الإجابة تبدو صعبة كثيرا؛ حينما يكون السؤال متعلقا بالمدى الذى يمكن للولايات المتحدة أن تسمح به لإسرائيل، فى تعاطيها مع المشروع التركى على الأراضى السورية، الصعوبة تكمن فى أن هذا المشروع التركى فى حده الأدنى حظى مبكرا بسماح أمريكي، وفى حده الأبعد تعد واشنطن شريكا بحصة حاكمة فى التجربة التركية التى تقوم أنقرة بتنفيذها فى سوريا. ما بين الحدين فى حال كانت هناك رغبة لقياسات دقيقة، لن تكون الاختلافات سوى فى بعض النسب هنا أو هناك، لكن تبقى المعضلة فعليا أن المشهد يضم شركاء ثلاثة، وفى تلك المرحلة التأسيسية هو معرض لهزات خطيرة قد تتسبب فى ارباك حسابات الشركاء، فضلا عن انفلات متوقع لأحد الأطراف ـ إسرائيل ـ مما قد يضع الشركاء الآخرين أمام أسئلة مركبة تبدو أكثر صعوبة.
هاكان فيدان وزير الخارجية، مهندس التجربة التركية فى سوريا اعتبر الغارات الواسعة التى شنتها إسرائيل مؤخرا على سوريا، تهديدا لأمن المنطقة واعتبرها تمس السلامة الإقليمية والوحدة الوطنية لدولها فى إشارة لسوريا ولبنان. وطرح من جانبه تساؤلا استنكاريا عن سبب انزعاج إسرائيل من تطورات سوريا ولبنان التى تحمل آمالا كبيرة للاستقرار، على إسرائيل التوقف عن تقويض الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار فى سوريا، معتبرا أن غارات إسرائيل الأخيرة على مواقع سوريا لا يمكن فهمها بعيدا عن نهجها الذى يتغذى على الصراع. هذا الحديث وتلك التصريحات من فيدان فى جانب منها موجه إلى الولايات المتحدة، بصيغة «ليس هذا ما جرى الاتفاق عليه» من وجهة نظره بالطبع. لأن هناك وجهة نظر إسرائيلية مقابلة كشفها وزير الدفاع يسرائيل كاتس؛ فى خطاب موجه إلى الرئيس الشرع يحذره فيه من تجاوز الخطوط الحمراء، كان لافتا ودالا بالتأكيد استخدام وزير الدفاع الإسرائيلى للاسم السابق للرئيس السورى «الجولانى»، وهو يؤكد له أن سوريا ستدفع ثمنا باهظا فى حال سمحت لـ«القوات المعادية» التى تهدد مصالح أمن إسرائيل، بالدخول إلى سوريا واستخدام أراضيها بأى صورة !
لاشك فى أن حديث الرجلين وكلماتهما المختارة بعناية، يعبران بوضوح عن موقف بلديهما وحدود قبولهما مساحات التمدد أو الأدوار المتفق عليها فى المشروع المشار إليه. فهناك اتفاق بين دمشق وأنقرة؛ تسرب مؤخرا إلى إسرائيل يمنح تركيا نفوذا وقواعد عسكرية فى سوريا، يرى الجيش أنه يحد من عمليات إسرائيل وحركتها فى الأجواء السورية، لذلك بادر بشن غارات جوية على قاعدتين جويتين ومواقع للبنية التحتية العسكرية فى مدن دمشق وحماة وحمص السورية، وهنا يبدو الأمر موجها إلى قلب الدولة بشكل مباشر وليس تمددا فى الأطراف هنا أو هناك. تفاصيل الاستهداف الإسرائيلى وحصيلة الخسائر السورية، ثقيلة ومباغتة، فضلا عن ملمح استراتيجى صادم أوردته وكالة الأنباء الرسمية «سانا»، بأن «مطار حماة» العسكرى وسط البلاد تعرض لأكثر من 17 غارة جوية مما أدى إلى تدمير معظم أجزائه، يشمل ذلك مدارج الطائرات وبرج المراقبة ومستودعات الأسلحة وحظائر الطائرات. بعد معاينة الأضرار، تأكد أن إسرائيل دمرت قاعدة حماة الجوية بالكامل لضمان عدم استخدامها مستقبلا، كما تبين أن القصف الجوى طال محيط مبنى البحوث العلمية بحى مساكن برزة فى دمشق، إضافة إلى غارة للطيران الإسرائيلى استهدفت على نحو مركز محيط مدينة حماة.
هذه المنطقة تمثل القلب الاستراتيجى للبنية العسكرية السورية، ويبدو أنها كانت موضع الاتفاق بين دمشق وأنقرة يقضى بموجبه استخدام الجيش التركى هذه القاعدة، كنقطة ارتكاز رئيسية تتيح لها السيطرة على محيط دمشق وريفها من جهة الشمال، وفى نفس الوقت توفر لها إطلالة فعالة على محافظات الشمال السورى الذى ترغب تركيا، أو بحسب اتفاقها مع الولايات المتحدة أن تقوم فيه بإخلاء و«تنظيف» هذا المحور، من الميليشيات والكيانات المسلحة القديمة التى ظلت تحظى بالرعاية التركية، واستبدالها بوجود عسكرى صريح ومنظم يتبع لقيادة الجيش التركي. هذا النموذج التركى يأتى على شاكلة «قاعدة الواطية» العسكرية فى ليبيا، وكان هناك ترتيب تركى أن تتولى هذه القاعدة عمليا تأسيس الجيش السورى المستقبلى للدولة الجديدة. ربما إلى هذا الحد يمكن توقع أن هناك سماحا أمريكيا بهذه الترتيبات التركية، لكن يبدو أن إسرائيل قد توصلت إلى معلومات استخباراتية تفيد؛ بأن النموذج التركى يخطط لنشر منظومات دفاع جوى وأسراب طائرات مسيرة داخل هذه القاعدة، هذا، اعتبرته إسرائيل تجاوزا لاتفاقات كانت أقرب لصياغة توازن دقيق، بين الوجود التركى فى الشمال والوسط من سوريا وآخر إسرائيلى يستخدم الجزء الجنوبى والجنوبى الشرقي، على ألا يختل هذا التوازن بميزة لأحد الطرفين مما يهدد أو يعيق تحركات الطرف الآخر. وهذا يفسر الجزء الذى جاء بتعليق الوزير كاتس وأشار فيه إلى «اتفاق بين دمشق وأنقرة، يمنح تركيا نفوذا وقواعد عسكرية فى سوريا قد يحد من عمليات إسرائيل، وحركتها فى الأجواء السورية». ويفسر أيضا أن الهجمات الجوية الإسرائيلية،جاء مصاحبا لها هجوم مفاجئ آخر تمدد بريا تجاه محافظة «درعا»، فى مناطق تدخلها القوات الإسرائيلية للمرة الأولي.
التحرك البرى الإسرائيلى تجاه درعا، لا يقل خطورة عن الغارات الجوية التى استهدفت دمشق وحماة، فهو للمرة الأولى يدفع بوحدات من الجيش الإسرائيلى للتوغل فى مناطق جديدة يستهدف ضمها إلى المساحات التى جرى السيطرة عليها خلال الأشهر الماضية. القوة الإسرائيلية توغلت بريف درعا الغربى قبل الانسحاب منه إلى مواقع استحدثتها داخل سوريا، كما صاحبها تحليق مكثف لطائرات الاستطلاع فى سماء القنيطرة وريف درعا الغربى، هذا يعكس بوضوح أن عمليات «قضم الأراضى» من جانب إسرائيل تسير بشكل متسارع. ويبعث فى الوقت ذاته للجانب التركى، أن عملياته فى الجنوب السورى لم تكتمل، بعد وأن لديه مخططات قد يزعجها أو يشوش عليها على الأقل مثل تلك الخطوات التركية، التى ليست بالبعيدة عن هذا المحيط الجغرافى.
اختبار صعب ومركب؛ يتعرض له النظام السورى الجديد، وأعقد من أن يفكك مكوناته منفردا، لهذا يظل الرهان على الشريك الثالث الكبير لهذا المشروع ـ الولايات المتحدة ـ أن تتدخل، لضبط إيقاع التوازنات المعرضة للاختلال فى أى لحظة.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية