منذ اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل في 13 يونيو 2025، تصدرت الأبعاد العسكرية والسياسية المباشرة المشهد التحليلي والإعلامي، في ظل الاهتمام الواسع بتأثيرات هذه المواجهة على معادلات الأمن الإقليمي والتوازنات الدولية. لكن في خضم هذا التركيز، برزت قضايا أخرى على هامش المشهد، لا تقل أهمية عن ساحات القتال التقليدية، وفي مقدمتها محاولات استثمار الأزمات الداخلية داخل إيران كأوراق ضغط موازية في هذه الحرب المفتوحة.
وفي هذا السياق، تبرز إلى السطح قضية توظيف “ورقة الأقليات” كإحدى أدوات الضغط على إيران، خاصة في ظل محاولات أطراف إقليمية ودولية استغلال التوترات الداخلية في إيران لزيادة الضغط على النظام الإيراني، سواء عسكريًا أو سياسيًا أو نفسيًا، أو عبر آليات التوظيف الاستخباراتي للأزمات الداخلية. وتعد “القضية البلوشية” واحدةً من أبرز تلك الأوراق الممكن استخدامها في هذا الإطار، بالنظر إلى خصوصية موقع إقليم بلوشستان، وطبيعة سكانه، ووجود تنظيمات مسلحة معارضة للنظام الإيراني تنشط من هذا الإقليم، وعلى رأسها تنظيم “جيش العدل”، المصنف كتنظيم إرهابي.
وعليه، تسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على هذه الزاوية تحديدًا، من خلال تقديم قراءة مركزة حول خلفيات الملف البلوشي، واستعراض أبرز الفاعلين فيه، مع محاولة استشراف مدى احتمالية توظيف هذه الورقة في سياق الحرب الجارية، وما إذا كان استخدامها يمكن أن يشكل نقطة تحول نوعي في مجريات التصعيد الحالي بين إيران وإسرائيل، خاصة في حال انخراط أطراف دولية فاعلة كإسرائيل والولايات المتحدة في هذا التوظيف، سواء عبر أدوات عسكرية أو آليات استخباراتية غير تقليدية.
بؤرة توتر مزمنة
يقع إقليم بلوشستان في أقصى الجنوب الشرقي للهضبة الإيرانية، ضمن منطقة استراتيجية من جنوب غرب آسيا، حيث يتوزع بين ثلاث دول رئيسية هي إيران وباكستان وأفغانستان. تشكل محافظة “سيستان وبلوشستان” الامتداد الإيراني لهذا الإقليم، وتعد من أكبر محافظات البلاد، وعاصمتها مدينة زاهدان. أما القسم الباكستاني منه فهو إقليم بلوشستان الباكستاني وعاصمته كويتا، بينما يمتد جزء آخر إلى جنوب أفغانستان، خاصة في ولايات نمروز وهلمند وقندهار. وهو ما توضحه الخريطة التالية:
وبالنسبة للقسم الإيراني من الإقليم، تقع محافظة سيستان وبلوشستان في الركن الجنوبي الشرقي من إيران، وتشترك في حدود طويلة مع كل من باكستان وأفغانستان، بالإضافة إلى إشرافها على بحر عمان عبر ميناء تشابهار، الذي يمثل ركيزة في الطموحات الاقتصادية الإيرانية للوصول إلى الأسواق الآسيوية والمحيط الهندي.
ويشكل البلوش الأغلبية العرقية في هذه المحافظة، وهم جماعة قومية تتحدث اللغة البلوشية وتنتمي إلى المذهب السني؛ مما يضعهم في موقع اجتماعي وسياسي حساس داخل دولة ذات غالبية شيعية. حيث أدى هذا التباين العرقي والمذهبي إلى تراكم مظاهر التهميش الاقتصادي والسياسي؛ مما خلق بيئة حاضنة لنشوء حركات احتجاجية وتنظيمات مسلحة مناهضة للسلطة المركزية الإيرانية.
