تعمل الدولة المصرية منذ بداية الاعتداءات المستعرة على قطاع غزة كوسيط للسلام وتريد بشتى الطرق إنهاء تلك الحرب وهو ما قامت معه مصر بالضغط الدولي لإدخال أكبر كم من المساعدات الإنسانية عبر القنوات الشرعية والقانونية وتعتبر الدولة المصرية حالة نموذجية للدولة التي تجد نفسها في وضع جغرافي وسياسي يجعلها طرفًا غير مباشر في صراع إقليمي، ورغم ذلك تتحمل أعباء أمنية وقانونية ضخمة تتعلق بحركة الأفراد والمواد عبر حدودها، لا سيما في اتجاه قطاع غزة.
الحدود المصرية مع غزة تقع ضمن نطاق سيادتها الإقليمية الكاملة، ويخضع معبر رفح من الناحية المصرية للسلطة السيادية المصرية الخالصة، ومنذ بداية طوفان الأقصى اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي معبر رفح من الجانب الفلسطيني وسيطرت عليه وقامت بإغلاقه ومنع دخول أي مساعدات إنسانية من خلاله بقصد تجويع المدنيين بقطاع غزة منتهكةً بذلك كافة القوانيين الدولية ومرتكبة لجرائم دولية بحق المدنيين.
ويأتي المقال للإجابة عن إشكالية؛ وهي إلى أي مدى تمثل قوافل كسر الحصار تهديدًا للسيادة
والأمن القومي المصري؟ وهل تنتهك القواعد القانونية الدولية؟
بدأت قافلة الصمود وكسر الحصار رحلتها من تونس متجهة إلى غزة باتجاه الحدود التونسية الليبية جنوبًا على أن تمتد الرحلة على طول ليبيا وصولًا إلى الحدود مع مصر، ومن ثَمّ إلى معبر رفح البري في محاولة لكسر الحصار الإسرائيلي عن غزة وتقديم التضامن للفلسطينيين والجدير بالذكر أن القافلة لا تحمل مساعدات إلى غزة، لكنها تهدف إلى القيام بعمل رمزي في القطاع الفلسطيني، ووفقًا لبيانات القافلة شارك فيها ما يقارب 1500 من الناشطين في المجتمع المدني والحقوقيين من تونس و200 شخص من الجزائر على أن ينضم إليها آخرون في طريق القافلة إلى الحدود الليبية إلى جانب منظمات وداعمين ليبيين، وهناك مشاركون آخرون من عدة دول أوروبية وغيرها سينضمون إلى القافلة جوًّا في مصر.
وهو ما تم الرد عليه من وزارة الخارجية المصرية حيث شددت على أن أي زيارات لوفود أجنبية إلى المنطقة الحدودية المحاذية للقطاع يجب أن تقترن بالحصول على موافقات مسبقة، ففي ظل الطلبات والاستفسارات المتعلقة بزيارة وفود أجنبية للمنطقة الحدودية المحاذية لغزة تُؤكد الدولة المصرية على ضرورة الحصول على موافقات مسبقة لإتمام تلك الزيارات وأن السبيل الوحيد لمواصلة السلطات المصرية النظر في تلك الطلبات هو من خلال اتباع الضوابط التنظيمية والآلية المتبعة منذ بدء الحرب علي غزة، وهي التقدم بطلب رسمي للسفارات المصرية في الخارج أو من خلال الطلبات المقدمة من السفارات الأجنبية بالقاهرة، أو ممثلي المنظمات، إلى وزارة الخارجية.
رؤية قانونية لقافلة كسر الحصار
أولًا: السيادة: من أهم المبادئ التي عرفت منذ القدم ويقوم عليها القانون الدولي هو مبدأ السيادة، وهو وصف لأي دولة معترف بها دوليًا ويكون لها السلطة العليا على إقليمها وممارسة سلطاتها بشكل كامل داخل حدودها بعيدًا عن أي تدخل خارجي، وتعتبر السيادة من أهم مقومات وجود الدولة وأهم ما يميز الدولة عن غيرها، فمنذ معاهدة وستفاليا سنة 1648 حتى الآن وتعتبر السيادة أحد المبادئ الرئيسية التي تحكم المجتمع الدولي وترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الدولة، فعناصر وجود الدولة ( شعب – إقليم – سلطة سياسية) وهو ما تمارس عليه الدولة سيادتها في مواجهة المجتمع الدولي ويكون للسلطة السياسية نظام قانوني خاص لإدارة شئونها الداخلية والخارجية ولا يجوز المساس به أو الاعتراض عليه من باقي دول المجتمع الدولي كونه يمثل جزءًا من سيادتها في مواجهة العالم الخارجي وهي في ذلك كله لا تخضع لإرادة أي دولة أخرى، فرفض الدولة المصرية عبور حدودها إلا بتصريح مسبق
هو انطباق لمبدأ السيادة المصرية، فالدولة المصرية تتخذ في ذلك كافة القوانيين المعمول بها داخليًا ودوليًا، فمن غير المقبول مرور قافلة داخل الحدود المصرية وعلى الإقليم المصري دون إخطار مسبق أو إذن بالدخول والوصول لمنطقة معبر رفح الحدودية وهي منطقة حدودية ملتهبة؛ نظرًا للأحداث الجارية وممارسة دولة الاحتلال الإسرائيلي وتحكمها في المعبر من الجانب الفلسطيني وإغلاقه. فأي تحرك داخل الأراضي المصرية في اتجاه الحدود الدولية دون تصريح أو إذن من الجهات المختصة يعد انتهاكًا قانونيًا وهو ما تفعله الآن قافلة فك الحصار وضغطها للمرور ودخول الحدود المصرية.
