهم.
وبعد حرب كارثية دامت 15 شهرًا، جاء الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار برعاية مصرية- قطرية، كخطوة للتهدئة والتقاط الأنفاس عقب صراع وحشي غير متكافئ خلف وراءه معاناة ومأساة حقيقية لسكان قطاع غزة وألحق الدمار بكل أوجه الحياة، وعلى كافة النواحي الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للمواطنين الفلسطينيين. وانطلاقًا مما سبق، تُسلط الورقة البحثية الضوء على تداعيات حرب 6 أكتوبر 2023 على الوضع الديموغرافي لسكان قطاع غزة.
دلالات التحول الديموغرافي في قطاع غزة
يُشير مصطلح “التحول الديموغرافي” إلى التحول التاريخي في عدد السكان مدفوعًا بعوامل طبيعية تتمثل في معدلات الوفيات والولادة إضافة إلى بعض عوامل الهجرة الطبيعية، والتي قد تحدث تغيرًا واضحًا في شكل المجتمعات على مر العقود.
على الرغم من وجود هذا الأساس الطبيعي لمعدلات الوفاة والولادة في المجتمع الفلسطيني، فإن التحول الديموغرافي بصفة عامة، يصطدم بتحولات ديموغرافية إلزامية نتجت عن تاريخ طويل لمشروع إحلالي لا يسعى فقط إلى القضاء على المكون الديموغرافي الفلسطيني، بل واستبداله بمكون ديموغرافي مغاير ومعادٍ. عبر سياسات إسرائيلية مخططة، والتي استندت في سعيها لترحيل المكون الديموغرافي الفلسطيني إلى ثنائية منع التنمية والدفع نحو التشريد. وكنتيجة حتمية، تغيرت مكونات الخارطة الديموغرافية للشعب الفلسطيني على مر التاريخ، وفقًا لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).
تشكل السياسات الإسرائيلية التخطيطية والبنائية مجتمعة محاولة لإفراغ الحيز الجغرافي من مكونة الديموغرافي، وهذا ما يتم وصفه اليوم بمفهوم “التطهير المكاني” الذي يُشير إلى مفهومي الاحتلال والدمار للحيز المكاني، وتطهيره من السُكان الأصليين. ويقودنا ذلك إلى مصطلح آخر يُسمى “الترانسفير” أو “الترحيل الصامت” والذي يُشير إلى اتباع أساليب غير مباشرة للترحيل، من خلال جعل حياة الفلسطينيين في القطاع تكاد تكون مستحيلة؛ مما يدفعهم ذلك إلى الهجرة. وهذا مما يوضح العلاقة الطردية بين عملية التشريد وزيادة حجم المستوطنين. مما يُفسر بوضوح عنصر الإحلال المتجذر في المشروع الاستيطاني الهادف إلى ضمان تقليل عدد السكان الفلسطينيين وضمان أكبر مساحة من الأرض للطرف الآخر بالتوازي، وهذا ما يتجلى اليوم في محاولات الكيان الصهيوني في محاولات إفراغ شمال قطاع غزة من المكون الديموغرافي الفلسطيني.
قطاع غزة قبل وبعد حرب أكتوبر 2023
وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2024، كان يقيم بقطاع غزة قبل 7 أكتوبر 2023 نحو 2.3 مليون فلسطيني على مساحة قدرها 365 كم2، أي ما يمثل نحو 40% من سكان الأراضي الفلسطينية كانوا يقطنون القطاع وكانت تشير المُعطيات إلى أن عدد الأُسر الفلسطينية التي تقيم بالقطاع، قد بلغت حينها حوالي 400 ألف أسرة. كما أن التركيب العمري لسكان القطاع كان يشير إلى ارتفاع نسبة الشباب والأطفال، فقد بلغت نسبة الأفراد دون سن الـ18 عامًا، ”الأطفال وفق تعريف منظمة اليونيسف”، نحو 47% من السكان، وأن نسبة الأفراد دون سن الـ 30 عامًا نحو 70%، بينما تشكل نسبة كبار السن فوق الـ65 عامًا نحو 3% فقط، كما أن معدل المواليد في القطاع سنويًا كان يُقدر بنحو 60 ألف حالة ولادة بينما تُقدر حالات الوفيات المسجلة سنويًا في الأوضاع العادية بنحو 9 آلاف حالة وفاة.
واليوم وبعد 15 شهرت من الحرب، وفقًا للأرقام الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية، فقد استشهد 49130 فلسطينيًا وأصيب 118365 مواطنًا آخر. ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد سكان دولة فلسطين المقدر نهاية العام 2024، 5.5 ملايين فلسطيني (3.4 ملايين في الضفة الغربية، في حين انخفض عدد سكان قطاع غزة المقدر للعام 2024، بنحو 160 ألف فلسطيني، ليبلغ 2.1 مليون (وبانخفاض مقداره 6% عن تقديرات عدد السكان لقطاع غزة للعام 2023، منهم أكثر من مليون طفل دون سن الثامنة عشرة، يشكلون ما نسبته 47% من سكان القطاع. وتراجع عدد الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة إلى 65% وبلغت نسبة الأفراد الذين أعمارهم (65 سنة فأكثر) 4%.

المصدر: وزارة الصحة الفلسطينية، يناير 2025- منظمة العمل الدولية، يونيو 2024
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 170 ألف منزل دمرت من جرّاء القصف، بينما دُمر ما يزيد على 40 ألف وحدة سكنية بالكامل، وهذا ترك ما يزيد على 1.8 مليون شخص يحتاجون حاليًا إلى مأوى في غزة وفقًا لمكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية، كما تُشير التقديرات إلى أن 1.9 مليون شخص على الأقل في أنحاء قطاع غزة نازحون” تهجير قسري” من الشمال إلى جنوب القطاع، أي أن نحو 90% من سكان القطاع، قد نزح على مراحل خلال الفترة من 7 أكتوبر 2023 حتى 14 يناير 2025. وهذا ما خلف لدينا مالًا يقل عن نصف مليون شخص يحتاجون إلى علاج نفسي، هذا إلى جانب الآثار الاجتماعية للحرب، التي أدت إلى تأثيرات كارثية على الأطفال والأسر بقطاع غزة، فهناك أكثر من 17 ألف طفل يتيم فقدوا عوائلهم من الأب والأم.
وتراجعت إسهامات قطاع غزة في إجمالي الاقتصاد الفلسطيني إلى أقل من 5%، بعد أن كانت تمثل حوالي 17% قبل السابع من أكتوبر 2023، وتشير التقديرات الأولية إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة بأكثر من 85%، وحوالي 22% في الضفة الغربية، ليتراجع الاقتصاد الفلسطيني بنسبة الثلث مقارنة بما كان عليه الحال قبل الحرب، كما ارتفع معدل البطالة إلى 80% في قطاع غزة، و35% في الضفة الغربية؛ مما رفع معدل البطالة في فلسطين إلى 51%.


المصدر: تحليل الأضرار التي لحقت ببيانات قمر كوبرنيكوس سنتينل-1 الصناعي بواسطة كوري شير من مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك وجامون فان دين هوك من جامعة ولاية أوريغون، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، و Open Street Map، والمفوضية الأوروبية GHSL.
حدود التعافي
خلفت الحرب العديد من التحولات السلبية التي أضرت بالطبيعة الديموغرافية للشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة، ويمكن الجزم بصعوبة التعافي السريع للبيئة الديمغرافية لعدة أسباب أبرزها:
- التحولات الجيوسياسية الناتجة عن الحرب وانعكاساتها السلبية على المجال الاقتصادي والاجتماعي في قطاع غزة بالكامل.
- ارتفاع تكلفة إعادة الإعمار وطول المدة الزمنية اللازمة، سيطيل من مدة عودة المناطق السكنية التي تعرضت للدمار إلى سابق عهدها، وعليه تستمر الهجرة الداخلية في القطاع، التي يترتب عليها استمرار حالة اللا استقرار في التوزيع الجغرافي غير المتوازن للسكان بين مناطق القطاع حتى استكمال إعادة الإعمار.
- الضرر البالغ لمنظومتي الصحة والتعليم وارتفاع معدل الإعالة وما يترتب عليه من اعتلال في جودة حياة المواطن الفلسطيني لعدة سنوات مستقبلية.
مرتكزات إعادة الإعمار
- نص الاتفاق القائم على وقف إطلاق النار على 3 مراحل، وستشهد المرحلة الأخيرة بدء عملية إعادة إعمار قطاع غزة، بما يشمل البيوت والمنشآت المدنية والبنية التحتية، كما ستشهد أيضًا فتح المعابر الحدودية لتسهيل حركة السكان ونقل البضائع.
- لدى الشركات المصرية الخبرة السابقة في ملف إعادة الإعمار، إذ سبق أن شاركت أطقم فنية مصرية مزودة بمعدات هندسية في رفع أنقاض الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على القطاع خلال الحرب التي اندلعت في مايو 2021، وأسهمت في إزالة الأنقاض وركام المنازل والأبراج المهدمة في إطار إعادة الحياة إلى طبيعتها، وحينها خصصت القاهرة 500 مليون دولار كمساعدة في إعادة الإعمار.
- توفر العوامل البيئية المناسبة لعمليات الربط الكهربائي بين مصر وقطاع غزة.
- مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي لديها حدود برية مع فلسطين ولذلك يسهل عبور شاحنات الإمداد السريع من المواد الغذائية والصحية اللازمة للإعاشة.
وختامًا، تعكس التحولات الديموغرافية في قطاع غزة التأثير العميق للحرب والحصار في السكان، حيث أسفرت هذه العوامل عن تغيرات جوهرية في معدلات النمو السكاني، والهجرة، والتركيبة العمرية. هذه التغيرات لا تؤثر فقط في البنية السكانية، بل تمتد تداعياتها إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية؛ مما يفرض تحديات كبيرة على التنمية والاستقرار في المنطقة.
وفي ظل استمرار هذه الظروف، يصبح من الضروري تبني استراتيجيات شاملة لمعالجة آثار هذه التحولات، سواء من خلال سياسات إغاثية عاجلة أو خطط تنموية طويلة الأمد تعزز من قدرة السكان على التكيف وتعيد التوازن تدريجيًا إلى التركية السكانية في القطاع.
المصادر
- الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، المرأة والرجل، قضايا وإحصاءات،2024.
- مخاطر التحوّلات الديمُغرافية لسكان غزة، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، يناير 2025.
- ملخص اقتصادي حول الحرب على غزة، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني “ماس”، ديسمبر 2023.
- الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، عام على العدوان، نوفمبر 2024.
- تقييم منظمة العمل الدولية بعد عام من الحرب، منظمة العمل الدولية، يونيو 2024.
- بالأرقام، ما حجم الدمار الذي خلفته الحرب في غزة؟، بي بي سي، يناير 2025.