ومن الناحية الأمنية، تعد المحافظة نقطة عبور نشطة لشبكات التهريب المنظمة، سواء في تجارة المخدرات أو السلاح أو البشر، مستفيدةً من الطبيعة الجغرافية الصعبة والحدود الطويلة مع دول الجوار. كما تعد “سيستان وبلوشستان” واحدةً من أكثر المحافظات اضطرابًا أمنيًا داخل إيران، مع تصاعد نشاط الجماعات المسلحة وعلى رأسها تنظيم “جيش العدل”، الذي يمثل أحد أبرز التحديات الأمنية للنظام الإيراني، خاصة مع تكرار هجماته على مواقع عسكرية وأمنية ومنشآت حكومية إيرانية؛ مما جعله صداعًا مزمنًا للأجهزة الأمنية الإيرانية على مدار السنوات الماضية. وتكتسب أهمية التركيز على هذا التنظيم تحديدًا من كونه الأكثر نشاطًا وجرأة في استهداف المؤسسات الأمنية الإيرانية، فضلًا عن أنه يحمل مشروعًا سياسيًا وأمنيًا واضحًا يستهدف النظام الإيراني من داخل خاصرته الشرقية. ومع تصاعد التوترات الإقليمية والدولية المحيطة بإيران، يصبح الحديث عن هذا التنظيم ضروريًا لفهم إمكانات توظيف الورقة البلوشية في أي استراتيجيات ضغط أو استنزاف ضد طهران خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يتناوله الجدول التالي:

تعاطي البلوش مع التصعيد الإسرائيلي – الإيراني
في ضوء تزايد حِدة المواجهة بين إيران وإسرائيل، لم يغب المشهد البلوشي عن التفاعل مع هذه التطورات. فقد دخلت بعض القوى البلوشية على خط الأزمة، مستثمرة حالة التصعيد الراهن لتأكيد موقفها من النظام الإيراني، ومحاولة استثمار اللحظة لإعادة طرح قضيتها في إطار إقليمي أوسع. وقد تباينت مستويات هذا التفاعل بين بيانات سياسية صادرة عن تنظيمات مسلحة مثل تنظيم “جيش العدل”، وتصريحات أيديولوجية من بعض رجال الدين البلوش، إلى جانب مواقف سياسية أكثر تنظيمًا صادرة عن القوى البلوشية في باكستان، في محاولة لربط القضية البلوشية بمسارات التوتر الإقليمي الراهن. وهو ما يمكن توضيحه في التفصيل التالي:
- جيش العدل:
أصدر جيش العدل في 13 يونيو 2025 بيانًا مكونًا من صفحتين، حمل عنوان “حرب النظام لا علاقة لها بالمصالح الوطنية والإسلامية”، دعا فيه إلى استغلال التصعيد الراهن بين إيران وإسرائيل للانقلاب على ولاية الفقيه. وذكر البيان نصًا أنه “من الواضح أن الهجوم الحالي ليس على إيران، بل على نظام ولاية الفقيه. إن إرادة الله أن تهيئ لنا، شعب إيران، الظروف المناسبة لاستغلال هذا الفراغ على أكمل وجه لتحرير أنفسنا وبلادنا، وكذلك إسلامنا الحبيب، من أسر نظام ولاية الفقيه، وبناء إيران أفضل ومستقبل أكثر أمنًا لأجيالنا القادمة. إن منظمة جيش العدل تمد يد الأخوة والصداقة لجميع أبناء الشعب الإيراني، وتدعوهم، وخاصةً شعب بلوشستان والقوات المسلحة، إلى الانضمام إلى صفوف المقاومة حتى يكون طريق الحرية والكرامة ممهدًا لنا جميعًا”.
