تستضيف بغداد يوم 17 مايو الجاري أعمال اجتماع مجلس جامعة الدول العربية الـ 34 على مستوى القمة، التي تتزامن مع تحديات إقليمية ودولية غير عادية؛ مما يضاعف من أهميتها الاستراتيجية في مناقشة القضايا المصيرية التي تواجه الأمة العربية، بحضور عدد من القادة ووزراء الخارجية العرب، بالإضافة إلى الوفود والسفراء الأجانب. ومن ثَمّ يناقش هذا التحليل السياق الذي تنعقد القمة في إطاره، والتحديات التي تواجه الأمن القومي العربي.
سياق مضطرب
تنعقد القمة العربية بينما تموج منطقة الشرق الأوسط باضطرابات وتحولات عميقة تُعيد رسم خرائطها الجيوسياسية وفق اعتبارات أمريكية إسرائيلية، وفيما يلي استعراض للسياق الإقليمي قبيل القمة:
• جولة ترامب الخليجية وقمة مجلس التعاون الخليجي: تكتسب القمة العربية الـ 34 أهمية إضافية بالنظر إلى توقيت انعقادها في اليوم التالي مباشرة لانتهاء جولة ترامب الخليجية المُقررة خلال الفترة بين 13 و16 مايو 2025 التي يزور خلالها السعودية والإمارات وقطر. وتتضمن المشاركة في قمة مجلس التعاون الخليجي بالرياض، وبعيدًا عن جوانب العلاقات الثنائية والصفقات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية المتوقعة، فإن توقيت الزيارة بالتزامن مع التغيرات الجيوسياسية التي أحدثتها الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وسقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد وصعود إدارة جديدة ذات خلفيات جهادية وموالية لأنقرة، وانحصار النفوذ الإيراني الإقليمي وتراجع قدرات وكلائها وانطلاق المفاوضات الدبلوماسية بشأن الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة.. يسلط الضوء على تفاهمات جيوسياسية مهمة يُمكن التوصل إليها بخصوص العدوان الإسرائيلي على غزة وملامح اليوم التالي، وقضايا البرنامج النووي الإيراني، ومصير العمليات العسكرية الإسرائيلية في اليمن ولبنان، وترتيبات أمن الملاحة بالبحر الأحمر، ولاشك أن التفاهمات الجيوسياسية التي سيتم إقرارها خلال جولة ترامب ستحكم بشكل كبير الطروحات المُقدمة خلال أعمال القمة.
وبصفة عامة، تتطلع العواصم الخليجية إلى إقناع ترامب بضرورة استخدام الولايات المتحدة نفوذها للضغط على إسرائيل لكبح الجماح العسكري الإسرائيلي تجاه غزة ولبنان وسوريا واليمن، والامتناع عن شنّ عملية عسكرية ضد إيران وتبدية الحلول الدبلوماسية على العسكرية، حيث تخشى دول مجلس التعاون الخليجي من احتمالات اندلاع حرب إقليمية تشمل إيران من شأنها زعزعة استقرارها الاقتصادي وأمنها القومي. وقد نجحت السعودية في تغيير السياسة الأمريكية تجاه سوريا وإعطاء فرصة لحكومة الشرع من خلال رفع عقوبات قانون قيصر، تمهيدًا لضخ استثمارات في عملية إعادة الإعمار، وهي رؤى سيتم التعبير عنها خلال القمة العربية.
• غياب التمثيل الرئاسي السوري: يغيب الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع عن فعاليات الدورة 34 العادية لقمة جامعة الدول، التي تُعد القمة العربية الأولى منذ توليه مهام منصبه، باستثناء حضوره الدورة غير العادية المُنعقدة في مارس الماضي بالقاهرة؛ حيث سيمثل سوريا وزير الخارجية أسعد الشيباني. ويأتي غياب الشرع في سياق انقسامات داخلية عراقية بشأن حضوره، فبينما أراد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني حضوره لإظهار قدر من الاستقلالية عن القرار الإيراني ومن ثَمّ تخفيف حدة الضغوط الأمريكية على بلاده وتأمين مظلة دعم إقليمي ودولي وبالأخص أمريكي وعربي للحصول على ولاية ثانية لرئاسة الوزراء، أبدت بعض فصائل الإطار التنسيقي القريبة من إيران معارضة لحضور الشرع بصفته شخص غير مرغوب فيه ومتورط في دماء العراقيين وصادر بحقه مذكرة اعتقال، ووصل الرفض ببعضها إلى إطلاق تهديدات ضمنية باستهدافه حال وصوله العراق. ويكشف غياب الشرع على خلفية الانقسامات الداخلية والمخاوف الأمنية التحديات التي تواجه التقارب السوري العراقي في ظل استمرار نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لطهران وتحكمها في المشهد السياسي.
