أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على هامش زيارته الأخيرة للمنطقة وبالتحديد في المملكة العربية السعودية على هامش لقائه برئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عن خطوة شديدة الأهمية ارتباطًا بالحالة السورية؛ حيث أشار إلى أنه “سوف يقوم برفع العقوبات المفروضة على سوريا”، ووصف “ترامب” العقوبات بأنها “وحشية ومعيقة”، معتبرًا أن “استمرارها لم يعد مبررًا”، ولاحقًا في يوم 20 مايو الجاري أعلن الاتحاد الأوروبي بدوره عن رفع العقوبات على سوريا، وقد ارتبطت أهمية هذه الخطوات المتلاحقة بجملة من الاعتبارات، خصوصًا وأن ملف العقوبات أصبح على رأس أولويات وتحديات المرحلة الانتقالية في سوريا في مرحلة ما بعد بشار الأسد، كما أن هذه المواقف تعبر نسبيًا عن تغيرات كبيرة في أنماط تعاطي بعض الأطراف الغربية مع الإدارة السورية الحالية.
أولًا- خلفية عن العقوبات المفروضة على سوريا
بدأت منظومة العقوبات الغربية على سوريا منذ العام 1979 أي في عهد الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، على وقع تصنيف الولايات المتحدة سوريا “كدولة داعمة للإرهاب”، وقد ترتب على هذا التصنيف فرض قيود على المساعدات الأمريكية لسوريا، وحظر بيع أسلحة لها، وإخضاع معاملات البنوك الأمريكية مع الحكومة السورية والكيانات المملوكة لها لضوابط مشددة، فضلًا عن فرض عقوبات على عدد من المسئولين والكيانات الحكومية السورية. وفي مقابل ذلك بدت عديد من الدول الأوروبية في تلك الفترة مترددة إزاء مسألة فرض العقوبات على سوريا.
لكن التحول الحقيقي في مسار العقوبات الغربية على سوريا بدأ منذ العام 2011، مع اندلاع الاحتجاجات ضد نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، والتعامل من قبل النظام السوري بمنطق العنف المفرط مع هذه الاحتجاجات وبدأت العقوبات الأمريكية تدريجيًا منذ أبريل 2011، واستهدفت مسئولين عن “انتهاكات حقوق الإنسان”، وفي أغسطس 2011 فرضت الولايات المتحدة حظرًا على قطاع النفط، وتجميد الأصول المالية لعدد من الشخصيات، فضلًا عن الأصول المالية للدولة السورية نفسها، لتصل هذه العقوبات إلى ذروتها مع العام 2020 وتطبيق “قانون قيصر”، وعلى المنوال نفسه ولكن بدرجة أقل من العقوبات الأمريكية، بدأ الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات على سوريا منذ العام 2011، وهي العقوبات التي شملت إجمالًا: حظر شراء النفط السوري، وحظر بيع معدات لتطوير صناعة النفط السوري، وقيود على الاستثمارات في سوريا والحد من قدرة المصارف السورية على العمل في الاتحاد الأوروبي، وتجميد أصول الحكومة السورية في الاتحاد الأوروبي وحظر تعامل الأفراد والشركات من الاتحاد الأوروبي مع الحكومة السورية بما في ذلك الشركات السورية المملوكة للدولة، ومجموعة من العقوبات محددة الهدف ضد مسئولين في الحكومة السورية وشركات وكيانات سورية مختلفة.
