تسببت الحرب الأخيرة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023 في دمار هائل لقطاع التعليم في غزة، حيث تعرضت مئات المدارس لأضرار جسيمة، بعضها خرج عن الخدمة بالكامل؛ مما أدى إلى تعطيل العملية التعليمية وحرمان آلاف الطلاب من حقهم الأساسي في التعلم، ولم يقتصر تأثير الحرب في تدمير المباني، بل امتد ليشمل الجوانب النفسية والاجتماعية للطلاب والمعلمين؛ حيث تركت الصدمات وآثار النزوح القسري بصمتها العميقة على المجتمع التعليمي بأسره.
في ظل هذه التحديات، باتت إعادة إعمار قطاع التعليم في غزة ضرورة ملحّة لا تقتصر فقط على إعادة بناء الفصول الدراسية، بل تشمل أيضًا تطوير بيئة تعليمية أكثر أمانًا واستدامة، لذا تواجه جهود الإعمار عقبات متباينة تتطلب تنسيقًا ودعمًا دوليًا لتحقيق التوازن بين الاستجابة الفورية للاحتياجات الملحّة، ووضع رؤية طويلة الأمد لضمان تعليم مستدام لأطفال غزة.
التعليم قبل الجامعي: نمو رغم التحديات
شهد قطاع غزة زيادة في عدد المدارس بنسبة 8% على مدار الخمس سنوات الماضية، شكل (1)؛ مما يعكس جهودًا مستمرة لتطوير المنظومة التعليمية رغم التحديات، كما ارتفع عدد الطلاب الملتحقين بالمدارس بنسبة 8.4% خلال الفترة ذاتها، شكل (2)، حيث سجلت المرحلة الأساسية زيادة بنسبة 6.3%، بينما شهدت المرحلة الثانوية نموًا ملحوظًا بنسبة 17.9%؛ مما يشير إلى ارتفاع معدلات استمرار الطلاب في المراحل العليا.
في المقابل، تذبذب عدد الطلاب المسجلين بمرحلة رياض الأطفال خلال العامين الماضيين، وتراجع بشكل حاد خلال جائحة كورونا؛ مما يعكس تأثير الأوضاع الاقتصادية الصعبة وجائحة كورونا على قدرة الأسر على إلحاق أطفالهم بالتعليم، ورغم وجود تحسن طفيف، بيد أنه لا تزال مرحلة رياض الأطفال الأكثر هشاشة وعرضة للتقلبات الناجمة عن الأزمات المتكررة.

شكل (1): عدد المدارس في قطاع غزة بحسب المرحلة خلال الفترة من 2018/2019 –2023/2024
المصدر/ من إعداد الباحثة بالرجوع إلى بيانات كتاب فلسطين الإحصائي السنوي، 2024

شكل (2): عدد الطلاب في قطاع غزة بحسب المرحلة خلال الفترة من 2018/2019 –2023/2024
المصدر/ من إعداد الباحثة بالرجوع إلى بيانات كتاب فلسطين الإحصائي السنوي، 2024
أما على صعيد معدل الطلاب لكل معلم، فقد شهد تغيرات ملحوظة خلال الفترة ذاتها، حيث ارتفع المعدل العام بنسبة 15.9% خلال أول عامين، بعد ذلك، شهد انخفاضًا حادًا بنسبة 29.2% خلال عام واحد فقط؛ مما يعكس تأثير الجائحة والظروف الاقتصادية على أعداد الطلبة الملتحقين، لكنه عاد للارتفاع مجددًا خلال العامين الأخيرين، مقتربًا من مستوياته السابقة.
وعلى صعيد الجهات المشرفة، ظلت المدارس الحكومية عند معدلات مرتفعة نسبيًا، حيث لم ينخفض عدد الطلاب لكل معلم إلا بنسبة طفيفة؛ مما يشير إلى استمرار الاكتظاظ، أما في مدارس الأونروا، فقد شهد المعدل ارتفاعًا بنسبة 10.5% خلال السنوات الأولى ثم ما لبث وانخفض بشكل طفيف، لكنه ظل أعلى مما كان عليه في بداية الفترة؛ مما يعكس تحديات الاستيعاب في ظل محدودية الموارد. أما في المدارس الخاصة، فقد انخفض المعدل بنسبة 14.2% في العام الأول قبل أن يرتفع تدريجيًا مرة أخرى، لكنه ظل الأقل مقارنة بالجهات الأخرى؛ مما يعكس بيئة تعليمية أكثر توازنًا.
أما رياض الأطفال، فقد شهدت تقلبات حادة، حيث ارتفع معدل عدد الأطفال لكل معلم بنسبة 15.9% في أول عامين، قبل أن ينخفض بنسبة 29.2% خلال عام واحد، ثم عاد للارتفاع بنسبة 26%؛ مما يشير إلى تأثر هذه المرحلة مقارنة بالمراحل العليا، شكل (3).