- تصريحات رجال الدين البلوش:
أفاد موقع بلوشوارنا البلوشي في 15 يونيو 2025، بأن أحد كبار رجال الدين البلوش في إيران، مولوي عبد الغفار نقشبندي، انتقد محاولات تصوير الصراع المستمر بين إيران وإسرائيل على أنه حرب دينية بين الإسلام والكفر، ووصف مثل هذه الروايات بأنها مضللة وخطيرة. وفي بيان عام تمت مشاركته على منصة التواصل الاجتماعي (X)، أعلن نقشبندي أن الصراع بين إيران وإسرائيل ليس له صلة حقيقية بالإسلام، وحذر العلماء الدينيين والمجتمع السني من الوقوع في فخ الدعاية الطائفية. وكتب: “إن وصف هذا الصراع الجيوسياسي بأنه حرب بين الإسلام والكفر هو تحريف كامل للواقع. هذه الرواية تضلل الجماهير ولا أساس لها في التعاليم الإسلامية”. كما انتقد رجل الدين البلوشي، المعروف بمعارضته العلنية لسياسات طهران الطائفية ودعمه لحقوق الإنسان في بلوشستان، النظام الديني الإيراني، قائلًا: إنه يعاني الآن من عواقب سياساته الراسخة في رعاية الجماعات المتطرفة. وقال: “إن القوى التي مكنها النظام الإيراني لسنوات تسهم الآن في زعزعة الاستقرار الإقليمي وتعطي نتائج عكسية”.
- حركة بلوشستان الحرة (حزب سياسي باكستاني يسعى لاستعادة استقلال بلوشستان)
قال المتحدث باسم حركة بلوشستان الحرة في 15 يونيو 2025 في بيان: إن الوضع في المنطقة يشهد تحولات متسارعة قد تمثل فرصة نادرة أمام الشعب البلوشي لتحقيق استقلاله الوطني، بشرط أن تنجح القوى البلوشية في تجاوز الانقسامات الداخلية وتشكيل جبهة موحدة تستند إلى الإجماع الوطني. وأكد البيان أن هذه المرحلة الحاسمة تتطلب من الشعب البلوشي الالتزام بالمصالح الوطنية الجماعية بعيدًا عن المصالح الحزبية أو الشخصية، مشددًا على أن الفشل في اغتنام هذه اللحظة سيكون “وصمة عار تاريخية” لن تغتفر. وأشار المتحدث إلى أن كلًا من باكستان وإيران يمثلان تهديدًا وجوديًا للأمة البلوشية؛ حيث اتهم الدولتين بارتكاب إبادة جماعية ممنهجة ضد البلوش، سواء من قبل باكستان ذات الأغلبية السنية أو إيران ذات الأغلبية الشيعية. وفي المقابل، اعتبر أن الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع سياسات إيران التوسعية تستحق الإشادة، مؤكدًا أن إسرائيل ليست عدوًا للبلوش، بل إن العدو المشترك يتمثل في الدول المتطرفة مثل إيران وباكستان.
وفي سياق متصل، دعا البيان إلى إقامة تحالفات مع القوميات المضطهدة الأخرى داخل إيران، مثل عرب الأهواز والأكراد والتركمان، من أجل تكوين جبهة موحدة ضد النظام الإيراني. وأكد أن تغير المشهد الإقليمي الحالي وزيادة احتمالات تغيير الخرائط السياسية في المنطقة تمثل فرصة سانحة للبلوش لتعزيز مكانتهم السياسية.
محفزات التوظيف في الداخل الإيراني
يمثل التصعيد العسكري الراهن بين إيران وإسرائيل محطة فارقة في مسار الصراع الإقليمي الممتد بين الطرفين، إلا أن دلالاته لا تقتصر فقط على البعد الخارجي، بل تمتد كذلك إلى الداخل الإيراني؛ حيث تتقاطع هذه التطورات مع عدد من التحديات البنيوية المزمنة التي يواجهها النظام الإيراني، وعلى رأسها التوترات المرتبطة بالمكونات القومية والمذهبية المهمشة، وفي مقدمتها القومية البلوشية. وفي هذا السياق، برز تنظيم “جيش العدل” كأحد الفاعلين المسلحين الرئيسيين في محافظة “سيستان بلوشستان” الإيرانية، والذي تبنى خلال موجة التصعيد الأخيرة مع إسرائيل خطابًا حمّالًا لدلالات متعددة؛ فمن جهة، حرص التنظيم على فصل الصراع الدائر عن أي بعد ديني أو قومي جامع مع النظام الإيراني، مشددًا على أن ما يجري هو حصاد مباشر لسياسات طهران الإقليمية التوسعية، ومن جهة أخرى، دعا التنظيم بشكل صريح إلى استثمار حالة الارتباك الإقليمي لإطلاق “انتفاضة داخلية” تطيح بالنظام.
