يتجه العراق إلى خط التصعيد الإسرائيلي الإيراني، في ضوء تحليق الطائرات الإسرائيلية والصواريخ الإيرانية فوق العراق، واحتمالية تحوله إلى ساحة للصراع بين الولايات المتحدة من ناحية والمليشيات الموالية لإيران من ناحية أخرى. ضمن هذا السياق، يناقش التحليل الموقف العراقي من التصعيد، والتداعيات المحتملة على العراق حال توسيع نطاق الحرب.
الموقف العراقي من الحرب
تقدمت بغداد بشكوى إلى مجلس الأمن لوقف التصعيد الإسرائيلي تجاه طهران، ودعا رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” إلى اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية في إسطنبول لمواجهة التصعيد الإقليمي. في السياق ذاته، دعا الإطار التنسيقي المشكل للحكومة العراقية في 16 يونيو 2025 العراقيين إلى النزول في مظاهرات منددة بالعدوان الإسرائيلي على إيران، ومساندة الأخيرة في مواجهة إسرائيل، بالتزامن مع قيام صفحات التواصل الاجتماعي للمقاومة العراقية بتعبئة المتظاهرين، ومطالبتها بغلق السفارة الأمريكية في بغداد، كما روجت قناة “صابرين نيوز” لهذه المظاهرات.
في سياق متصل، دَان المرجع الديني الأعلى “علي السيستاني”، الذي يمثل أقوى الشخصيات الدينية في العراق، والزعيم الروحي للشيعة، التصعيد الإسرائيلي إزاء إيران، والتهديدات الأمريكية باستهداف المرشد الإيراني “علي خامنئي”، وما لذلك من تداعيات خطرة على المنطقة، وحث المجتمع الدولي على القيام بدوره في وضع حل سلمي للملف النووي الإيراني وفق قواعد القانون الدولي. وقد عكس هذا الموقف للسيد السيستاني التخوفات الشيعية من جر العراق إلى دائرة الصراع الحالي، وتأثيراته على وزن القوى الشيعية في العراق.
بدوره، دعا مقتدى الصدر إلى تجنب انجرار العراق إلى الحرب، ومواجهة مزيد من الفوضى، لا سيما أن انخراط المليشيات المسلحة العراقية ضد الولايات المتحدة يعني إضعاف قدرات هذه المليشيات. من ناحية أخرى، يمثل السياق الحالي فرصة مواتية للتيار الصدري للانخراط في المشهد في حال حدوث فراغ سياسي قد ينتج عن القضاء على القوى والمليشيات الموالية لإيران في العراق، وكذلك فرصة للقوى السنية والكردية لإعادة تشكيل المشهد السياسي في العراق.
أما ما يتعلق بموقف المليشيات المسلحة الموالية لطهران، فإنه على مستوى التصريحات هناك إدانة من جانب المليشيات المسلحة للتصعيد الإسرائيلي إزاء طهران، حيث هدد رئيس حركة النجباء “أكرم الكعبي” باستهداف المصالح الأمريكية وقواعدها في المنطقة في حال تدخل الولايات المتحدة في الحرب، وذلك في بيان نشر في 19 يونيو الجاري. علاوة على تصريحات “أبو علي العسكري” المسئول الأمني في كتائب حزب الله بتعبيره: “لقد أخطأ المجنون الأحمق ترامب، في خطابه وتوقيته، وكان عليه أن يفهم ذلك قبل أن يتحدث عن مكانة الإمام الخامنئي”. وقد ألمح العسكري إلى أن أي انخراط للولايات المتحدة في الحرب يرتب دمارًا وكوارث غير مسبوقة. كما عبر البيان الصادر عن الأمين العام لكتائب حزب الله “أبو حسين الحميداوي” في 15 يونيو الجاري عن رغبة في طرد القوات الأمريكية وإغلاق السفارة الأمريكية في العراق، وهو ما تشابه مع موقف مليشيا كتائب سيد الشهداء بزعامة “أبو آلاء الولائي”.
بالرغم من هذه البيانات الصادرة عن المليشيات العراقية، لكن لم تدخل هذه المليشيات على خط التصعيد الإسرائيلي الإيراني في ظل الحذر من تبعات الانخراط على مستقبل نفوذها بالعراق، وتحاول هذه المليشيات ردع الولايات المتحدة عبر رسائل تلويحيه باستهداف القواعد والمصالح الأمريكية في حال انخراطها في الحرب. وتأجيل إيران ورقة المليشيات لحين انخراط واشنطن بشكل مباشر في الحرب، والاقتصار على رسائل تلويح للضغط على الولايات المتحدة لوقف الحرب، مع تعبئة المليشيات الشيعية للتأهب للدخول على خط الصراع.
كذلك تكشف التحركات الأمريكية بسحب موظفي السفارة في العراق، وتعزيز قدرات قوات التحالف الدولي في شمال شرق سوريا وعلى الحدود العراقية، بعبور 100 شاحنة محملة بالمعدات العسكرية من العراق عبر معبر الوليد متجهة إلى قواعد التحالف في محافظة الحسكة، بالإضافة إلى الوقود والمياه والمواد الغذائية، عن استعدادات أمريكية لحماية مصالحها في حال توجيه ضربات إيرانية إلى قواعدها ومصالحها في المنطقة، خاصة أن الطائرات الإيرانية تحركت عبر المجال الجوي العراقي بالقرب من المنشآت الأمريكية في قاعدة عين الأسد الجوية ومطار أربيل، لكن تم اعتراضها.
تداعيات محتملة
يرتب التصعيد الإسرائيلي الإيراني تداعيات محتملة على العراق يمكن توضيحها على النحو التالي:
• تهديد الأمن العراقي: يخلق هذا المشهد المضطرب تأثيرات سلبية على العراق وربما دخوله على خط التصعيد الدائر، في ظل القرب الجغرافي لبغداد حيث يحدها من الشمال تركيا، ومن الشرق إيران، ومن الجنوب السعودية ومن الجنوب الشرقي الكويت، ومن الغرب الأردن، ومن الشمال الغربي سوريا. كما يزيد من تهديدات أمنها حالة الضعف في القدرات الجوية الذي تعاني منه العراق، وعدم القدرة على مواجهة التهديدات بعيدة المدى أو عالية السرعة سواء الطائرات الإسرائيلية أو الصواريخ الإيرانية.
يحتل العراق المرتبة 43 من بين 145 دولة في القدرات العسكرية وفق تقرير جلوبال فاير2025، ولا تزال القدرات العراقية الجوية محدودة، إذ تراجعت القدرات العراقية بعد العام 2003، وتعتمد بغداد على المنظومات قصيرة المدى ومحدودية الفعالية على غرار مدافع الشيلكا، ومنظومات C-RAM الأمريكية، ومنظومات الرصد والرادارات على غرار AN/TPS-77 الأمريكية، ورادارات Giraffe السويدية، لكن يفتقر العراق إلى منظومات الدفاع الجوي بعيدة المدى على غرار باتريوت، أو s-300K، بما يجعل بغداد معرضة للتهديدات والاختراقات الجوية من الدول المحيطة.
يضاف إلى ذلك، تقود الضربات الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية إلى تسرب إشعاعي إلى العراق في ظل القرب الجغرافي لها من إيران، وهو ما دفع رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” إلى إبقاء غرفة الطوارئ الإشعاعية العراقية في حالة تأهب مستمر، تحسبًا لأي تسرب إشعاعي من المنشآت النووية الإيرانية.
• استهداف القواعد الأمريكية: تقود الحرب الإسرائيلية الإيرانية إلى جر العراق إلى دائرة الصرع خاصة في ظل وجود بعض القوات الأمريكية بها وربما تصعيد المليشيات الموالية لطهران ضد هذه القوات، بما دفع الولايات المتحدة إلى سحب الدبلوماسيين الأمريكيين وعائلاتهم من السفارات في هذه الدول، خاصة أن هناك رفضًا من جانب المليشيات الشيعية للوجود العسكري الأمريكي بالعراق، حيث يتمركز 2500 جندي في بغداد والمنطقة الكردية الشمالية والصحراء الغربية.
لدى هذه المليشيات عداء متجذر ضد الولايات المتحدة بعد اغتيال قائد فيلق القدس “قاسم سليماني” في العراق في العام 2020، وإدراج واشنطن لعدد من المليشيات العراقية على غرار عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله النجباء، كتائب سيد الشهداء، حركة أنصار الله الأوفياء، “كتائب الإمام علي” على قوائم الإرهاب، وشنت المقاومة الإسلامية في العراق أكثر من 180 هجومًا على القوات الأمريكية في العراق وسوريا والأردن منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وحتى أغسطس 2024. وعليه قد تستهدف هذه المليشيات القوات الأمريكية. وقد أشارت بعض التقارير إلى إطلاق المليشيات الموالية لطهران ثلاث طائرات مسيرة على القاعدة الأمريكية الجوية “عين الأسد الجوية” في محافظة الأنبار غرب العراق في 13 يونيو الجارى وعقب الضربات الإسرائيلية على طهران، لكن تصدت القوات الأمريكية لهذه الهجمات.