شكل (3): معدل عدد الطلاب لكل معلم في غزة حسب العام الدراسي والجهة المشرفة خلال الفترة من 2018/2019-2023/2024
المصدر/ من إعداد الباحثة بالرجوع إلى بيانات كتاب فلسطين الإحصائي السنوي، 2024
يتضح من الشكل السابق أن مدارس الأونروا تُعتبر حجر الزاوية في توفير التعليم في قطاع غزة، وحتى العام الدراسي 2021/2022، بلغ عدد مدارس الأونروا 278 مدرسة، بقوة 9,443 معلمًا ومعلمة، ويستفيد منها أكثر من 290 ألف طالبًا، منهم حوالي 48% من الإناث، بالإضافة إلى ذلك توفير الأونروا التدريب المهني والفني من خلال مركزين، يستفيد منها أكثر من 1,860 طالبًا؛ مما يسهم في تأهيل الشباب للانخراط في سوق العمل المحلي وتقليل معدلات البطالة المرتفعة في القطاع، شكل (4).

شكل (4): إحصائيات جهود وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) في التعليم بقطاع غزة حتى عام 2022
المصدر/ من إعداد الباحثة بالرجوع إلى بيانات كتاب فلسطين الإحصائي السنوي، 2024
تكمن أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الأونروا في التهديدات المستمرة من الكيان المحتل، والتي تسعى إلى تقويض عمل الوكالة عبر عدة سياسات منها الهجمات العسكرية المباشرة على المنشآت التعليمية التابعة للوكالة، بالإضافة إلى محاولات تقليص الدعم الدولي. في ظل هذه التهديدات، تتعاظم الحاجة إلى الدعم الدولي المستمر والضغط على الجهات المعنية لحماية حق الفلسطينيين في التعليم، وضمان استمرارية برامج الوكالة في القطاع.
تداعيات الحرب: أطلال المدارس وآمال الإعمار
في قطاع غزة، باتت المدارس أكثر من مجرد جدران مهدمة، بل أضحت شاهدة على جريمة ممنهجة تستهدف جيلًا كاملًا، فمنذ 7 أكتوبر 2023 وحتى نهاية العام المنصرم، تعرّضت المنظومة التعليمية لضربات قاسية، حيث استُشهد 755 معلمًا ومعلمة، وتحوّلت 132 مدرسة إلى أنقاض بالكامل، بينما لحقت أضرار جزئية بـ 348 مدرسة أخرى، ولم تكن مدارس وكالة الغوث بمنأى عن هذا الدمار، فقد تضررت 65 مدرسة من جرّاء القصف، في سياق واضح لاستهداف البنية التعليمية للقطاع؛ مما أدى إلى تعطيل العملية التعليمية وحرمان آلاف الطلبة من حقهم الأساسي في التعلم.
هذا الدمار الواسع لا يمكن فهمه بمعزل عن سياسة الاحتلال التي تسعى لحرمان الفلسطينيين من أدوات النهوض والتطور، لكن وسط هذه المأساة، يبقى السؤال: هل طُمست إرادة التعلم تحت الركام؟ التجربة الفلسطينية تثبت أن الإجابة لا، فكما شهدت غزة عمليات إعادة إعمار بعد كل عدوان، فإن الجهود الدولية والمحلية التي بذلت في أثناء الحرب لإعادة بناء النظام التعليمي، تبرهن على فرص التعافي السريع للمنظومة التعليمية في القطاع.
من أبرز تلك الجهود، تدشين 39 مساحة تعليمية مؤقتة في القطاع بواسطة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) وشركائها، لتخدم أكثر من 12 ألف طالب وتقدم الأنشطة الترفيهية وحُزم التعلم في حالات الطوارئ، علاوة على برامج الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والشباب ومقدمي الرعاية والمعلمين في الملاجئ.
بالإضافة إلى، توقيع اتفاقية بين (اليونيسف) وحكومة فنلندا في ديسمبر 2024 لدعم نظام التعليم الفلسطيني من خلال مبادرة “التعليم النوعي الشامل (EQUIP)” بقيمة 3.4 ملايين يورو، والتي تمتد إلى ثلاث سنوات، وتستهدف توفير بيئة تعليمية آمنة وشاملة لجميع الأطفال، مع التركيز على الفئات الأكثر ضعفًا، وتطوير سياسات التعليم الشامل بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي، وتحسين جودة التعليم من خلال التدريب والدعم الفني للمعلمين.
مما سبق، يمكن بلورة عدد من سيناريوهات وخطط إعادة إعمار التعليم في قطاع غزة على النحو التالي:
- الخطط العاجلة (0-6 أشهر): تتطلب المرحلة العاجلة من خطة الاستجابة للتعليم اتخاذ تدابير سريعة لضمان استمرارية العملية التعليمية منها:
- إعادة تأهيل المساحات التعليمية المؤقتة: من الضروري توسيع نطاق المبادرات التي أطلقتها منظمات مثل اليونيسف لزيادة عدد المساحات التعليمية المؤقتة في جميع المناطق المتضررة لتشمل هذه الجهود تجهيز تلك المساحات بكافة المستلزمات الضرورية مثل الكتب والدفاتر والأقلام والأدوات التعليمية الرقمية؛ مما يضمن بيئة مناسبة لاستئناف التعليم بشكل فاعل.
- التعليم الطارئ والدعم النفسي: لا تقتصر الحاجة على توفير التعليم فحسب، بل يجب أن يترافق ذلك مع برامج دعم نفسي واجتماعي للطلاب والمعلمين. لذا؛ يتطلب الأمر إطلاق برامج شاملة بالتعاون مع منظمات دولية لمساعدة الأطفال والمعلمين على التأقلم مع الظروف الاستثنائية.
- التعليم عن بُعد وتوظيف التكنولوجيا: من الضروري تطوير منصات تعليمية تدعم التعلم الذاتي، إلى جانب توفير أجهزة لوحية واتصال إنترنت مجاني للطلاب الأكثر تضررًا؛ مما يسهم في ضمان استمرارية التعلم.
- إعادة تأهيل المدارس المتضررة جزئيًا: لا يمكن إغفال الحاجة إلى إعادة تأهيل المدارس التي تعرضت لأضرار جزئية، وذلك لجعلها صالحة لاستقبال الطلاب مجددًا، وفي حال عدم توفر الإمكانيات اللازمة لإعادة تأهيل كافة المدارس سريعًا، يمكن اللجوء إلى المرافق الحكومية والمباني العامة لاستخدامها كصفوف دراسية مؤقتة.
- الفصول المتنقلة والمدارس الذكية المتنقلة: لتأمين استمرارية التعليم في المناطق الأكثر تضررًا، يمكن اللجوء إلى الفصول المتنقلة التي تعتمد على الطاقة الشمسية والإنترنت عبر الأقمار الصناعية، وفي هذا الصدد يمكن الاستفادة من نقل خبرات التجربة المصرية المدعومة من الصين في تنفيذ المدارس الذكية المتنقلة، حيث توفر بيئة تعليمية متكاملة بوسائل تكنولوجية متطورة، مثل الألواح الذكية والاتصال الفوري بالمنصات التعليمية، لكن من المهم دعم هذه المبادرات عبر شراكات مع مؤسسات دولية مثل اليونيسف والبنك الدولي لضمان استدامتها.
- الخطط قصيرة الأجل (6 أشهر – سنة): بعد تجاوز المرحلة العاجلة، تصبح الحاجة إلى بناء منظومة تعليمية متكاملة أمرًا أساسيًا لضمان استدامة التعليم وتطويره بما يتماشى مع احتياجات الطلاب والمجتمع من خلال ما يلي:
- إعادة بناء المدارس المدمرة بالكامل: يجب إطلاق مشاريع إعادة إعمار عاجلة بدعم دولي لتشييد مدارس حديثة ومجهزة بأحدث التقنيات، مع التركيز على تضمين مدارس وكالة الغوث ضمن عمليات الترميم وإعادة الإعمار لضمان تغطية جميع المؤسسات التعليمية المتضررة.
- تعزيز كفاءة المعلمين: من الضروري تنفيذ برامج تدريب وتأهيل لتعزيز مهاراتهم، خصوصًا في التعامل مع البيئات الطارئة.
- مناهج تعليمية مرنة وشاملة: لا بد من تطوير مناهج تعليمية تتسم بالمرونة، بحيث تستوعب الفاقد التعليمي الناتج عن الحرب أو الكوارث.
- تعزيز البنية التحتية الرقمية: يجب العمل على توسيع برامج التعليم عن بُعد، وبناء مراكز تعليمية مجهزة بأحدث الوسائل التكنولوجية لدعم التعلم المدمج؛ مما يضمن استفادة أكبر عدد من الطلاب.
- الخطط طويلة الأجل (1-5 سنوات): لضمان استدامة العملية التعليمية وجودتها على المدى الطويل، لا بد من وضع سياسات استراتيجية تضمن مقاومة الأزمات وتطوير البنية التحتية التعليمية على النحو التالي:
- استكمال البنية التحتية والتطوير المستدام: يجب التركيز على استكمال مشاريع البنية التحتية التعليمية لضمان توفر مرافق تعليمية حديثة ومستدامة، بما يشمل إعادة إعمار المدارس التي خرجت من الخدمة عبر بناء مدارس جديدة، وتطوير المختبرات والمكتبات وتحديث المرافق بالمدارس القائمة.
- بناء نظام تعليمي مقاوم للأزمات: من المهم تصميم سياسات تعليمية تراعي السيناريوهات الطارئة، مع إنشاء صندوق طوارئ تعليمي يمكن الاستفادة منه لمواجهة أي أزمات مستقبلية قد تؤثر في التعليم.
ختامًا، فإن إعادة إعمار المدارس في غزة ليست مجرد عملية ترميم للمباني، بل هي ركيزة أساسية لضمان حق الأطفال في التعليم، وتأمين مستقبل الأجيال القادمة، وبينما تتطلب المرحلة الحالية استجابة فورية لاحتياجات الطلاب والمعلمين، فإن التخطيط المستقبلي هو الضامن الحقيقي لتحقيق نظام تعليمي مستدام وقادر على مواجهة التحديات عبر آليات واضحة لتنفيذ خطط الإعمار، وتحديد دقيق لأدوار المؤسسات المحلية والدولية في دعم العملية التعليمية في غزة.






