وقد أدت هذه العقوبات إجمالًا ليس فقط إلى حالة من العزلة الدولية السياسية بالنسبة لسوريا، ولكنها أدت عمليًا إلى مزيد من الإنهاك للاقتصاد السوري، ومزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة للشعب السوري، بل إن المجتمع الدولي لم يستطع حتى التعامل مع العديد من الأزمات الإنسانية للشعب السوري على وقع هذه العقوبات؛ حيث كان المجتمع الدولي ينظر إلى نظام “الأسد” باعتباره نظامًا يخضع تفاعله الدولى والإقليمى لعدة عقوبات يصعب التغاضى عنها ولو تحت مبررات إنسانية. وفي مرحلة ما بعد “الأسد” تحول هذا الملف إلى معضلة رئيسية تواجه الإدارة الحالية، على اعتبار أنه يعوق فكرة الانفتاح الدولي على سوريا، كما أنها تدفع باتجاه استمرار الحصار الاقتصادي، وعرقلة أي مشاريع استثمارية، بما ينعكس على عدم قدرة هذه الإدارة على التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الملحة.
ثانيًا- طبيعة القرارات الأخيرة
كانت السمة الغالبة على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رفع العقوبات على سوريا هي الغموض وعدم الوضوح، ويمكن الإشارة إلى حالة الغموض التي طغت على هذا الإعلان من قبل “ترامب” في ضوء الآتي:
- لم يوضح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ماهية خطوة رفع العقوبات على سوريا، وما إن كانت تشمل رفع القيود الاقتصادية والتجارية الشاملة، أم تلك المرتبطة بمكافحة الإرهاب، وهنا يجب الإشارة إلى أن هناك شبكة معقدة من العقوبات الأمريكية على سوريا، والتي يتداخل فيها الأوامر التنفيذية مع القوانين.
- كذلك لم يطرح إعلان “ترامب” أو تصريحات المسئولين الأمريكيين أي خريطة طريق أو جدول زمني واضح لفك شبكة العقوبات المفروضة على سوريا، وما يؤكد ذلك هو تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية مايكل ميتشل، والتي قال فيها: إنه ليس هناك جدول زمني لرفع العقوبات الأميركية عن سوريا، موضحًا أن إعلان رفع العقوبات فرصة من أجل توطيد الأمن والاستقرار في سوريا. وهنا يجب الإشارة إلى أن الأرجح أن “ترامب” سوف يُصدر أوامر تنفيذية لرفع العقوبات بعد تجاوز بعض الإجراءات القانونية اللازمة على غرار موافقة الكونجرس الأمريكي.
- وتعريجًا على العامل السابق يجدر الإشارة إلى أن التجارب والخبرات الدولية في مسألة العقوبات، تكشف أن هذا المسار يمر بعدد من المراحل مرحلة التقييم ثم التعليق والرفع الجزئي باتجاه الرفع الكلي للعقوبات، وهي مراحل تحتاج إلى جهود تشريعية جنبًا إلى جنب مع أوامر تنفيذية تصدر عن السلطة التنفيذية في الدول التي تفرض العقوبات.
- أيضًا كان هناك جملة من المؤشرات المتناقضة بخصوص طبيعة “الصفقة” التي يرغب بها “ترامب” نظير الإتمام الكامل لخطوة رفع العقوبات، خصوصًا مع رغبة الرئيس الأمريكي في تطبيع العلاقات بين سوريا وبين إسرائيل، فضلًا عن عديد من المطالب الأمريكية الأخرى من الإدارة السورية الجديدة، والتي نشرتها عديد من وسائل الإعلام، وبالتالي ربما يظل تنفيذ الخطوة مرهونًا بموقف إدارة أحمد الشرع من هذه المطالب الأمريكية.
على مستوى إعلان الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق برفع العقوبات عن سوريا، لم يختلف الأمر كثيرًا عن الحالة الأمريكية من حيث الغموض وعدم وجود جدول زمني واضح لتنفيذ هذه الخطوة، لكن يُلاحظ أن خطوة “ترامب” شجعت الاتحاد الأوروبي على اتخاذ خطوة مشابهة، أيضًا سوف يكون هناك عدد من المسارات للوصول إلى فكرة الرفع الكامل للعقوبات الأوروبية على سوريا؛ مما يعني احتمالية إعادة فرض هذه العقوبات حال عدم التزام الإدارة السورية الحالية باشتراطات أوروبية معينة خصوصًا فيما يتعلق بمسائل الحكم الرشيد والتعامل مع الأقليات.
ثالثًا- المتغيرات الرئيسية
يظل السؤال الرئيسي حاليًا مرتبطًا بطبيعة المتغيرات التي طرأت والتي دفعت الجانبين الأمريكي والأوروبي إلى إعادة النظر في مسألة ومعضلة العقوبات المفروضة على سوريا، ويبدو أن هناك مجموعة من المتغيرات الرئيسية في هذا الصدد:
1- الإطاحة بنظام بشار الأسد: هناك سردية رئيسية يستند إليها الاتجاه الأمريكي الداعم لرفع العقوبات على سوريا، وهو الاتجاه الذي يقوده الرئيس “ترامب” وبعض الدوائر في وزارة الخارجية والكونجرس الأمريكي، وهي السردية التي تقوم على فكرة أن العقوبات كانت مرتبطة بوجود حزب البعث وخصوصًا بشار الأسد في الحكم، بما يحمله هذا الوجود من تداعيات على مستوى التموضع الإقليمي لسوريا وخصوصًا علاقاتها بإيران وأذرعها في المنطقة، فضلًا عن ممارسات نظام “البعث” بحق الشعب السوري، وبالتالي يرى أنصار هذا الاتجاه أن علة ومبرر العقوبات قد انتفت بالإطاحة بالنظام الجديد وأن الأولوية حاليًا هي لإعادة التموضع الأمريكي في سوريا، ولا يختلف الأمر كثيرًا في حالة الاتحاد الأوروبي، والذي يرى أن الإطاحة بـ “الأسد” تمثل فرصة لبناء مسار سياسي شامل في سوريا يراعي مصالح وكذا تخوفات الأطراف الأوروبية.
2- المتغيرات الخاصة بهيئة تحرير الشام: كانت مسألة إدراج هيئة تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع على لوائح الإرهاب في كافة الدول الغربية، وما يتبع ذلك من تخوفات تجاه السلوك المحتمل للإدارة الجديدة تجاه عديد من الملفات في سوريا خصوصًا ما يتصل بملف الأقليات العرقية والإثنية، أحد الهواجس الرئيسية بالنسبة لهذه الأطراف الغربية فيما يتعلق بالتكيف مع الإدارة السورية الجديدة والتعامل معها وتباعًا التوجه نحو رفع العقوبات، ومع قرار الإدارة السورية الجديدة بحل كافة الهياكل العسكرية من دون الدولة بما في ذلك هيئة تحرير الشام والتحرك نحو فكرة احتكار الحكومة المركزية للسلاح، مثلت هذه التحركات من الإدارة الجديدة رسالة طمأنة نسبية للدول الغربية، بخصوص سلوك هذه الإدارة، لا سيما إذا ما وُضع ذلك جنبًا إلى جنب مع التصريحات العديدة التي أطلقها “الشرع” بخصوص فكرة الديمقراطية وحفاظه على المواطنة ومراعاة التنوعات الإثنية والعرقية في سوريا. وبالتالي عمليًا باتت الدول الغربية تتبنى سردية رسمية تقوم على أن الهيئة لم تعد قائمة كفصيل عسكري وكيان مستقل؛ مما يسمح بفكرة التعاون والتماهي السياسي مع المؤسسات الخاصة بالحكومة السورية الجديدة.
3- الحسابات الإقليمية والدولية الجديدة: لا يمكن الفصل بين التحركات الأخيرة الرامية إلى رفع العقوبات عن سوريا، وبين بعض الاعتبارات الخارجية المرتبطة بالحالة السورية والإقليمية بشكل عام، وذلك من خلال مجموعة من المؤشرات الرئيسية؛ وأولها: أن هناك تحركات قطرية وتركية وسعودية كبيرة كانت ترمي إلى تقديم ضمانات ورسائل طمأنة بخصوص الإدارة السورية الجديدة، وتطالب برفع العقوبات عن سوريا، حتى أن “الشرع” وجه الشكر بشكل خاص للسعودية وتركيا في مسألة رفع العقوبات، في الخطاب الأول له عقب تصريحات “ترامب”، وثانيها: أن تركيا على وجه الخصوص مثلت حلقة اتصال مهمة بين الجانب الأوروبي والأمريكي وبين الإدارة السورية الجديدة؛ مما تجسد في عديد من المباحثات بين الجانبين الغربي والتركي بخصوص سوريا ويبدو أن تركيا قد سعت إلى إعادة تأهيل هذه الإدارة أمام الأطراف الغربية، وثالثها: أن هذه القرارات الأخيرة لا يمكن فصلها عن احتمالية وجود مساعي لتهيئة الأجواء لصفقة إقليمية ضخمة تقع سوريا في القلب منها وتضمن تعميق الشراكات الأمنية والاقتصادية وتحييد النفوذ الإيراني والروسي.
4- الهواجس الخاصة بالدول الغربية: تستند التحركات الغربية الأخيرة في أحد أبعادها إلى عنصر التخوف من التهديدات التي قد تصاحب استمرار حالة التأزم الاقتصادي في سوريا وما يتبع ذلك من إعادة إنتاج للأزمات الأمنية والإنسانية، على اعتبار أن الهدف الأهم للأطراف الغربية يتمثل في توفير ضمانات خاصة ببناء نظام سياسي سوري يرتكز على تعددية تمثل كافة الأطياف والأقليات، ويضمن انتقالًا سلميًا للسلطة، باعتبار ذلك مدخلًا مهمًا سواء لمنع إنتاج أزمة لجوء جديدة أو لجهة استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب من جانب التنظيمات المسلحة.
5- تجربة التعامل مع “سلطات الأمر الواقع”: أحد الاعتبارات المهمة التي يُمكن في ضوئها فهم الخطوات الأخيرة الخاصة بالتوجه نحو رفع العقوبات على سوريا، ترتبط بالنهج البراجماتي والواقعي الذي تتبناه عديد من الأطراف الغربية في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالتعامل مع “سلطات الأمر الواقع”؛ الأمر الذي يتجسد في حالة حركة طالبان الأفغانية، وهيئة تحرير الشام نفسها في إدلب، خصوصًا وأن هناك غيابًا لأطر قانونية واضحة في القانون الدولي تُجيز أو تُجرم فكرة التعامل مع سلطات الأمر الواقع، بما يعكس غياب قواعد دولية واضحة حاكمة للتعامل مع هذه المسألة؛ الأمر الذي يدفع بالمجتمع الدولي نحو التماهي لاعتبارات عديدة مع هذه السلطات تحت مبرر أنها باتت تسيطر على الأوضاع في إحدى الدول.
ختامًا، يمكن القول إن القرارات الأخيرة الأمريكية الأوروبية الخاصة بالتوجه نحو رفع العقوبات عن سوريا، لا يمكن قراءتها بمعزل عن المتغيرات الإقليمية الراهنة، وبمعزل عن التخوفات الغربية المرتبطة بالحالة السورية، لكن ذلك لا ينفي وجود بعض التحديات التي تواجه مسار رفع العقوبات، خصوصًا على مستوى تهيئة البنية التشريعية في هذه الدول لخطوة رفع العقوبات، وآلية تنفيذ ذلك وما إن كان سيتم بشكل جزئي أو شامل، فضلًا عن تحديات مرتبطة بعوامل أخرى على غرار وجود بعض التيارات المؤسسية الغربية التي تعارض هذه الخطوة على الأقل بشكل شامل، فضلًا عن التخوفات المرتبطة بسلوك الحكومة الانتقالية في سوريا، والضمانات السياسية والدستورية التي ستقدمها.
باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية