أعرب الرئيس الصيني يوم السابع عشر من يونيو الجاري عن رفض بلاده أي عمل ينتهك سيادة الدول الأخرى وأمنها وسلامة أراضيها، مؤكدًا أن الصراع العسكري ليس حلًا للمشاكل، كما أن تصاعد الوضع في المنطقة لا يتفق مع المصالح المشتركة للمجتمع الدولي، وأنه ينبغي على جميع الأطراف الدفع نحو تهدئة الوضع في الشرق الأوسط، مشددًا على استعداد الجانب الصيني للعمل مع جميع الأطراف على لعب “دور بناء” لاستعادة السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
يكشف الموقف الصيني من التصعيد الراهن عن استمرار الالتزام الصيني بخطاب دبلوماسي يدعو إلى الحوار وخفض التصعيد، مع عرض استعدادها لممارسة “دور بناء” في هذه الجهود. يتصل هذا الموقف مع موقفها الذي سبق وأن تبنته خلال جولات التصعيد الإسرائيلي الإيراني السابقة، هذا وإن كان قد اتسم الخطاب الصيني هذه المرة بقدر أكبر من الحسم إزاء إسرائيل، نتيجة استهداف الأخيرة للمنشآت النووية الإيرانية.
وفي الواقع، يأتي الموقف الصيني الأخير امتدادًا لنهجها المتبع منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023، والذي يميل إلى الالتزام بخطاب دبلوماسي يتضمن دعوة الأطراف المعنية إلى الحفاظ على الهدوء وممارسة ضبط النفس وإنهاء الأعمال العدائية على الفور تجنبًا لمزيد من التصعيد الإقليمي.
طبيعة الاستجابة الصينية
منذ الثالث عشر من يونيو 2025، تحركت الصين في إطار مسارين متوازيين، يتصل الأول بضمان سلامة المؤسسات والأفراد الصينيين في إسرائيل وإيران، فيما ارتبط المسار الثاني بانخراط بكين في جهود خفض التصعيد بالتنسيق مع الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة بالأزمة.
وفيما يتعلق بالمسار الأول: فقد حظيت مسألة ضمان سلامة المؤسسات الأفراد الصينيين في إيران وإسرائيل على أولوية اهتمامات القيادة الصينية منذ اليوم الأول لاندلاع التصعيد؛ الأمر الذي تجلى في تأكيد وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” على هذه المسألة خلال اتصالاته الهاتفية مع نظيريه الإيراني والإسرائيلي يوم الرابع عشر من يونيو. وبدورهم، أكد وزيرا الخارجية الإيراني والإسرائيلي حرصهما على ضمان سلامة المؤسسات والأفراد الصينيين.
ومع تطور التصعيد خلال الأيام اللاحقة، أوصت السفارة الصينية في إيران وإسرائيل المواطنين الصينيين بمغادرة البلاد، مع توضيح مسارات المغادرة عبر الطرق البرية. وفي يوم التاسع عشر من يونيو، أشار المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية إلى نجاح الصين في إجلاء أكثر من 1600 مواطن صيني من إيران ومئات المواطنين الآخرين من إسرائيل، مؤكدًا أن جهود الإجلاء لا تزال مستمرة.
أما فيما يتعلق بالمسار الثاني للتحرك: فقد عملت الصين على الدفع في اتجاه تهدئة التوترات وخفض التصعيد، وهو ما يمكن رؤيته على النحو التالي:
1- التواصل المباشر مع طرفي الأزمة: أجرى وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” يوم الرابع عشر من يونيو اتصالات هاتفية مع نظيريه الإيراني والإسرائيلي. وقد أعرب الوزير “وانغ يي” خلال اتصاله مع نظيره الإيراني عن إدانة بلاده انتهاك إسرائيل لسيادة إيران وأمنها وسلامة أراضيها، ومعارضتها بشدة الهجمات المتهورة التي تستهدف المسئولين الإيرانيين وتتسبب في سقوط ضحايا من المدنيين. كما اعتبر أن هجمات إسرائيل على المنشآت النووية الإيرانية تشكل سابقة خطيرة ذات عواقب كارثية محتملة، مؤكدًا على دعم الصين لإيران في حماية سيادتها الوطنية والدفاع عن حقوقها ومصالحها المشروعة وضمان سلامة شعبها.
وخلال اتصاله الهاتفي مع نظيره الإسرائيلي، كرر وزير الخارجية الصيني الإعراب عن معارضة بلاده استخدام القوة ضد إيران، مؤكدًا على أن المهمة العاجلة تتمثل في اتخاذ تدابير فورية لتجنب تصعيد الصراع، ومنع المنطقة من الوقوع في اضطرابات أكبر، والعودة إلى مسار حل القضايا بالوسائل الدبلوماسية، بما في ذلك القضية النووية، إذ لا يمكن للوسائل العسكرية أن تحقق سلامًا دائمًا.
2- تنسيق الموقف مع الشركاء:
خلال اتصاله مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، يوم التاسع عشر من يونيو الجاري، قدم الرئيس الصيني “شي جين بينغ” أربعة مقترحات في سبيل مواجهة الوضع الراهن؛ أولًا: ينبغي على أطراف النزاع، وخاصة إسرائيل، وقف إطلاق النار في أسرع وقت ممكن لمنع تصعيد الوضع وتجنب امتداد الحرب. وثانيًا: ضمان سلامة المدنيين وتسهيل إجلاء رعايا الدول الأخرى. وثالثًا: بذل الجهود لإعادة القضية النووية الإيرانية إلى مسار الحل السياسي من خلال الحوار والتفاوض. ورابعًا: فإنه بدون استقرار في الشرق الأوسط، يستحيل أن يكون هناك سلام في العالم. ولذلك، ينبغي على المجتمع الدولي، وخاصة الدول الكبرى ذات النفوذ الخاص على أطراف الصراع، بذل جهود لتهدئة الوضع، لا العكس. وينبغي لمجلس الأمن أن يلعب دورًا أكبر في هذا الصدد، مشيرًا إلى استعداد بكين لتعزيز التواصل والتنسيق ولعب “دور بنّاء” في استعادة السلام في الشرق الأوسط.
وعلى صعيد متصل، أكد وزير الخارجية الصيني خلال الاتصالات الهاتفية التي جمعته مع نظيريه وزير الخارجية المصري “بدر عبد العاطي”، ووزير الخارجية العماني “بدر بن حمد البوسعيدي”، يوم الثامن عشر من يونيو الجاري، على أن أعمال إسرائيل التي تتجاهل القانون والقواعد الدولية قد تسببت في التصعيد الحاد للوضع في الشرق الأوسط، مشددًا على أن الأولوية القصوى الآن تتمثل في الوقف الفوري لإطلاق النار وتهدئة الوضع، بما يهيئ ظروف العودة إلى الحوار والمفاوضات.
3- دعم الجهود الدولية متعددة الأطراف:
عقب ساعات من بدء إسرائيل شن ضربات واسعة على الأراضي الإيرانية، دعمت الصين الطلب الذي تقدمت به روسيا إلى مجلس الأمن، بطلب من إيران، بشأن عقد اجتماع طارئ لبحث تطورات الأوضاع. وخلال هذه الجلسة، أعرب مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة “فو كونغ” عن إدانة بلاده للانتهاكات الإسرائيلية لسيادة وأمن وسلامة الأراضي الإيرانية، كذا معارضة بكين استخدام القوة والعقوبات الأحادية غير القانونية والهجمات المسلحة على المنشآت النووية السلمية. وأضاف بأنه ينبغي للدولة ذات النفوذ الكبير على إسرائيل أن تلعب دورًا بنّاءً وفاعلًا.
وقد شاركت الصين إلى جانب الدول الأعضاء بمنظمة شنغهاي للتعاون في إدانة الضربات الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية، والتي تضر بالأمن الإقليمي والدولي وتعرض السلام والاستقرار العالميين للخطر.
كما رحبت بكين بالبيان المشترك الصادر عن وزراء خارجية 20 دولة عربية وإسلامية، معتبرة بأنه قد جاء في حينه لتهدئة الأوضاع. وقد دعا هذا البيان إلى وقف الأعمال العدائية الإسرائيلية ضد إيران، وعدم استهداف المنشآت النووية الخاضعة لضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بجانب استئناف المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني.
محددات الموقف الصيني
يمكن النظر في مجموعة من المحددات الحاكمة، والتي تتصل بشكل رئيسي بالسياسة الصينية إزاء منطقة الشرق الأوسط، وذلك على النحو التالي:
أولًا- التأكيد على مبادئ سياسة بكين الخارجية:
تولي الصين أهمية كبيرة في إطار تفاعلاتها الدولية على الأسس التي ترتكز عليها سياستها؛ إذ تنظر الصين إلى هذه الأسس باعتبارها إطارًا حاكمًا لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الدول. وفي هذا الإطار، تتمحور مبادئ السياسة الخارجية الصينية حول خمس مبادئ أساسية وهي: الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي، عدم الاعتداء، عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، المنفعة المتبادلة، التعايش السلمي وحل النزاعات سلميًا.
