أصدر معهد الاقتصاد والسلام الدولي النسخة الثانية عشرة من مُؤشر الإرهاب العالمي لعام 2025، وهو تقرير سنوي يُنشر باللغة الإنجليزية منذ عام 2012، ويعتمد على قاعدة البيانات Dragonfly Terrorism Tracker وعدد من المصادر الأخرى. يُقدّم المُؤشّر مُلخصًا شاملًا للاتجاهات والأنماط العالمية الرئيسية للظاهرة الإرهابية، ويُحلل مجموعة من الأبعاد المهمة المرتبطة بها، مثل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تسهم في انتشار الإرهاب، وطبيعتها الديناميكية التي تتغير مع مرور الوقت. كما يستعرض الدوافع الجيوسياسية والأهداف الأيديولوجية التي تحرك الجماعات الإرهابية، إلى جانب الاستراتيجيات التي يعتمدها الإرهابيون في تنفيذ هجماتهم. وقد تناولنا خلال الجزء الأول من هذه السلسلة نظرة شاملة على حصيلة العمليات الإرهابية، والجماعات الإرهابية الأكثر فتكًا خلال 2024. بينما ناقش الجزء الثاني قائمة الدول العشر الأكثر تأثرًا بالإرهاب عالميًا وفقًا لما ورد بالمؤشر. فيما يناقش هذا الجزء ملامح النشاط الإرهابي في منطقة الساحل الأفريقي عام 2024.
خطر متفاقم
تُعاني منطقة الساحل الأفريقي من آثار تفاقم حالة عدم الاستقرار السياسي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، واستخدام تدابير صارمة لمكافحة الإرهاب لردع الجماعات السلفية الجهادية والقضاء عليها. وبينما سجّل المؤشر انخفاضًا بنسبة 5% في وفيات الإرهاب في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى عام 2024 ليصل إلى 909 حالات وفاة مُقارنةً بعام 2023، شهدت منطقة الساحل أكبر زيادة في وفيات الإرهاب عالميًا؛ حيث بلغ عدد الوفيات نحو 20 ألف حالة وفاة منذ عام 2019، و3.885 حالات وفاة في عام 2024. ووفقًا للمؤشر تُواجه منطقة الساحل العديد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية المتشابكة والمعقدة.
ومن المرجح أن تستمر هذه التحديات في تقويض تهيئة الظروف اللازمة للاستقرار؛ الأمر الذي من شأنه استمرار المنطقة في دوامة من الضعف والعنف، لا سيما في ظل عجز العديد من حكومات منطقة الساحل عن إرساء معادلة أمنية مُستقرة؛ مما أسهم في سيطرة الجماعات الإرهابية على مساحات شاسعة من الأراضي، وساعدها على تعزيز نشاطها مُستغلة المظالم المحلية والفراغات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعاني منها بعض دول المنطقة، وخصوصًا في المناطق الريفية.
وتواصل الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها أفرع تنظيم داعش وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة اكتساب زخم بحملاتها العنيفة في المنطقة؛ حيث شهدت منطقة الساحل 51% من وفيات الإرهاب عالميًا في عام 2024، مُقارنةً بـ 1% فقط في عام 2007. وأوعز المؤشر استمرار الأزمة الأمنية في الساحل الأفريقي إلى مجموعة من العوامل، أبزرها التدهور البيئي وسوء الإدارة المحلية، والاستقطابات العرقية، ونمو الأيديولوجيات المتطرفة العابرة للحدود، والنزاعات حول استخراج الموارد الطبيعية وخصوصًا الذهب، وتورط جهات خارجية مثل روسيا وفرنسا.
ووفقًا للمؤشر، تعتمد الجماعات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل الأفريقي على مجموعة من الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة لدعم عملياتها. فبدلًا من الانخراط المباشر في الجريمة المنظمة، تجني الجماعات الجهادية، مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، المال عادةً من خلال فرض الضرائب أو توفير الأمن والحماية مقابل المال، ولا تستفيد تلك الجماعات من هذا النهج في تعزيز مواردها المالية فحسب، بل يساعدها كذلك على الاندماج في المجتمعات المحلية؛ مما يعزز نفوذها. ويُعد الاتجار بالمخدرات أحد أكثر الأنشطة غير المشروعة ربحيةً من الناحية المالية والمرتبطة بالإرهاب في منطقة الساحل. ورغم أن الجماعات الإرهابية لا تسيطر عادةً على إنتاج المخدرات أو تجارتها بشكل مباشر، فإنها توفر الحماية للمتاجرين وتفرض ضرائب على عمليات التهريب التي تمر عبر أراضيها.