في هذا الإطار، تطرح ورقة “جيش العدل” بوصفها خيارًا محتملًا ضمن أدوات الضغط غير التقليدية التي قد تلجأ إليها بعض القوى الإقليمية والدولية المناوئة لإيران -وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل- في المرحلة الراهنة، سواء عبر التوظيف المباشر أو غير المباشر للتنظيم ضمن استراتيجية إرباك النظام الإيراني وتشتيت جهوده بين جبهتي الداخل والخارج. ورغم عدم وجود أدلة ثبوتية –حتى الآن– على تلقي جيش العدل لدعم مباشر من تلك القوى، غير أن التجارب التاريخية تشير إلى أن البيئة الدولية قد تتهيأ في لحظات معينة لمنح مثل هذه الحركات مساحة أوسع من الحراك السياسي والإعلامي، بما يعزز من قدرتها على تشكيل مصدر استنزاف إضافي للنظام من الجبهة الداخلية.
وثمة معطيات عديدة تجعل من مسألة توظيف ورقة الأقليات العرقية في الداخل الإيراني بشكل عام، والورقة البلوشية على وجه الخصوص، حاضرة ضمن أبعاد وسيناريوهات التصعيد الإسرائيلي الإيراني خلال المرحلة المقبلة:
أولها: امتلاك تنظيم “جيش العدل” سجلًا ممتدًا من العمليات المسلحة في شرق إيران؛ الأمر الذي أكسبه خبرة متراكمة في استهداف البنية الأمنية والعسكرية الإيرانية، خاصة في المناطق الطرفية ذات الطبيعة الجغرافية الوعرة الممتدة مع دول الجوار. ويستفيد التنظيم في هذا الإطار من الامتدادات العرقية والمذهبية العابرة للحدود مع إقليم بلوشستان الباكستاني، بما يوفر له عمقًا جغرافيًا داعمًا، وقنوات محتملة للتمويل والدعم اللوجستي. وهو ما يجعله ورقة ضغط جاهزة للتفعيل ضمن خيارات استنزاف النظام الإيراني، خاصة في نقاط ضعفه الطرفية.
ثانيها: لا يمكن فصل دعوة جيش العدل الأخيرة لاستثمار التصعيد العسكري الراهن ضد إيران –خاصة في ضوء التهديدات الإسرائيلية والأمريكية المعلنة– عن السياق الأوسع لحالة السخط المتنامية بين القوميات والمكونات العرقية المهمشة داخل إيران؛ إذ يتلاقى خطاب التنظيم بشكل واضح مع دعوات مماثلة صدرت عن قوى قومية أخرى، لا سيما في الساحة الكردية. حيث تفاعل المكون الكردي الإيراني مع التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن احتمال تغيير النظام الإيراني، واعتبره لحظة مناسبة لتجديد المطالبة بالانتفاضة ضده.
فعلى سبيل المثال، اعتبر الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (PDKI) أن الشرط الأول والأهم لإنقاذ الشعب الإيراني من هذه الأزمة والدمار والظلام هو إزالة النظام وإنهاؤه تمامًا، كما دعا حزب حرية كردستان (PAK)، إلى “انتفاضة وطنية لإنهاء 46 عامًا من حكم آيات الله القمعي”، ودعا حزب الحياة الحرة الكردستاني (بيجاك) أيضًا إلى “مرحلة جديدة من الاحتجاجات”. وعليه، يمكن القول إن هذا التلاقي في المواقف بين الفصائل البلوشية والكردية يعكس حالة من الانسجام المرحلي في المصالح والأهداف بين هذه القوى الداخلية، وهو ما قد يشكل بيئة خصبة لأي محاولات خارجية لتوظيف ورقة “القوميات المهمشة” في سياق الضغط على النظام الإيراني.