وبالنظر إلى المقترحات الأربعة التي أعلن عنها الرئيس الصيني مؤخرًا، فضلًا عن التصريحات الصادرة عن وزارة الخارجية الصينية منذ بداية الأزمة، يتضح أنها جميعها تندرج في إطار المبادئ الخمسة السابقة، أو كما يعرفها الجانب الصيني بـ”المبادئ الخمسة للتعايش السلمي”، والتي تعد أساسية في سبيل تحقيق الاستقرار داخل المنطقة، وأيضًا في العالم.
ثانيًا- الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع إيران:
ترتبط الصين بعلاقات شراكة استراتيجية شاملة مع إيران، والتي تعد من أعلى مستويات الشراكة بالنسبة للصين. وقد توجت هذه الشراكة في مارس 2021 مع توقيع الجانبين لاتفاقية “شراكة استراتيجية شاملة” بين الجانبين لمدة 25 عامًا، ستسمح للصين بالاستثمار داخل إيران بقيمة تصل إلى حوالي 400 مليار دولار، منها 280 مليار دولار في صناعة النفط والغاز، و120 مليار دولار في قطاع النقل والبنية التحتية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وقد نُظِر إلى هذا الاتفاق باعتباره يُمثّل شريان حياة للنظام الإيراني في مواجهة العقوبات الدولية المفروضة عليها.
وعلى صعيد متصل، فقد أسهمت العلاقات الوثيقة المتنامية بين الصين وإيران في نجاح جهود الوساطة الصينية وعودة العلاقات السعودية الإيرانية، في مارس 2023، وقد أثبتت الأحداث المتلاحقة على الصعيد الإقليمي منذ السابع من أكتوبر 2023 صمود اتفاق عودة العلاقات.
فيما تعد بكين أكبر شريك تجاري لطهران، ويُقدر بأن نحو 15% من واردات الصين من النفط تأتي من إيران، وهو ما يقابله شراء بكين لما يُقدر بنحو 90% من صادرات إيران النفطية. وبالنسبة للصين، يعد النفط الإيراني رخيصًا، ويُباع بخصومات كبيرة مقارنةً بالأسعار العالمية؛ نظرًا لقلة المشترين بسبب العقوبات، ومن ثَمّ يعد خيارًا مناسبًا في ظل التحديات التي يواجهها الاقتصاد الصيني.
من ناحية أخرى، تعد إيران ركيزة أساسية بمبادرة الحزام والطريق، إذ يشكل موقع إيران الجغرافي جسرًا يربط آسيا الوسطى بالشرق الأوسط. وبناءً عليه، يظل من مصلحة الصين الإبقاء على علاقات وثيقة مع إيران بما يتيح تنفيذ مشروعات من شأنها توفير ممرات برية تقلل من اعتمادها الكلي على الممرات البحرية التقليدية، وتسمح بتصدير البضائع الصينية إلى أسواق الشرق الأوسط وأوروبا.
ثالثًا- التنافس العالمي مع الولايات المتحدة:
يندرج الموقف الصيني أيضًا في إطار تنافسها مع الولايات المتحدة، إذ يسهم الدعم الأمريكي المستمر لإسرائيل، الدبلوماسي والعسكري، في تعزيز الروابط التي تجمع بين الصين مع دول الجنوب العالمي، الذي يرى في استمرار الدعم الأمريكي سببًا في استمرار التوتر بالمنطقة؛ الأمر الذي قد يسفر عن صراع إقليمي موسع، وهو من شأنه أن يُثقل الخطاب والتحركات الصينية الداعية إلى إرساء نظام دولي متعدد الأقطاب أكثر عدلًا.
ويتعزز هذا الأمر خلال التصعيد الراهن في إطار الإشارة الصينية بشأن المسئولية الواقعة على الولايات بما تملكه من نفوذ على إسرائيل، إذ ينبغي على واشنطن ممارسة الضغط على إسرائيل بهدف وقف هذا التصعيد.
وعلى صعيد متصل، يحقق هذا الدعم الأمريكي المتواصل، والذي يستدعي في بعض الأحيان توجيه الانتشار العسكري الأمريكي نحو منطقة الشرق الأوسط فائدة مزدوجة بالنسبة لبكين. فمن ناحية، يضمن تعزيز الانتشار الأمريكي بالمنطقة من استمرار واشنطن لتحمل مهمة الضامن الأمني؛ الأمر الذي ينعكس بالإيجاب على مصالح الصين بالمنطقة، لا سيما التجارية والاستثمارية والأمنية، دون تحمل أي تكاليف إضافية. من ناحية أخرى، قد يؤدي التركيز الأمريكي المتزايد مع شئون الشرق الأوسط إلى صرف انتباه واشنطن –جزئيًا- عن تنافسها مع بكين في منطقة المحيطين الهندي الهادئ ومصالح حلفائها هناك.