ترتيبًا على السابق، يرجع عدم تصعيد المليشيات العراقية حتى هذه اللحظة إلى التوجيهات الإيرانية بعدم الانخراط في الحرب من قبل فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وربما الاقتصار فقط على التلويح بتهديد المصالح والقواعد الأمريكية، بهدف الحفاظ على أحد الأذرع الإيرانية في بغداد، بعد الضعف الذي أصاب حزب الله في لبنان، وسقوط النظام الداعم لإيران في سوريا لحين تفعيل وحدة الساحات في حال انخراط واشنطن في الحرب، وربما أخذ التفاهمات الإيرانية مع دول الخليج في الحسبان بعد الاتفاق الموقع بين إيران والسعودية منذ مارس 2023 بعدم تهديد مصالحها.
يضاف إلى ذلك، القيود المفروضة على حركة هذه المليشيات من حيث الرفض الداخلي بعدم زعزعة استقرار العراق والسخط الشعبي من دور هذه المليشيات العراقية في بغداد، والتخوفات العراقية من سيناريو الفوضى الذي قد تستثمره الولايات المتحدة وإسرائيل، بدفع موالين لهم داخل العراق، بهدف خلق اضطرابات وفوضى، وربما اغتيال بعض القيادات على غرار اغتيال “قاسم سليماني”، وهو ما دفع العراق إلى رفع مستوى التجهيزات الأمنية.
• تقويض الهيمنة الشيعية: بالرغم من التفاهمات بين الحكومة والفصائل المسلحة في العراق على عدم التصعيد والانخراط في الحرب، وتجنب انجرار بغداد إلى أي صراع إقليمي، وعدم تحويلها لساحة مواجهة أو انطلاق لأي هجوم، يظل خطر دخول المليشيات المسلحة على خط التصعيد قائمًا، وعليه فإنه في حال اتساع الحرب بين إسرائيل وإيران وانخراط الولايات المتحدة وتصعيد المليشيات المسلحة العراقية ضد مصالحها فإن ذلك قد يرتب تقويض النفوذ الشيعي وتراجع النفوذ الإيراني في العراق، وربما نزع سلاح الفصائل المسلحة الشيعية، بما يخلق تغيرًا في النظام السياسي العراقي لصالح القوى السنية والكردية.
• اضطرابات اقتصادية: يرتب التصعيد الإسرائيلي الإيراني اضطرابات اقتصادية، إذ يُعد العراق من أكبر مصدري النفط، ففي حال استمرار الحرب الإقليمية وغلق مضيق هرمز الذي يمر به نحو 20% من تجارة النفط والغاز الطبيعي المسال العالمية، فإن ذلك يقود إلى تراجع حركة الصادرات النفطية التي تمثل أحد أهم الموارد المالية الهامة بالنسبة لبغداد. كذلك تؤثر الاضطرابات الإقليمية على ارتفاع أسعار النفط جراء الحرب بما يحقق عوائد مالية كبيرة للعراق دون جدوى في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، خاصة أن بغداد تعتمد على استيراد السلع من إيران، ومن ثم حدوث اضطراب في حركة التجارة وسلاسل الامداد والتوريد من إيران إلى العراق، بما قد يؤدي إلى إغلاق هذه المنافذ أو تعطل خطوط الشحن.
على الجانب الآخر، يعتمد العراق على الغاز الإيراني لتوليد الكهرباء، ومن ثم فإن التصعيد الإسرائيلي الإيراني يضر بخطوط الإمداد الإيرانية إلى العراق بما يهدد ثلث الكهرباء الذي يعتمد عليه، وانقطاع التيار الكهربائي بصورة مستمرة، وما لذلك من انعكاسات في صورة تظاهرات اجتماعية جراء حالة الغضب عن الخدمات المقدمة. يضاف إلى ذلك، تضرر قطاع السياحة في العراق نتيجة غلق المجال الجوي، وإيقاف الرحلات، وتوقف وصول أي مجموعات سياحية، بما يعرض الفنادق والشركات السياحية لخسائر مالية، وربما التوقف نهائيًا في حال استمرار الحرب، فضلًا عن انعكاس الحرب على الشارع العراقي بشراء متواصل للدولار، بما تسبب في رفع سعره في السوق الموازية.
ختامًا، يقود التصعيد الإسرائيلي-الإيراني إلى تداعيات خطرة على أمن العراق، وربما جر الدولة إلى دائرة الصراع. وبالرغم من التشابك بين رفع مستوى التصعيد ودخول الولايات المتحدة بشكل مباشر إلى الحرب، وانخراط المليشيات المسلحة العراقية بها؛ يظل العراق يواجه تهديدًا، سواء على مستوى عدم الاستقرار الأمني أو الاضطرابات الاقتصادية أو الاجتماعية والسياسية.