• جمود الموقف بشأن “الخطة المصرية” لإعادة إعمار غزة: تنعقد القمة العربية العادية عقب ما يزيد قليلًا على شهرين من انعقاد القمة العربية الطارئة في القاهرة يوم 4 مارس 2025 والتي عنيت أساسًا بالرد على مقترح ترامب تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وشهدت الإعلان عن “الخطة المصرية” لإعادة الإعمار وتبنيها باعتبارها “خطة عربية”. ومع ذلك، لم تشهد الفترة الزمنية الفاصلة بين القمتين إحراز أي تقدم يُذكر بخصوص وضع الخطة موضع التنفيذ، وبات الجمود سيد المشهد على خلفية التحفظات الخليجية على البنود المتعلقة بمستقبل حماس في الحكم والأمن بغزة خلال اليوم التالي، وغياب دعم أمريكي واضح للخطة، ويُمكن أن يلعب التسلسل الزمني لجولة ترامب الخليجية قبل موعد انعقاد القمة دورًا في تحريك الموقف بشأن الخطة.
• تغير الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط: تنعقد القمة العربية الـ 34 في ظل متغيرات جيوسياسية جديدة حيث يكتسب المشروع التركي زخمًا بينما تتراجع مكانة وقوة إيران الإقليمية، في الوقت الذي يتوسع التمدد الإسرائيلي القائم على القوة في العديد من الأراضي العربية؛ مما يُنذر بتزايد فرص الاصطدام بين المشاريع المتنافسة داخل الأراضي العربية، ولعل التوترات التركية الإسرائيلية في سوريا المثال الأحدث والأبرز. كما لعب العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة دورًا في تغير الخرائط الجيوسياسية في الإقليم من حيث انحسار النفوذ الإيراني وإضعاف أذرعها الإقليمية وبالأخص حزب الله اللبناني، وتحجيم حركة حماس، وتفاقم الضغوط الأمريكية على العراق لتحجيم أدوار الحشد الشعبي، مع ميل ميزان القوة المليشياوية إلى الحوثيين باليمن وهو ما أظهره الاتفاق غير المُعلن بين ترامب والحوثي بشأن وقف إطلاق مؤقت؛ حيث تُرجعه بعض التقديرات إلى فشل الضربات الأمريكية في تحقيق أهدافها بتدمير قدرات الجماعة؛ الأمر الذي يُعيد ترتيب أوزان القوى والفاعلين الإقليميين. علاوة على انخراط إيران في جولات محادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق نووي جديد تحت وطأة سياسة أقصى ضغط والتلويحات الأمريكية الإسرائيلية المتكررة بتوجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية، وهي مفاوضات ستؤثر في الأمن الإقليمي وأوزان القوى الإقليمية عمومًا.
• التباينات العربية إزاء بعض القضايا: تنعقد القمة العربية بينما لا تزال تباينات المواقف العربية قائمة بشأن عدد من قضايا المنطقة؛ إذ تصاعدت الخلافات السودانية الإماراتية بإعلان مجلس الأمن والدفاع السوداني قطع العلاقات مع دولة الإمارات واعتبارها “دولة عدوان” بدعوى تقديمها دعمًا عسكريًا لقوات الدعم السريع. وعلى صعيد آخر، لم تتبدد المخاوف الأمنية الإماراتية المتعلقة بحكومة الشرع، ويتعارض الحذر الإماراتي في التعامل مع حكومة دمشق ورغبتها في ضمانات أمنية أكبر مع الانفتاح السعودي والقطري الواسع على الشرع ومساعيهما لتعزيز شرعيته دوليًا وإقليميًا وضخ استثمارات مالية كبيرة في عملية إعادة الإعمار.
تحديات الأمن القومي العربي
تنعقد القمة العربية وسط مجموعة من التحديات التي تمثل تهديدًا للأمن القومي العربي يتم توضيحها على النحو التالي:
• الخطر الإسرائيلي: تعد إسرائيل أحد أخطر التحديات أمام الأمن القومي العربي لا سيما مع حالة الجموح التي ينطلق منها رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنامين نتنياهو” منذ الحرب في غزة في السابع من أكتوبر 2023، ومحاولته لتغيير خريطة الشرق الأوسط بالعدوان على غزة ولبنان والسيطرة على الجولان السورية، وتوظيف ورقة الأقليات في المنطقة على غرار الدروز لتحقيق مصالح سياسية، وتفكيك سوريا بتوظيف نحو 700 ألف درزي في محافظة السويداء وجنوب دمشق، بهدف الهيمنة على سوريا وخلق وكيل لها لتنفيذ أجندتها، بالإضافة إلى محاولته إنشاء مناطق منزوعة السلاح على حدودها الشمالية في سوريا ولبنان، ورغبته في إبرام اتفاق مع دمشق وإضفاء طابع شرعي بهدف تغيير خط الحدود وتعزيز العلاقة بين إسرائيل والدروز، وعدم استضافة الفصائل الفلسطينية في دمشق، ومزاحمة النفوذ التركي في سوريا وإعاقة أي تنسيق إقليمي يتعارض مع مصالح إسرائيل.
كذلك وظفت إسرائيل الأكراد في العراق بدعمهم عسكريًا ولوجستيًا لتخوفها من بقاء العراق كقوة إقليمية منافسة لها، إذ تتخوف تل أبيب من وجود دولة وطنية عربية متماسكة بما يمثل تهديدًا وجوديًا لها. علاوة على أن توقيع اتفاقات السلام مع الدول العربية منحها مزيدًا من الشرعية الإقليمية والاندماج، بما يضفي تغييرًا لمفهوم النظام الإقليمي العربي، وتحول الدول العدائية إلى دول متعاونة، وانعكاس ذلك على رؤية الدول العربية للأمن القومي العربي، فضلًا عن تغلغل إسرائيل في هذه الدول من خلال الاستثمارات والمشروعات التعاونية. الأمر الذي يفرض ضرورة صياغة وتحديد مصادر تهديد الأمن القومي العربي وسبل مواجهتها في ظل الاختلافات العربية حول مفهوم الأمن، وصعود المصالح القطرية، واختلاف الرؤي إزاء القوى والمشاريع الإقليمية والتهديدات المحيطة، فضلًا عن تراجع الحضور العربي في القضايا العربية المهمة، بما قاد إلى مزيد من الانقسام وتوفير المناخ الملائم للمشروعات الإقليمية، واستغلال إسرائيل للخلافات العربية، وتعقيد خارطة الصراع في المنطقة.
• الإدارة الترامبية: تمثل الإدارة الترامبية الثانية تحديًا للدول العربية، خاصة أن هذه الإدارة تتعامل مع القضايا العربية بمنطق الدفع وتحميل الدول العربية عبء وتكلفة الصراعات والأزمات. وتختلف رؤيتها إزاء الملفات عن رؤية بعض الدول العربية، فقد حاولت فرض مسألة تهجير الفلسطينيين، لكن رفضت مصر والأردن هذا المقترح. كذلك تعمل هذه الإدارة على رعاية مصالح إسرائيل في المنطقة وحمايتها، لتيسير عملية اندماجها في المنطقة بما يهدد الأمن القومي العربي، وهو ما يفرض ضرروة توحيد وتنسيق الرؤى العربية في الملفات المختلفة في ضوء تعارض المصالح بينهما، للقدرة على التفاوض مع هذه الإدارة الأمريكية.
• ضعف الدولة الوطنية: تواجه بعض الدول العربية حالة من الانقسام والتشرذم، والضعف في القيام بوظائفها وعدم قدرة أجهزتها على القيام بدورها في ضمان أمنها على غرار لبنان والعراق وليبيا بما أضفى أهمية لدور المليشيات وتفوقها على الأجهزة الرسمية في القيام بدور أمني، مع بروز دور الفاعلين من غير الدول والتهديدات الإرهابية، ومن ثَمّ قادت هذه الأمور إلى التأثير في قدرة الدول العربية على مواجهة التحديات والتهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي العربي، وصعوبة المشاركة في أي ترتيبات للأمن الجماعي.
• تهديدات أمن البحر الأحمر: تعد منطقة البحر الأحمر ذا أهمية محورية لوجود أحد أهم الممرات المائية في العالم وموقعه الاستراتيجي في قلب منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وبالقرب من منطقة القرن الأفريقي التي يتزايد بها الإرهاب وعدم الاستقرار الأمني. مع تنافس الدول الكبرى على مصالحها بالبحر الأحمر، وزيادة عسكرة التفاعلات بها لحماية مصالحها في ممر ملاحي مهم لحركة التجارة الدولية، وسلاسل التوريد، ونقل النفط والغاز. يضاف إلى ذلك التهديد الحوثي الأخير والتأثير في حركة الملاحة في هذه المنطقة، بما دفع بعض الشركات إلى اختيار طريق آخر للعبور، فمنذ سيطرة الحوثي على الساحل الغربي لليمن تصاعدت الأخطار التي تهدد حرية الملاحة وأمن المنطقة، لا سيما بعد سيطرته على ميناء الحديدة أكبر موانئ اليمن على الساحل الغربي.
وبالرغم من تدشين مجلس الدول المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن في العام 2020، والذي يضم كل من مصر، السعودية، الأردن، اليمن، الصومال، السودان، جيبوتي، إريتريا، لكن تظل التهديدات التي تتعرض لها الدول المطلة على البحر الأحمر سواء من قبل الأطراف الإقليمية أو الدولية؛ الأمر الذي يقتضي معه ضرورة وضع استراتيجية عربية لحماية أمن الدول المطلة على البحر الأحمر، وتأمين الملاحة في هذا الممر الهام، لكونه أحد التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي.
ختامًا، بالرغم من التحديات التي تواجه جامعة الدول العربية ككيان إقليمي، وعدم الفاعلية والتأثير في بعض الملفات، لكن يمثل الحفاظ على الانعقاد الدوري لأعمال القمم العربية ضرورة مع تصاعد الاضطرابات التي تعصف بالأمن القومي العربي، واستمرار الخلافات البينية واتساع هويتها لإبقاء آليات العمل العربي المشترك حية، والحفاظ على قدر من التشاور والتنسيق والتعاون بشأن القضايا ذات الصلة بالمصالح والأمن القومي العربي؛ مما يخفف من حدة التوتر والانقسام؛ حيث إن انسداد قنوات الحوار والتفاوض يدفع بخيارات الصدام إلى الواجهة.