رابعًا- الحفاظ على مكانتها داخل المنطقة:
يؤكد الموقف الصيني والكتابات الصينية أيضًا على رغبة بكين في الحفاظ على صورتها كقوة مسئولة شريكة لدول المنطقة، بجانب الحفاظ على موقعها الذي أسسته خلال السنوات الماضية داخل منطقة الشرق الأوسط، واستطاعت في إطاره من ترسيخ مكانتها كشريك سياسي واقتصادي مع جميع دول المنطقة. ينصرف جزء من نجاح هذا النهج إلى تبني بكين خطابًا مقارب لخطاب وموقف دول المنطقة إزاء التصعيد الراهن.
من وجهة نظر صينية، يُنذر “هذ التصعيد، المتجذر في عداءات مستمرة منذ عقود ومعضلات أمنية مترابطة، بالتحول إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًا ذات عواقب إنسانية واقتصادية عالمية كارثية”. وينبغي على كل من إسرائيل وإيران الاستجابة لدعوة المجتمع الدولي لإعطاء الأولوية للدبلوماسية على القوة؛ حيث لن يؤدي استخدام الوسائل العسكرية إلا إلى تفاقم التوترات، ولا يمكن للسلام الدائم أن يتحقق إلا بعمليات سياسية شاملة.
يعزز هذ الخطاب من موقع الصين كقوة مسئولة يمكن التعويل عليها، في ضوء ما تسهم به مشاركتها السياسية والاقتصادية من تعزيز لعوامل الاستقرار والتنمية بالمنطقة، وذلك على خلاف الولايات المتحدة التي قد يسفر استمرار دعمها للسلوك الإسرائيلي المتهور، والذي تطور إلى حد توجيه واشنطن ضربات عسكرية ضد منشآت نووية إيرانية، صباح يوم الثاني والعشرين من يونيو الجاري، إلى تراجع الموثوقية فيها كشريك مسئول لدول المنطقة.
وختامًا، يظل من مصلحة الصين إنهاء الجانبين للتصعيد في أقرب وقت، بما يضمن استقرار المنطقة، وهو ما ينعكس بالضرورة على استقرار المصالح الاقتصادية والمشروعات الصينية. ومع ذلك، فإنه في حال استمرار النمط الراهن للتصعيد المتبادل بين إسرائيل وإيران، من حيث توجيه كل منهما ضربات عسكرية ضد أراضي الطرف الآخر، فمن المرجح أن تستمر الصين في تبني خطاب دبلوماسي يؤكد على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار وخفض التصعيد والتسوية السياسية للقضية النووية الإيرانية.
وعلى صعيد موازٍ، من المرجح أن تستمر الصين في تواصلها الدبلوماسي مع كافة الأطراف المعنية، علاوة على دعم كافة الجهود الإقليمية والدولية التي من شأنها خفض التصعيد والدفع نحو الحوار، بما في ذلك دعم جهود الوساطة ومقترحات إنهاء الحرب المقدمة من شركاء آخرين، كروسيا على سبيل المثال، وربما يصل الأمر إلى أن تتجه الصين نحو طرح وساطتها الخاصة، استنادًا إلى المقترحات الأربعة التي أعلنها الرئيس الصيني، والتي قد تتضمن إلى جانب وقف التصعيد، دفع الأطراف المعنية للتفاوض حول برنامج إيران النووي.
فيما يطرح سيناريو تطور التصعيد، واحتمال توسيع طهران لنطاق التصعيد، نتيجة لدخول الولايات المتحدة عسكريًا على خط التصعيد – تحديات بالنسبة لبكين، تتراوح خطورتها بحسب ما قد يئول إليه تطور هذا التصعيد. وفي هذا الإطار، سيتمثل هدف بكين الأساسي في حماية مصالحها الاقتصادية مع إيران والمنطقة، وضمان سلامة مشروعاتها القائمة في إيران، لا سيما تلك المتصلة بمبادرة الحزام والطريق، هذا إلى جانب ضمان المرور الآمن لسفنها التجارية في حال ما إذا امتد التهديد الناجم عن تطور التصعيد إلى الممرات الملاحية.
نائب رئيس وحدة الدراسات الاسيوية