ويبرز في هذا السياق تساؤل مشروع حول إمكانية تطور شكل من أشكال التعاون أو التنسيق بين الفصائل البلوشية والمكونات العرقية الأخرى داخل إيران، في ضوء تلاقي أهدافها المرحلية، خاصة فيما يتعلق بإسقاط النظام الإيراني، ورفض السياسات التمييزية المركزية. وتدعم هذه الفرضية الأهداف المعلنة لتنظيم “جيش العدل”، والتي لا تقتصر فقط على تمثيل المكون البلوشي، وإنما تمتد لتشمل الدفاع عن حقوق باقي الجماعات العرقية والمذهبية المهمشة داخل إيران، وعلى رأسها السنة والأكراد.
وقد عبر قادة التنظيم عن هذا التوجه بشكل صريح في تصريحات إعلامية سابقة، من بينها مقابلة أجريت مع أحد قادة التنظيم في مجلة “خراسان” بتاريخ 2 ديسمبر 2023، أشار خلالها إلى أن التنظيم يضم في صفوفه “مواطنين إيرانيين من غير البلوش وقوى سنية من مناطق أخرى في أنحاء إيران”. وأضاف: “نؤمن في جيش العدل بمصير مشترك لجميع الإيرانيين، ونسعى إلى الوحدة لتحقيق الرخاء والتقدم لبلادنا. نرحب بجميع الإيرانيين للانضمام إلينا في هذا المسعى”. كما أكدت المقابلة أن الهدف الرئيسي للتنظيم يتمثل في الإطاحة بالنظام الإيراني ودعم حقوق مسلمي السنة والأقليات العرقية الأخرى، وعلى رأسها الأكراد. ومن ثَمّ يمكن القول إن هذه المؤشرات تعزز من فرضية تحول الورقة العرقية إلى مسار ضغط أكثر تنظيمًا وتنسيقًا في المستقبل، خاصة في حال استمرت البيئة الإقليمية والدولية في توفير مناخ داعم لهذا النوع من التحالفات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ثالثها: تأتي الأحداث في إيران في وقت يشهد فيه الإقليم البلوشي الموازي في باكستان تصعيدًا لافتًا في نشاط الجماعات البلوشية الانفصالية، وفي مقدمتها “جيش تحرير بلوشستان”. إذ شهد عام 2024 طفرة نوعية في حجم الهجمات التي شنتها تلك الجماعات ضد القوات الباكستانية، على الصعيدين الكمي والنوعي. وعليه، قد تمثل حالة الزخم المتصاعد في الحراك القومي البلوشي على مستوى الإقليم رافعة معنوية للبلوش في إيران، خاصةً في ظل الامتدادات العرقية والمذهبية العابرة للحدود، والتي تتيح للتنظيمات البلوشية هامشًا أكبر من الحركة والارتباط بشبكات الدعم اللوجستي.
مسارات محتملة
في حال اتجهت تطورات التصعيد الإيراني – الإسرائيلي نحو تفعيل ورقة الأقليات العرقية داخل إيران، من المرجح أن تأخذ هذه الورقة عدة مسارات محتملة للتوظيف، ترتبط جميعها بهدف أساسي يتمثل في تشتيت قدرات النظام الإيراني، واستنزافه أمنيًا وسياسيًا، دون أن يعني ذلك بالضرورة القدرة على إسقاطه بشكل كامل. ومن أبرز هذه المسارات ما يلي:
- تصعيد العمليات المسلحة لجيش العدل: قد يتجه التنظيم إلى تكثيف هجماته في العمق الإيراني، خاصةً في إقليم بلوشستان والمناطق الطرفية الأخرى، بهدف استنزاف الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتوسيع نطاق الضغوط على النظام الإيراني من الداخل.