كما حقّقت تلك الجماعات عائدات كبيرة من عمليات الاختطاف مقابل الفدية خلال العقدين الماضيين، فعلى سبيل المثال يمثل هذا النوع من النشاط غير المشروع جوهر العمليات الاقتصادية لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين؛ إذ يُعد المدنيون الذين يلعبون دورًا في الأعمال التجارية أو السياسة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر الأهداف الأكثر شيوعًا لدى الجماعة. كما يُستخدم الاختطاف بشكل استراتيجي؛ حيث يتم اختطاف الأفراد لأغراض سياسية وجمع المعلومات الاستخبارية. ومن المعروف أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تُصعّد أنشطة الاختطاف عندما تسعى إلى التوسع في ضم أراضٍ جديدة، ثم تقللها بمجرد ترسيخ سيطرتها. على سبيل المثال، في عام 2023، ارتفع عدد عمليات الاختطاف بشكل ملحوظ في مناطق بوركينا فاسو التي كانت تشهد اشتباكات بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين ومليشيات الدفاع الذاتي المحلية الموالية للحكومة، وفي عام 2024، انخفض عدد الرهائن في بوركينا فاسو بنسبة 94%، من 144 إلى 8 رهائن فقط.
محفز اقتصادي
ذكر المؤشر أن العديد من أشكال العنف التي تشهدها منطقة الساحل ترتبط ارتباطًا وثيقًا باستغلال الموارد الطبيعية الموجودة في المنطقة وخصوصًا تعدين الذهب، وهنا يميز المؤشر بين نوعين من أنواع التعدين؛ الأول: التعدين الصناعي، وهذا النوع عادةً يخضع لسيطرة الشركات متعددة الجنسيات والجهات الحكومية. والثاني: التعدين الحرفي، وهي عمليات محلية غير منظمة إلى حد كبير، وتُشكل مصدر دخل للحكومات المحلية والمليشيات والجماعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية وغيرها من الجهات المسلحة غير الحكومية، مثل الشركات العسكرية الخاصة.
وقد شهدت عمليات التعدين الحرفي للذهب توسعًا كبيرًا في منطقة الساحل خلال العقد الأخير، لا سيما في مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ إذ يعد الذهب عنصرًا أساسيًا في ديناميكيات الصراع التي تشهدها هذه الدول. وتعد الإيرادات المادية التي توفرها عمليات التعدين الحرفي للذهب مصدرًا مهمًا لتمويل أنشطة الجماعات الإرهابية النشطة في المنطقة، كما أن السيطرة على المنطقة التي يتم فيها تعدين الذهب تسمح لهذه الجماعات بأن يكون لها تأثير أكبر بكثير في السكان المحليين، ولذا استهدفت الهجمات الإرهابية التي شهدتها بوركينا فاسو منذ عام 2018 وحتى الآن، بشكل متزايد مناجم الذهب الحرفية والمناطق المحيطة بها. وفي معظم الأحيان، لا تقوم الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الأوسط باستخراج الذهب أو الاتجار به أو تهريبه بشكل مباشر، بل تسيطر على المناطق التي يحدث فيها التعدين الحرفي للذهب وتجمع الضرائب من عمال المناجم، لا سيما في البلدان ذات الحكومات الضعيفة. وفي أحيان كثيرة تتنافس وتتقاتل تلك الجماعات في السيطرة على مناطق التعدين لتعزيز مواردها؛ مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تأجيج حالة العنف والصراع في المنطقة.
ووفقًا للمؤشر، يُعد الذهب مثاليًا في عمليات التهريب غير المشروعة؛ إذ يصعب تتبعه وله قيمة عالية، وحتى كمية صغيرة من الذهب يمكن أن تكون مُربحة بشكل كبير للجماعات الإرهابية. ولعلّ هذا ما دفع المجلس العسكري في بوركينا فاسو إلى إغلاق مواقع التعدين الحرفي للذهب جزئيًا في يوليو عام 2022 لتقييد تربح تلك الجماعات من ورائها، غير أن تلك الجهود يبدو أنها أتت بنتائج عكسية؛ حيث استخدمت الجماعات الإرهابية في المقابل عمليات الإغلاق لكسب الدعم الشعبي من المجتمعات المحلية التي تعتمد على المناجم في كسب العيش، كما أن معظم هذه المناجم لا تزال تعمل في مناطق خارجة عن سيطرة الدولة، خصوصًا في المناطق الشمالية الغنية بالذهب.