ثانيًا: انتهاك قواعد القانون الدولي
وفقًا للقواعد المستقرة في القانون الدولي العام فإن لكل دولة السيادة الكاملة على إقليمها وحدودها، ويشمل ذلك حقها المطلق في تنظيم دخول الأفراد والقوافل إلى أراضيها وقد نصت المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة على:
“يمتنع أعضاء الهيئة عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة”.
كذلك نصت المادة (2/7) على عدم جواز التدخل في الشئون الداخلية وهو الأساس القانوني الذي يبرر مشروعية مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول وهو ما يعد قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي التي لا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها.
كذلك قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنها القرار رقم 46/182 لسنة 1991 بشأن المساعدات الإنسانية حيث يؤكد أن:
الاحترام الكامل لمبادئ السيادة الوطنية والوحدة الإقليمية للدول ضرورة أساسية لأي نشاط إنساني، ولا يجوز تنفيذها إلا بموافقة الدولة المعنية، فكل دولة لها السيادة الكاملة على أراضيها وحدودها، ولا يجوز فرض دخول أي جهة بما في ذلك قوافل دون موافقتها.
ومن السوابق الدولية التي تؤكد ذلك عندما تعرضت محكمة العدل الدولية لفكرة السيادة عند تناولها قضية كورفو 1949 عندما أقرت أن ولاية الدولة في حدود إقليمها ولاية انفرادية ومطلقة وأن احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول يعد أساسًا جوهريًا في أي من العلاقات الدولية وعلى الدول الأخرى احترام هذا الحق.
ووفقًا للقانون الدولي الإنساني لا تلتزم مصر قانونًا بفتح أراضيها لعبور قوافل مساعدات، ما لم تكن طرفًا في النزاع أو تم الاتفاق مسبقًا على هذا الدخول.
فرفض الدولة المصرية لعبور قافلة كسر الحصار يُعد ممارسة مشروعة لحقها السيادي وفقًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف ولا يمكن اعتبار هذا الرفض في حد ذاته إسهامًا في حرمان المدنيين من المساعدات الإنسانية كما تزعم القافلة كونها لم تلتزم بالقوانين الدولية المعمول بها في إدخال المساعدات أو المرور داخل إقليم وحدود الدولة
وهناك قنوات بديلة لإيصال الإغاثة.
ثالثًا: تهديد الأمن القومي المصري
تضمنت المادة (86) من الدستور المصري أن الحفاظ على الأمن القومى واجب، وأن التزام الكافة بمراعاته مسئولية وطنية، يكفلها القانون. رغم أن ما تتخذه الدولة المصرية ضد عبور القافلة حدودها دون إخطار مسبق إجراء طبيعي ينبغي على أي دولة تحترم سيادتها اتخاذه بلا تردد، فعبور الحدود المصرية دون تصريح خرق مباشر للقانون الدولي وللأمن القومي، فالقوافل التي تتحرك خارج الأطر الرسمية تمثل ثغرة محتملة للأمن القومي، وهناك مخاوف أمنية مشروعة خاصة في ظل احتمال تسلل عناصر متطرفة بين المشاركين واستعمال أراضي الدولة المصرية كوسيط لصراع إقليمي أو دولي واستخدام القافلة كوسيلة ضغط أو تدخل سياسي غير مباشر وما قد يترتب على ذلك من تهديدات مباشرة للأمن القومي المصري وسط بيئة إقليمية معقدة وغير مستقرة، فالدولة المصرية ليست طرفًا مباشرًا في النزاع، لكنها تتحمل عبئًا أمنيًا كبيرًا في المعابر الحدودية، وهو ما يزيد احتمالية توتر الموقف، فوجود قافلة على معبر رفح دون تنسيق مسبق مع السلطات المصرية لا يمثل فقط انتهاكًا للسيادة، بل يرفع من احتمالات توتر خطير في المشهد الحدودي فهناك سيناريوهات محتملة أخطرها:
- تعامل قوات الاحتلال الإسرائيلي مع تلك القوافل على أنهم هدف معادٍ بما قد يؤدي إلى صدام مسلح.
- المعاملة بالمثل واستغلال الموقف والضغط من جانب قوات الاحتلال بدفع المدنيين من قطاع غزة أمام المعبر من الجانب الفلسطيني وفتح المعبر؛ مما يضع الدولة المصرية أمام خطر نزوح جماعي عبر أراضيها.
مما يعني تصفية القطاع من السكان وتهجيرهم عنوة للجانب المصري وهو أمر ليس بجديد، فقد أعلنه الرئيس الأمريكي ترامب من قبل بشأن توطين الفلسطينيين، والتي تُعد تمهيدًا عمليًا لاقتلاع سكان القطاع وتهجيرهم خارج أراضيهم، وهو ما يؤدي عمليًا إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه، وإخراجه من السيادة الفلسطينية. فهدف التهجير اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره التاريخية وتحويل الأرض إلى مشروع استيطاني إسرائيلي ويؤدي إلى إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية؛ مما يجعل أي مسار نحو حل الدولتين مستحيلًا، فكيف يمكن الحديث عن دولة فلسطينية دون وجود شعب على إقليمها؟
ضوابط التدخل الإنساني
لأي قافلة مساعدات إنسانية ضوابط محددة حتى لو كانت قوافل فك الحصار هدفها إنساني، فالتدخل الإنساني في تلك الحالات له شروط حددها القانون الدولي فالمساعدات الإنسانية يجب أن تكون بموافقة الدولة المعنية بذلك ولا يفرض على أي دولة فتح حدودها بالضغط الإنساني والدولة المصرية ليست ملزمة بقبول قوافل عبر إقليمها دون إذن رسمي مسبق، فالتدخل الإنساني له عدة شروط ومخالفتها تعتبر مخالفة مبادئ القانون الدولي وقواعده الآمرة، وذلك لأنه يؤدى إلى نشر الفوضى الدولية بدلًا من حفظ الأمن والاستقرار الدوليین
فضلًا عن استخدامه لتحقیق مصالح خاصة ببعض الدول فأحیانًا تستغل فكرة التدخل الإنساني كستار لتحقيق المصالح الخاصة بالدول، فالتدخل لأسباب إنسانية ممكن أن يكون غطاءً لغايات سياسية وأمنية وليس لأسباب إنسانية والتدخل لاعتبارات إنسانية لا يكون بقافلة فك الحصار وتجاوزها الحدود عنوة واختراق القوانيين المنظمة لذلك، فتلك القوافل غالبًا ما تفتقر للمعايير الموضوعية وتعتمد على اعتبارات ذاتية وتوجهات.
والأجدر أن يتم التدخل لإصدار قرارات تدين الانتهاكات الإسرائيلية والضغط على الدول المعنية لوضع نهاية لتلك الجرائم الدولية التي ترتكبها واتخاذ تدابير ضد الدول التي انتهكت تلك الحقوق.
وتظل الدولة المصرية وحدها في خضم الأحداث تحاول الوصول لحل شامل وعادل للقضية الفلسطينية ورفع المعاناة عن سكان قطاع غزة باعتزامها التعاون مع الشركاء والأصدقاء في المجتمع الدولي، وسبق أن رتبت الدولة المصرية العديد من الزيارات لوفود أجنبية، سواءً حكومية أو من منظمات حقوقية غير حكومية وكان آخرها زيارة الرئيس الفرنسي لمعبر رفح
ومنها أيضًا زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لمعبر رفح ورافقه وزير الصحة المصري وعدد من كبار مسئولي الأمم المتحدة؛ حيث دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار وتحسين وصول المساعدات الإنسانية، كذلك وفد برلماني فرنسي؛ حيث قامت مجموعة من البرلمانيين الفرنسيين بزيارة رفح، دعمًا لوقف إطلاق النار في غزة، وفحصوا العوائق أمام دخول المساعدات. فمصر لا ترفض مبدأ الدعم الإنساني لكنها ترفض أن يكون خارج الإطار الرسمي المنظّم، فطالما قدمت مصر الدعم لقطاع غزة لكن عبر قنوات دبلوماسية وإدارية تحترم القانون والسيادة.
وختامًا، تغليب المصالح العليا للبلاد وحماية الأمن القومي المصري هو ممارسة شرعية لحق الدولة في حماية أراضيها، فالادعاء بالتدخل الإنساني لا ينتج أي أثر قانوني طالما لم توافق الدولة المعنية بذلك، فإن رفض مصر السماح بدخول قافلة غير مصرّح بها لا يُعد خرقًا لأي التزام قانوني، بل هو تطبيق مباشر لحقها في حماية حدودها وأمنها القومي، فالدولة المصرية وحدها صاحبة التقدير في وزن المصالح والأخطار، وأن أي عبور غير منسق مسبقًا مهما كانت نواياه قد يتحوّل من تضامن إلى أداة ضغط أو تهديد، وفرض الرقابة القانونية على هذه التحركات ليس تقييدًا للمبادئ بل دفاع مشروع عن كيان الدولة وقرارها السيادي.
دكتور القانون الدولي العام