بناءً على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول التزامات إسرائيل فيما يتعلق بوجود وأنشطة الأمم المتحدة ومنظمات أخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة عقدت محكمة العدل الدولية يوم 28 أبريل حتى 2 مايو 2025 جلسات استماع شفوية لـ 39 دولة من بينهم مصر، وكذلك أدلت منظمة الأمم المتحدة بيانًا لها وثلاث منظمات دولية أخرى وهم جامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي، الاتحاد الأفريقي وجاءت جميعها لتدين الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة؛ حيث ألقى بيان الأمم المتحدة وكيلة الأمين العام للشئون القانونية والمستشارة القانونية للأمم المتحدة لتؤكد أن إسرائيل بصفتها قوة محتلة تقع عليها التزامات عديدة تتعلق بوجود الأمم المتحدة وأنشطتها في الأرض الفلسطينية المحتلة وتشمل هذه الالتزامات بموجب القانون الدولي الإنساني الالتزام الشامل بإدارة الأرض لصالح السكان المحليين، والالتزام بالموافقة على برامج الإغاثة وتسهيلها، والالتزام بتسهيل عمل جميع المؤسسات المخصصة لرعاية الأطفال، والالتزام بالحفاظ على المؤسسات والخدمات الطبية والمستشفيات بما فيها تلك التي أنشأتها هيئات الأمم المتحدة والالتزام المطلق باحترام حرمة مباني الأمم المتحدة وممتلكاتها وأصولها في جميع الأوقات، بما في ذلك أثناء النزاع المسلح وأن هناك حاجة ملحة للعودة إلى وقف إطلاق النار، وأن على جميع الأطراف احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي.
وجاء بيان الدولة المصرية أمام المحكمة مرتكزًا على عدة نقاط جوهرية وهي:
– الالتزامات الإسرائيلية كعضو في الأمم المتحدة بموجب ميثاق الأمم المتحدة والقرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
– التزامات إسرائيل كقوة احتلال بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
– العواقب القانونية على انتهاك تلك الالتزامات.
وتضمن البيان المصري أكثر من 75 نقطة توضح وتدين الانتهاكات الإسرائيلية ومنها إغلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي المعابر ومنع دخول المساعدات الإنسانية وقيامها بقصف معبر رفح من الجانب الفلسطيني لمنع دخول المساعدات الإنسانية وقتل ما يقرب من 52 ألف مدني واستهداف البنية التحتية والعاملين في المجال الطبي، وكذلك تقويض عمل وكالة الأونروا وعمليات الإخلاء القسري للسكان وذلك كله لعرقلة حق الشعب الفلسطيني في حقه غير القابل للتصرف في تقرير مصيره.
وإنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي وكالة تشجع على إدارة وترحيل الفلسطينيين من غزة وهو ما يعد استبدالًا للمنظمات الأممية بآليات إسرائيلية والضغط على سكان غزة، إما البقاء وتحمل الموت والدمار وإما تهجيرهم قسريًا خارج وطنهم وهو ما يؤكد سياسة الحكومة الإسرائيلية من نزع الصفة الفلسطينية عن الأراضي الفلسطينية المحتلة ويؤدي إلى تغير التركيبة الديموغرافية للسكان في غزة وانتهاك القانون الدولي وأكد بيان الدولة المصرية أن إسرائيل ملزمة بإعادة إعمار غزة فهي المرتكبة للخطأ وملزمة بالتعويض.
ولا بد هنا أن نؤكد أن مشاركة مصر أمام محكمة العدل الدولية ينبع من إيمان الدولة المصرية بدور المحكمة والقانون الدولي والمنظمات الدولية في حماية الشعب الفلسطيني حتى يتمكن من تحقيق دولته المستقلة ذات السيادة على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
التحليل والأسانيد القانونية للإلتزامات والانتهاكات الإسرائيلية:
جاء طلب الأمم المتحدة بطلب الرأي الاستشاري حول التزامات إسرائيل فيما يتعلق بوجود وأنشطة الأمم المتحدة ومنظمات أخرى في الأرض الفلسطينية المحتلة
وهو ما يسلط الضوء على بعدٍ جديد من مساءلة إسرائيل، لا يتعلق فقط بحقوق الفلسطينيين، بل أيضًا باحترامها للمنظومة الدولية برمتها؛ مما يجعل الرأي الاستشاري المرتقب إصداره بمثابة مقياس لتوازن العدالة الدولية.
يأتي ذلك بعد أقل من عام على إصدار المحكمة فتواها بشأن العواقب القانونية عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والضفة الغربية وقطاع غزة والتي أقرت أن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، وأن دولة الاحتلال الإسرائيلي ملزمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي المحتلة -وهي الأراضي الفلسطينية- في أسرع وقت ممكن، كذلك يقع على عاتق دولة إسرائيل واجب تقديم التعويضات عن الأضرار التي لحقت بكل ما هو طبيعي والأشخاص الاعتباريين المعنيين في الأرض الفلسطينية المحتلة.
جاءت الانتهاكات الإسرائيلية لمنظمة الأمم المتحدة والوكالات التابعة لهما من اختراق دولة الاحتلال الإسرائيلي لميثاق الأمم المتحدة ومنها ما تضمنته المادة (1 فقرة 2) من إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها وهو ما تنكره إسرائيل من حق الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره.
كذلك ما تضمنته المادة (2/4) من امتناع أعضاء الأمم المتحدة في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
كذلك تقيد عمل وكالة الأونروا رغم ما تتمتع به من حصانة كونها وكالة تابعة للأمم المتحدة وقيام دولة الاحتلال بإصدار تشريعات تحظر نشاط وكالة الأونروا داخل إسرائيل وتصنيفها كمنظمة إرهابية، ويحظر العلاقات بين المسئولين الإسرائيليين والوكالة ويجرد موظفيها من حصاناتهم القانونية، وهو ما ينتهك ميثاق الأمم المتحدة أيضا في المادة (2/5) المتضمنة تقديم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من عون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق، حيث أُسست وكالة الأونروا بقرار أممي عام 1949، وبالتالي فإن مسئولية الإبقاء عليها تعود إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، فدولة الاحتلال الإسرائيلي ليست هي من أنشأ (الأونروا) لكي تحظر عملها فما تقوم به دولة الاحتلال الإسرائيلي يشكل خرقًا لقرارات الشرعية الدولية.
ومن منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي المقترن بقيود مفروضة على المنظمات الدولية وعلى رأسها وكالة الأونروا، والصليب الأحمر، وهيئات الأمم المتحدة يُمثل انتهاكًا مزدوجًا فهو يقمع الشعب الواقع تحت الاحتلال، ويمنع الهيئات الدولية من تنفيذ واجباتها الإنسانية والقانونية تجاهه.
كذلك ينتهك الاحتلال الإسرائيلي القانون الدولي لحقوق الإنسان فحرمان السكان الفلسطينيين من الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية والمساعدات الغذائية ووضعهم في ظروف معيشية صعبة بقصد إهلاكهم عبر تقويض عمل المؤسسات الدولية يشكل انتهاكًا لحقوقهم الأساسية ومن أهمها الحق في الحياة فأي سياسة تحرم السكان من الغذاء والدواء أو الإغاثة تشكل تهديدًا لهذا الحق.
ومن منظور القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 بشأن حمایة الأشخاص المدنیین في وقت الحرب.
انتهكت قوات الاحتلال الإسرائيلي المادة (49) بشان حظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحمیین أو نفیھم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة، أو غير محتلة أيًا كانت دوافعه وهو المتمثل حاليًا في رغبة قوات الاحتلال النقل القسري لسكان قطاع غزة، فنقل السكان المدنيين من أماكنهم المعتادة إلى أماكن أخرى دون مبررات يسمح بها القانون الدولي هو أمر محرم، أيًا كان المكان الذي سوف يُنقلون إليه، ويؤدي ذلك إلـى نتـائج خطيـرة تـؤدي إلـى إذابـة الكيـان القـومي للسـكان الأصـليين لقطاع غزة.
كذلك المادة (55، 59) المتضمنتان أن تعمل دولة الاحتلال بأقصى ما تسمح به وسائلھا على تزوید السكان بالمؤن الغذائیة والإمدادات الطبیة، ويجب على دولة الاحتلال أن تسمح بعملیات الإغاثة لمصلحة ھؤلاء السكان وتوفر التسھیلات بقدر ما تسمح به وسائلھا وتتكون ھذه العملیات التي یمكن أن تقوم بھا دول أو ھیئة إنسانیة غیر متحیزة كاللجنة الدولیة للصلیب الأحمر، وهو ما تفعل قوات الاحتلال الإسرائيلي نقيضه من منع دخول المساعدات الإنسانية وغلق معبر رفح من الناحية الفلسطينية الذي يعد شريان الحياة للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وكذلك تقيد كافة وسائل الإغاثة من وكالات دولية مثل الأونروا ولجان دولية مثل الصليب الأحمر.
انتهاك قرار مجلس الأمن رقم (2735) لسنة 2024 الخاص بوقف إطلاق النار ورفض أي محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي أو إقليمي في قطاع غزة بما في ذلك أي إجراءات تقلص مساحة أراضي القطاع وتأكيد الالتزام الثابت برؤية حل الدولتين الذي تعيش بموجبه إسرائيل وفلسطين جنبًا إلى جنب في سلام وضمن حدود آمنة ومعترف بها بما يتفق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة وتوحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية.
ومن المبادئ المستقرة في القانون الدولي أن كل إخلال يقع من أي دولة بأحد تعهداتها يستتبع الالتزام بالتعويض الملائم، وهو ما ذهبت إليه لجنة القانون الدولي التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة في مبدأ مسئولية الدولة عن الأضرار التي تلحق بالآخرين ومؤداها الالتزام بتعويض هذه الأضرار متى كانت نتيجة أفعال منافية للالتزامات الدولية، فسكان قطاع غزة يستحقون التعويض عن المعاناة والجرائم التي ارتكبت في حقهم من دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويترتب عليها التعويض إعمالًا بمسئوليتها الدولية عن تلك الجرائم في حق الفلسطينيين ويكون التعويض بمثابة جزاء موقع على الدولة ويدخل في مبالغ إعادة الإعمار بالقطاع وذلك بمشاركة دولة الاحتلال الإسرائيلي بتحمل جزء من تكلفة إعادة إعمار القطاع وهو ما يتمثل في إعادة قطاع غزة لما كان عليه قبل القصف بغية تحقيق العدالة فالحق في جبر الضرر أو الإنصاف والتعويض وغيرها هو من أهم الحقوق لتعويض الضحايا الفلسطينيين.
وختامًا، كل ما سبق من مواد قانونية دولية تُشكل حجر الأساس لأي تقييم قانوني لأداء إسرائيل كقوة احتلال خاصة عندما تُعرقل أو تمنع عمل المنظمات الدولية التي تسعى لتقديم خدمات مرتبطة بهذه الحقوق وهو ما يؤكد الانتهاكات الإسرائيلية لكافة القوانين والقرارات الدولية ويشكل منعطفًا في توجيه إرادة المجتمع الدولي، وتعزيز أدوات المساءلة القانونية، وتثبت مبدأ أن الاحتلال إذا طال وتحول إلى ضم فعلي، يفقد أي غطاء قانوني أو شرعي.
والرأي الاستشاري المرتقب من المحكمة وإن لم يكن ملزمًا قانونًا، سيكون بمثابة إدانة أخلاقية وقانونية صريحة لسياسات الاحتلال التي لا تنتهك فقط حقوق الأفراد بل تقوّض أيضًا النظام الدولي القائم على التزامات الدول تجاه بعضها البعض، وتجاه المنظمات الدولية، فاحترام محكمة العدل الدولية ومهامها أمر أساسي لا غنى عنه لسيادة القانون وتغليب العقل والمنطق في الشئون الدولية، فمحكمة العدل الدولية تُظهر التزامًا بإجراءاتها الشكلية والموضوعية، وتفتح المجال لتقديم الأدلة والدفوع، في مشهد قانوني لا يخلو من الرمزية أن العدالة حتى وإن تأخرت تظل حاضرة بصوت القانون.
دكتور القانون الدولي العام