عنوان المقال؛ اقتباس من جملة دالة جاءت في معرض النقاشات المهمة التي دارت في الندوة الثرية القيمة، التي نظمها المجلس المصري للشئون الخارجية في القاهرة الأسبوع الماضي، بعنوان «تطورات الأزمة السودانية وآفاق وفرص تسويتها». الندوة على درجة عالية من الأهمية في اختيار موضوعاتها بعناية وتدقيق وشمولية، كلماتها الافتتاحية ألقاها كل من السيد السفير محمد العرابي رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية، والسيد السفير ياسر سرور مساعد وزير الخارجية لشئون السودان الذي ألقى الضوء بشكل واف عن الجهود المصرية، التي بذلت خلال السنوات الماضية منذ الحراك الشعبي السوداني ديسمبر 2018 وتغيير النظام بإرادة شعبية في أبريل 2019. وقد بدا الجهد المصري الرسمي والشعبي حقيقة على درجة عالية من الثراء والإخلاص من خلال عرض السيد مساعد وزير الخارجية، فضلا عن قدر الموضوعية والرصانة التي لا تخلو منها المقاربات المصرية عادة فيما يخص السودان الشقيق، مما يعكس الأهمية التاريخية والأزلية للبلدين والشعبين الشقيقين بصورة واقعية، تضع «المصير المشترك» الحقيقي كمصطلح الضرورة البارز متجاوزا بذلك الشعارات التقليدية.
الجلسة الأولى للندوة تناولت محاور، المشهد السوداني العام في وضعه الراهن، ثم توازن القوى العسكرية المتصارعة تليها رؤية القوى السياسية الرئيسية للتسوية، اعقبها إلقاء الضوء على الكارثة الإنسانية التي خلفها عامان من الاضطرابات المسلحة والتي وضعت السودان على قمة المؤشرات الدولية، للأزمات الإنسانية المتعلقة بالصحة والغذاء وإشكاليات النزوح والهجرة الداخلية والخارجية وسبل التعامل معها، من خلال منظومة دول الجوار بالتعاون مع المنظمات الإقليمية والدولية.أما الجلسة الثانية فقد استعرضت فرص وآفاق التسوية وإعادة الاعمار، كما قدمت قراءة معمقة لمبادرات التسوية المختلفة التي تم طرحها لمعالجة الأزمة السودانية الإقليمية والدولية. طرح أيضا في هذه الجلسة بشكل موضوعي خطط وتصورات لإعادة بناء وإعمار السودان، واختتمت الجلسة بتقديم مقاربة مصرية لتسوية الأزمة تبني على الجهود المصرية الرسمية التي بذلت وتبلورت خلال العام الماضي، وأجمع الحضور على أن تلك المقاربة تبدو الأكثر نضجا وواقعية حيث استفادت بالفعل مما تم إنجازه سلفا، ويحسب حقيقة للمجلس المصري للشئون الخارجية إنجازه هذا التصور الشامل، الذي يضع خريطة طريق عاجلة متدرجة ومتوازية المسارات جوهرها الرئيسي ـ كعادة الدبلوماسية المصرية ـ إرادة وأهداف مكونات الشعب السوداني جميعا.
المتحدثون في ندوة المجلس المصري للشئون الخارجية؛ خليط من الخبراء السودانيين والمصريين والحضور كذلك أيضا، مما أعطى قيمة إضافية وتميزا لهذه الفاعلية التي تعاملت مع القضايا والإشكاليات المركبة بدرجة واقعية، وفتحت الباب أمام نقاشات أكثر جدية في مقابل هذا الطرح الثري. خلال تلك النقاشات وفي معرض الثناء على تنظيم هذه الندوة باعتبار أهمية ما قدمته من محاور وقضايا عدة، تحدث أحد السادة الحضور عن تميز اختيار التوقيت في عقد هذه الفاعلية، ليأتي الرد المصري الواعي الذي لفت انتباه جميع الحاضرين من مصريين وسودانيين، بأن السودان ـ الدولة والشعب ـ على السواء يظل مهما طوال الوقت. وتعمق الحديث بقدر أكبر من الصراحة ليتناول حجم التغيرات الهائلة التي تهب على الإقليم بكامله، وطبيعة الأزمات الكبرى بأنماط وتداخلات مستحدثة غير نمطية تعكس نوعية جديدة من التحديات، تلزمها درجة عالية من الجاهزية للتفاعل معها وتقديم ما يلزم لحماية دول وشعوب المنطقة، بمفاهيم ومقاربات تتوافق مع أنماط التهديدات الراهنة والمستقبلية، ومن أهم وأصدق ما قيل في هذا الشأن أن التجربة السودانية الأخيرة والتي لم تنته بعد، كشفت حتمية مواجهة المستقبل بكل ما يحمله من تحديات وآمال بآلية تكاملية موحدة بين السودان ومصر تتناسب مع حجم المهام المنتظرة.
تزامنا مع هذا التوقيت؛ نشر مجلس الأمن في الأمم المتحدة الإفادة المؤرخة 14 أبريل 2025 الموجهة إلى رئيس مجلس الأمن بوصفه رئيس اللجنة المنشأة عملا بالقرار رقم (1591) عام 2005، وعملا بالفقرة 2 من القرار المستحدث (2725) لعام 2024 يتضمن التقرير النهائي لفريق الخبراء المعني بالسودان المنشأ بحسب تلك القرارات السالفة. أحيل التقرير إلى اللجنة في 23 ديسمبر 2024 ونظرت فيه في 9 أبريل 2025، والإفادة تطالب رئيس مجلس الأمن والدول الأعضاء باعتبار التقرير المرفق وثيقة من وثائق المجلس. التقرير يتكون من 50 صفحة؛ وعلى درجة عالية من الأهمية وهي خطوة وان جاءت متأخرة بالطبع، لكنها تظل على درجة عالية من الأهمية كونها وثيقة وافية تقدم قدرا وافرا من المعلومات والتقييم، لأشكال وأنماط التحديات التي دفعت المشهد السوداني الراهن لهذا التعقيد والتشابك، الذي يستلزم تضافر الجهود والإرادات لتقديم يد العون الإقليمي والدولي للدولة السودانية، من أجل عبور هذا التحدي الكبير المفتوح على سيناريوهات عدة، خلص التقرير إلى أن أقربها هو شكل من أشكال التشظي وتوطن للصراعات البينية المزمنة.
من المهم النظر إلى أن التقرير الأممي؛ كعادة هذه التقارير التي تتناول الصراعات الداخلية المسلحة وكنمط معتمد للمنظمة الأممية، ويعمل عليه خبراؤها في صياغاتهم والرؤى التي يقومون بتقديمها، يلحون ويكررون مصطلح «أطراف الصراع» وتأتي هناك مساواة بين هذه الأطراف، حتى وإن كانت هناك إدانة واضحة لأحد الأطراف باعتباره الأكثر ارتكابا لانتهاكات ومخالفات قانونية وأمنية. فالخبراء في هذه الحالة يعتبرون تقييمهم الأشمل ينصب على النتائج، دون تحميل طرف بعينه المسئولية حتى لا توصف تقديراتهم بالانحياز السياسي. لذلك يجب عدم الوقوف طويلا أمام هذه النقاط الشكلية، فالأهم هو التعامل الموضوعي مع التقرير والذي بالفعل يرصد وينشر من المعلومات ما يحقق فائدة هائلة، في محاصرة انفلات وانتهاكات القوى المسلحة غير الشرعية المتسببة في هذه الأزمة، التقرير ذكر بالاسم والتفصيل «الدعم السريع» وقواته التي أدان التقرير حجم الانتهاكات والمهددات التي تقوم بها، والتي يمكن من خلالها حصار ومحاسبة القائمين على هذه الأفعال.
من الملامح المهمة لتقرير خبراء الأمم المتحدة المختص بالشأن السوداني، إفساحه مساحة كبيرة لمنطقة دارفور وما يجري فيها، وهذه نقطة بالغة الأهمية والدقة وهي تفتح المجال بالضرورة للمبادرات الناضجة والنشيطة، التي يمكنها أن تقدم الجديد لمحاصرة أشكال أخرى من التداعي لا يأملها أحد بالتأكيد.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية