تَعُد القاهرةُ خطةً متكاملة لإعادة إعمار قطاع غزة المُدمر دون الحاجة إلى إخلاء سكانه المقدر عددهم بأكثر من مليوني نسمة، حيث سيتم توفير مآوٍ مؤقتة لهم داخل القطاع لحين الانتهاء من عمليات الإعمار.
يدفع هذا الطرح إلى التساؤل حول إمكانية توفير المآوي التي يحتاجها منكوبو القطاع بشكل عاجل وبحجم كبير، بما لا ينقص من احتياجاتهم الأساسية، وبما لا يستنزف المخصصات المالية لخطة المشروع، التي يجب أن يوجه أغلبها لعملية تشييد مرافق ومباني القطاع المدمرة، بما سيسهم في خلق إيقاع حياة مستقبلي جيد ومستدام لمواطني غزة.
خراب وعشوائية
قدرت الأمم المتحدة في الرابع من فبراير 2025 وصول عدد الوحدات السكنية المدمرة نتيجة للقصف الكثيف والمُتعمد على كافة أنحاء قطاع غزة إلى 436 ألف وحدة، تمثل 92% من إجمالي مساكن القطاع التي كان يقُارب عددها قبل الحرب 474 ألف وحدة سكنية، كما نوهت الأمم المتحدة لاحتمالية دمار 160 ألف وحدة من بينها بشكل كلي، فيما رجحت معاناة بقية الوحدات البالغ عددها 276 ألف وحدة من حالات خراب قاسية أو جزئية.
جاء الحصر الميداني الذي نفذته وزارة الأشغال العامة والإسكان بقطاع غزة حتى يوم 16 فبراير 2025 ليؤكد على صدق تقديرات المؤسسة الأممية؛ حيث حصرت الفرق البحثية الفلسطينية 250 ألف وحدة سكنية مدمرة، بلغت نسبة الوحدات المهدمة كليًا من بينها 68% بواقع 170 ألف وحدة، فيما بلغت الوحدات الخرِبة جزئيًا وغير الصالحة للسكن حوالي 80 ألف وحدة، ومن المتوقع أن تتزايد أعداد تلك الوحدات السكنية المُسجل تدميرها كليًا أو جزئيًا على مدار الأيام القادمة، في ظل استمرار جهود الحصر من قبل الجهات المعنية.
تسبب هذا الدمار الواسع في تشريد أكثر من 1.87 مليون مواطن، وهو ما مثل 88% من إجمالي تعداد سكان القطاع البالغ عددهم وفق أحد الإحصاءات الرسمية الحديثة 2.13 مليون نسمة، ليقوم هؤلاء المشردون المهجرون قسريًا باستخدام ما أتيح لهم من أراضٍ فضاء ومنشآت ومرافق عامة سواء كانت سليمة أو مهدمة في تكوين معسكرات إيواء عشوائية، مكونة من تجمعات خيام مهترئة لا تصلح لمقاومة صقيع شتاء قطاع غزة الذي تنخفض درجات حرارته الصغرى عن 3 درجات مئوية ولهيب صيفه الذي ترتفع درجاته العظمى عن 29 درجة مئوية، وكميات هطول أمطاره الغزيرة التي يقدر متوسطها بحوالي 208 ملم في العام.
أشار أحد التقديرات الصادرة في أكتوبر الماضي بشأن إتاحة المأوى المؤقت إلى الحاجة لاستبدال 100 ألف خيمة تئوي قرابة مليون نازح، وهو ما تُمثل نسبته 74% من إجمالي الخيام التي تم نصبها في القطاع والمقدر إجماليها 135 ألف خيمة، فضلًا عن إشارة أحد التقارير الأممية إلى احتياج 945 ألفًا من الأطفال الصغار والشيوخ والنساء لإمدادات خاصة تعينهم على قسوة الطقس في تلك المآوي غير الملائمة مثل البطاطين والملابس الثقيلة والوسائد وعبوات حفظ الطعام والمياه وغيرها.
تحركات ومعوقات
تناقلت وسائل الإعلام الدولية بعضًا من ملامح الخطة الشاملة التي وضعتها القاهرة لإعادة إعمار غزة، التي تضمنت بناء عدد من مناطق الإعاشة المؤقتة بمختلف أنحاء القطاع المدمر فور تطهير حيزه من الركام، ليقطن فيها مشردو غزة حتى انتهاء عمليات التشييد والتعمير التي ستتوزع على ثلاث مراحل، وقد تستغرق من ثلاث إلى خمس سنوات وفقًا لحجم التمويل المادي والدعم اللوجستي المقدم من المانحين الإقليميين والدوليين.
دفعت مصر على مدار شهر فبراير بعشرات الشاحنات المُحملة بالخيام والمنازل المتنقلة، وذلك لتوزيعها على مختلف انحاء القطاع المُضار، وفقًا لما تم إقراره باتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته مصر وقطر، فإن سلطات الاحتلال أبدت تملصًا؛ مما وافقت عليه سابقًا، وقاومت بكل ما لديها من قدرة على المراوغة عملية إدخال المآوي المؤقتة، أملًا في عرقلة الجهود المصرية الرامية لإعادة الإعمار؛ مما سيضيق بدوره الخناق على مواطني غزة ويسهل تهجيرهم قسريًا من أرضهم التاريخية.
أشارت بعض وسائل الإعلام الإقليمية إلى التمكن من إدخال 80 ألف خيمة بالإضافة إلى 300 منزل متنقل، وذلك حتى بداية الثلث الأخير من شهر فبراير، لكن الأرقام لا تزال هزيلة وغير مرضية، خاصة وأن اتفاق إطلاق النار كان ينص على إدخال مائتي ألف خيمة و60 ألف منزل متنقل، كما لم تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلية سوى بدخول عدد قليل من المعدات الهندسية، التي يعول عليها للإسهام في تطهير مواقع تشييد مراكز الإعاشة المؤقتة.
محاور للتعزيز
تبرز عدد من النقاط التي يجب مراعاتها في إدارة ملف التعافي المبكر، وذلك للوصول لأكبر قدر من الفاعلية في تنفيذ تلك المرحلة الأولية من مشروع إعادة إعمار قطاع غزة:
1. ليس من الممكن أن تبدأ أي عملية إعمار حقيقية وشاملة كما ينشدها أصحاب الصوت المعتدل إقليمًا وعالميًا، إلا بضمان تهيئة مواقع الإيواء الملائمة والآمنة والصحية التي يحتاجها مشردو قطاع غزة، لذلك لا بد من اصطفاف القوى الداعمة لاستمرار الهدنة في فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط حول هدف واحد عاجل، ألا وهو الضغط السياسي من أجل إدخال كامل الاحتياجات الإيوائية التي تطلبها مرحلة التعافي المبكر التي ستبلغ مدتها ستة أشهر، بما سيمهد الطريق أمام مراحل التنمية الرئيسية اللاحقة التي ستستغرق سنوات.
2. يمكن الاستعاضة عن خطة تشييد ثلاثة مخيمات كبرى لإيواء كافة مشردي أهل غزة، بعمل شبكة من مراكز الإيواء الصغيرة ومتوسطة الحجم على امتداد محافظات القطاع الخمس، بما يتناسب مع الكثافات السكانية لكل محافظة انظر الشكل التالي-، حيث ستسهل تلك الشبكة من المراكز الإيوائية عملية السيطرة الإدارية والأمنية عليها، فضلًا عن سهولة وسرعة تفكيكها ونقلها إلى مواقع أخرى حال الاحتياج إلى أرضها لتشييد مباني القطاع الجديدة.
المصدر: الجهاز المركزي الإحصاء الفلسطيني
3. من المهم أن تبدأ مجهودات نصب مراكز الإيواء بمحافظات شمال غزة وغزة وخان يونس، حيث يوجد بتلك المحافظات الثلاث ما نسبته 74% من إجمالي المباني الخرِبة بعموم القطاع. ولقد تزايدت حدة الأزمة الإنسانية بتلك المحافظات الثلاث مع عودة ما يزيد على نصف مليون نازح إليها في الأيام الأولى من تطبيق الهدنة؛ مما يضطر هؤلاء العائدون إلى المكوث بجانب أطلال منازلهم المدمرة، ويجعلهم في أمس الحاجة للخدمات الإيوائية العاجلة.
4. تجب مراعاة اختيار مواقع مراكز الإيواء المقترحة في مناطق قريبة من الطرق البرية الصالحة للحركة، لتسهيل تنقل المواطنين ونقل المؤن والإمدادات اللوجستية، كما يجب أن تُنتقىَ مواقع تلك المراكز بمناطق التلال المرتفعة نسبيًا عن مستوى سطح الأرض وبالمناطق ذات التربة الصلبة، وذلك لتجنب تأثر محيطها بمياه الأمطار، وسيكون من الآمن أن تُنصب الخيام فوق أرضيات من البلاطات الخرسانية، لحماية سكان الخيمة من الرطوبة ومياه الأمطار والأوحال الناتجة عنها.
5. من المتوقع أن يتم دعم كل مركز إيواء بمجموعة من المرافق الأساسية، مثل عيادة طبية ومطبخ وساحة للصلاة وعدد من الفصول الدراسية ومغاسل وغيرها، بالإضافة إلى مولدات للكهرباء وخزانات لمياه الشرب ونظم للصرف الصحي، وذلك للبدء في إعادة مواطني القطاع بشكل تدريجي للحياة الطبيعية التي افتقدوها طوال مدة الحرب.
6. يمكن أن تُخصص مجموعة من المنازل المتنقلة بكل مركز إيوائي لإقامة السيدات الحاضنات وأطفالهن بحيث تتوافر في هذه المنازل التدفئة، وتحمي من يقيم داخلها من لسعات الشتاء القارص، بالإضافة لوجود مطبخ وحمام مستقل بكل منزل، وهو ما يُيسر على سكانه تحضير الطعام المتلائم مع احتياجاتهم الصحية، ويجنبهم مشقة الانتظار في طوابير دورات المياه العمومية.
7. من المفيد عدم الإقدام على هدم المنازل المدمرة جزئيًا، في حال تمكن أصحابها من الإقامة فيها لحين توفير مساكن بديلة لهم في إطار خطة الإعمار، لذلك سيكون الأفضل دعمهم بالمواد وبالأغطية اللازمة لسد الثقوب في الحوائط، ووسائل الإعاشة الضرورية التي تكفيهم للبقاء في بيوتهم.
8. قد يكون من الراجح أن تتعاون السلطات الفلسطينية مع منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، بهدف تدشين منصة إلكترونية تُمكن كل أسرة من تسجيل احتياجاتها سواء كانت خيمة أو منزلًا متنقلًا لعدم وجود بيت يأويها، أو احتياج لمعونة إنشائية بهدف تهيئة بيت مدمر جزئيًا لإقامة الأسرة لحين تسلمها بيت جديد، لتسهم تلك المنصة في حصر الاحتياجات الإيوائية العاجلة لأهالي القطاع بشكل دقيق وإعداد قوائم بها.
باحث أول ببرنامج السياسات العامة