- تعزيز احتمالات التنسيق بين القوى العرقية المعارضة: في ضوء وحدة الهدف المعلن بين بعض الفصائل العرقية المختلفة داخل إيران كالبلوشية والكردية -والمتمثل في السعي لإسقاط النظام أو تقويض نفوذه- قد تظهر ملامح لتعاون أكبر بين هذه المكونات، بما يؤدي إلى استثمار الغضب المتراكم لدى قطاعات واسعة من القوميات المهمشة، وتحويله إلى حالة احتجاجية أكثر تنظيمًا واتساعًا.
- إثارة التوترات البينية مع باكستان: لا يستبعد أن تشهد المرحلة القادمة محاولات لدفع الأوضاع نحو توتر العلاقة بين إيران وباكستان من بوابة الورقة البلوشية، خاصة في ظل وجود سوابق في هذا الإطار -كما حدث في يناير 2024 من ضربات متبادلة بين الجانبين عندما بدأت إيران بشن ضربات صاروخية داخل الحدود الباكستانية، مستهدفةً ما قالت: إنها “مواقع لجماعات إرهابية بلوشية”، وردت عليها باكستان بهجمات مضادة داخل العمق الإيراني، مستهدفةً بدورها معاقل لجماعات انفصالية بلوشية، وهو تطور كاد أن يؤشر حينها إلى تحول الإقليم البلوشي إلى ساحة نزاع حدودى مفتوح بين البلدين. وصحيح أن التهدئة عادت لاحقًا، لكن ذلك لا يلغي احتمالات عودة التصعيد مجددًا إذا توفرت الظروف الإقليمية والدولية الدافعة لذلك.
ختامًا:
تبدو الورقة العرقية، وعلى رأسها الورقة البلوشية، من بين الأدوات المرشحة بقوة للتوظيف ضمن سيناريوهات الضغط على إيران خلال المرحلة الراهنة من التصعيد مع إسرائيل. ومع ذلك، سواء فُعلت هذه الورقة بشكل مباشر ومدروس من قوى خارجية، أو ظلت في إطار الحراك الذاتي للفصائل العرقية، فإن الأوضاع الحالية تشكل فرصة سانحة لهذه الجماعات لتكثيف تحركاتها وضرب مواقع النفوذ الإيراني في الداخل، بما يفاقم من حجم التهديدات الأمنية التي تواجهها طهران. لأن الورقة العرقية غير قادرة وحدها على إسقاط النظام الإيراني بصورة مباشرة، لكنها قد تسهم بشكل فاعل في إرباك حساباته الداخلية، وتشتيت جهوده في إدارة التصعيد الإقليمي، وهو ما يشكل في حد ذاته مكسبًا لأي طرف خارجي يسعى إلى إضعاف طهران أو فرض مزيد من الضغوط عليها. غير أن التطور الفعلي لهذا السيناريو يبقى مرهونًا بمسار الأحداث خلال المرحلة المقبلة، وبحجم الدعم أو التوظيف الخارجي الذي قد تحظى به هذه الورقة.
وتتزايد خطورة هذا المشهد في حال تزامن التصعيد العرقي مع تحركات موازية لتنظيم “داعش خراسان”، الذي يشكل بدوره مصدر تهديد آخر للأمن القومي الإيراني، خاصة في المناطق الحدودية الشرقية. وعليه، تبدو إيران مقبلة على تحدٍ داخلي مركب، قد لا يفضي بالضرورة إلى إسقاط النظام، لكنه قد يسهم في إرباكه وإضعاف تماسكه الداخلي، خاصة إذا ما تواصل الضغط الخارجي في أكثر من اتجاه خلال الفترة المقبلة.
باحث أول بوحدة الإرهاب والصراعات المسلحة