فى الخامس من هذا الشهر؛ فتح الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون نقاشا استراتيجيا حول إمكانية استخدام فرنسا قوتها الرادعة لحماية حلفائها الأوروبيين، فى ظل التهديدات التى تواجه القارة من قبل روسيا الاتحادية. جاء ذلك خلال خطاب رئاسى جرى بثه، ونقلت عنه جميع وسائل الاعلام الأوروبية المعنية بالقضية باعتبارها الأهم بالنسبة لدول القارة، فيما بات أغلبها يطرح اليوم تساؤلات جادة تتعلق باستقلالها الدفاعى والأمني. «قوة الردع» التى ذكرها الرئيس ماكرون بالضرورة هو يشير إلى القوة النووية، مما جعل رئيس وزراء بولندا دونالد تاسك يعلق على ذلك أمام البرلمان بعد يومين بالضبط، قائلا: «بالتأكيد سنكون أكثر أمنا، إذا كانت لدينا ترسانتنا النووية الخاصة بنا»، وقد برر تاسك ذلك بـ«التغيير العميق الذى يحدث فى الجغرافيا السياسية الأمريكية» !
مجلة الإيكونوميست البريطانية الشهيرة، وصفت ما يقوم به دونالد ترامب بـ«الحريق الدبلوماسي» الذى أشعله رئيس الولايات المتحدة. وتناولت حديث رئيس وزراء بولندا باعتباره لم يكن يقترح أن تمتلك بلاده قنبلة نووية، بل كان يستجيب لدعوة «فريدريش ميرتس» رئيس الحزب الديمقراطى المسيحى الألماني، بالحث على إجراء مباحثات عاجلة مع فرنسا وبريطانيا من أجل إضافة «قوة مكملة» للدرع النووية الأمريكية. لكن المجلة البريطانية تضع تحفظا واضحا على هذه الأفكار، فهى ترى أن مفهوم «الردع النووى الموسع» غير منطقي، لأن ذلك من الناحية العملية يحمل دولة ما بتعهد استخدام قوتها النووية وما قد يترتب عليه، نيابة عن دولة أخرى وهذا لن يحدث. وفى تفسير ذلك أيضا أن الفضاء الأوروبى الذى ظل مشمولا بالمظلة النووية الأمريكية طيلة ما يقارب 80 عاما، كان بناء على قرار أمريكى دفعها إلى بناء ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية ونشرها فى جميع أنحاء العالم، لإدراكها صعوبة الوفاء بتعهد الحماية النووية من دولة أخري.
مستويات القلق الأوروبى ليست بالتأكيد على نفس الدرجة، حتى فى ظل هذا التفكير الجماعي، وقبل وبعد الدعوة للنقاش الاستراتيجى الذى دعا إليه الرئيس الفرنسي. فهناك دول ترى الخطر داهما، وتنظر إلى التحولات الأمريكية باعتبارها مهددا مباشرا لمصالحها الأمنية، فى حين تحاول الدول الكبرى أن تحسب خطواتها بدقة رغم استشعارها ذات التهديد، إجمالا هى لا تريد أن تخطو إلى مناطق تنقلب فيها الكلفة الاستراتيجية لما يتردد فى الاجتماعات الأوروبية، إلى فاتورة باهظة تتسبب فى إرباك أمنى حقيقى مباشر بديلا عن تلك الهواجس، التى تولدت جراء الرؤية الأمريكية لإدارة جديدة لم تحسم كثيرا من أمورها بعد. فرنسا اليوم تمثل القوة النووية الوحيدة فى أوروبا بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد مؤخرا، واللافت أن باريس لم تنضم إلى مجموعة التخطيط النووى التابعة لحلف شمال الأطلنطي، التى تجرى فيها مناقشة السياسة النووية والإطار الجماعى للدول الأعضاء، واستبدلت ذلك بتبنى رادع نووى خاص بها منذ خمسينيات القرن الماضي، يقينا منها بأن المظلة الأمريكية لا يمكن الاعتماد عليها. مجلة الايكونوميست فى تحليلها للوضع الراهن؛ أعادت التذكير بأنه فى عام 1995 اتفقت بريطانيا وفرنسا على أن «المصالح الحيوية» لإحداهما لا يمكن أن تك
ون مهددة، دون أن تكون المصالح الحيوية للطرف الآخرaمعرضة للخطر بالقدر نفسه، وهو ما يعد توسيعا مواربا لأفق الردع الفرنسى الذى آثر أن يعمل منفردا. فى حين هناك فى المقابل تأكيد وجزم من الرئيس ماكرون نفسه، أن الرادع النووى الفرنسى هو «سلاح سيادي» وفرنسى من بدايته إلى نهايته !
لكن الثابت أن رحلة البحث عن أفكار تعزز معادلة الأمن الأوروبي، ليست مقصورة على الشفرة النووية الأكثر تعقيدا من الناحية القانونية والعملية وحدها، فهناك على الجانب الآخر من الأطلسى من بدأ بدوره فى طرح تساؤلات من وجهة النظر المقابلة. صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية؛ أوردت تقريرا مهما عنونته بالسؤال المباشر الذى يختصر مسافات التناقض والتباعد بين رؤى الحلفاء، وهو «هل تستطيع أوروبا مواجهة روسيا دون دعم أمريكي؟». حيث اعتبر التقرير أنه فى حين لدى أوروبا مجتمعة قوات عسكرية قوية ومجهزة، إلا أنها لا تزال حتى الآن تعتمد اعتمادا كبيرا على الدعم الأمريكى فى مجال الاستخبارات والدفاع الجوى والبنية التحتية للقيادة. وقد أورد التقرير بعض الإحصائيات المهمة للقوة الأوروبية المجتمعة التى وصفها بـ«الهائلة»، مقارنة بالقوة الروسية التى يرى أنه على الرغم من أن الجيش الروسى ضعف نسبيا بفعل الحرب فى أوكرانيا، إلا أن قدرته على إعادة بناء نفسه بسرعة تشكل تهديدا مستمرا على الأمد الطويل. فالتقرير الأمريكى يكشف عن أن أوروبا تمتلك (1.97 مليون جندي) متفوقة بذلك على روسيا التى لديها (1.34 مليون جندي)، كما أن هناك مستوى تفوق رئيسى آخر فى المعدات والأسلحة الأساسية، إذ تمتلك أوروبا (32.7 ألف مركبة مدرعة) مقابل (10.7 ألف مركبة مدرعة) فى روسيا. إضافة إلى ذلك لدى أوروبا (2200 وحدة مدفعية)فى حين لدى روسيا (1400 وحدة مدفعية) فقط، وفى مجال سلاح الجو هناك فى أوروبا جاهزية (2100 طائرة مقاتلة) مقارنة بروسيا التى فى أفضل أحوالها لم تتعد سقف (1100 طائرة مقاتلة).
لم يضع الجانب الأمريكى على ما يبدو هذا التفوق العددي، باعتباره عاملا حاسما قادرا على توفير معادلة أمن أوروبية مستقرة، بل يذهب إلى أن اعتمادية الجانب الأوروبى على الولايات المتحدة فى مجالى منظومات الدفاع الجوى والاستخبارات، هو التحدى الرئيسى والحلقة الأضعف لدى أوروبا فعليا. لهذا جاء تركيز الناتو مؤخرا فى عدد من تدريباته العسكرية على محاولة سد تلك الثغرة، من خلال تكثيف برامج مفهوم الدفاع الجماعى الذى بدا هدفا رئيسيا حاول العسكريون الأمريكيون من خلاله، تعزيز جاهزية القوات الأوروبية. لكن تظل هناك معضلة رئيسية؛ الصناعات الدفاعية الأوروبية «لاتزال صغيرة جدا ومجزأة للغاية وبطيئة»، بحسب تحذير الأمين العام لحلف الناتو «مارك روته»، متحدثا عن تعويض النقص فى العتاد العسكري. ويبقى أمام القادة الأوروبيين، مهمة البحث عن بدائل آنية لتعزيز دفاعاتهم بقدر من الاستقلالية، بالنظر إلى أن سد الفجوات العسكرية يتطلب استثمارات ضخمة ووقت لن ينتظر أحد.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية