تعد الجمعيات الخيرية أحد أبرز مكونات المجتمع المدني، وهي مؤسسات غير ربحية تنشأ بهدف تقديم الدعم والمعونة للفئات الأكثر احتياجًا في المجتمع، وتعتمد في تمويل أنشطتها على التبرعات الفردية والمؤسسية. وتتمثل أهدافها الأساسية في تعزيز التماسك والتضامن الاجتماعي، وتحقيق التنمية المستدامة، والارتقاء بمستوى معيشة الفئات الأكثر احتياجًا، خاصة في ظل الأزمات والكوارث.[1]
وبالرغم من الطابع الإنساني والأخلاقي التي ترتكز عليه هذه المؤسسات، فإن اعتماد هذا القطاع على التبرعات، وتوسعه عبر الحدود، وتوظيفه في الكثير من الأحيان للخطاب الديني، يجعله عرضة للاستغلال من قبل الجماعات المتطرفة والإرهابية؛ فقد كشفت عديد من الوقائع عن استراتيجيات متكررة تعتمدها التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، مثل تنظيم القاعدة، وداعش، وغيرها، لتحويل بعض الجمعيات الخيرية إلى واجهات أنشطتها، سواء عبر تأسيس كيانات ظاهرها إنساني، أو باختراق منظمات قائمة، أو من خلال التلاعب بشبكات جمع التبرعات.
وهو الأمر الذي حذرت منه مجموعة العمل المالي (FATF) في تقريرها الصادر عام 2014، من أن ما يصل إلى 20% من المنظمات الخيرية حول العالم تصنف ضمن الفئة عالية المخاطر، نتيجة استخدامها بشكل مباشر أو غير مباشر في تمويل الإرهاب والتطرف في ظل غياب نظم رقابية فاعلة، أو لوجودها في بيئات هشة أمنيًا وسياسيًا. وفي هذا السياق، أصبحت المؤسسات الخيرية محور نقاشات حادة ومثيرة للجدل في سياسات مكافحة تمويل الإرهاب؛ نظرًا لطبيعتها المزدوجة، فهي من جهة فاعل إنساني أساسي، ومن جهة أخرى قد تتحول، في حال غياب الرقابة، إلى قناة لتمرير الأموال لصالح تنظيمات متطرفة.
أولًا: الخلفية التاريخية لاستخدام الأعمال الخيرية في تمويل الإرهاب
على مر التاريخ كان العمل الخيري عرضة للاستغلال والتوظيف في أعمال تتجاوز أهدافه الإنسانية، فقد استخدم كأداة لدعم مشاريع سياسية، ودعائية، وتنظيمية، بل وعسكرية في بعض الحالات. وقد تطور هذا النمط من الاستغلال ليصبح، في العصر الحديث، إحدى الأدوات المركزية التي تعتمدها التنظيمات الإرهابية لتمويل أنشطتها مستفيدة؛ مما تتمتع بها المؤسسات الخيرية من غطاء قانوني وثقة مجتمعية، فقد لجأت بعض الحركات الإسلامية والقومية إلى إنشاء أو اختراق مؤسسات خيرية تستخدم لجمع التبرعات وتحويلها لتمويل أنشطة سياسية أو عسكرية، فعلى المستوى العربي، تعد جماعة الإخوان المسلمين المثال الأبرز على هذا النمط؛ إذ منذ تأسيسها عملت على بناء شبكة واسعة من المؤسسات الخيرية في الشرق الأوسط وأوروبا، سمحت لها بجمع التبرعات والأموال التي استخدمت في أغراض سياسية لدعم التنظيم، وأيضًا في توجيهها لدعم تنظيمات مسلحة وإرهابية.
لم يقتصر الأمر على الدول العربية والإسلامية، فامتدت عمليات التوظيف والاستغلال للدول الأوروبية، فيعتبر الجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقت أحد أبرز النماذج التاريخية في استغلال الغطاء الخيري لتمويل العنف السياسي؛ فقد شهدت الفترة التي عرفت بـ (The Troubles) في أواخر الستينيات من القرن العشرين استخدام واجهات خيرية لدعم الأنشطة المسلحة؛ حيث أسس أنصار الجيش الجمهوري في الولايات المتحدة منظمة Irish Northern Aid Committee (NORAID)، التي روج لها كمنظمة خيرية تقدم الدعم لأسر المعتقلين، إلا أنها واجهت اتهامات رسمية من السلطات الأمريكية والبريطانية بتحويل أموال إلى النشاط المسلح للجيش الجمهوري.
ويعتبر الجهاد الأفغاني ضد القوات السوفيتية في ثمانينيات القرن العشرين نقطة التحول المركزية في تطور استغلال المنظمات الخيرية لأغراض غير إنسانية؛ حيث نشأت شبكات جهادية عابرة للحدود استخدمت العمل الخيري كأداة رئيسية لتأمين التمويل وتوفير الغطاء اللوجستي لنشاطها العسكري والإعلامي. وقد برزت في تلك الفترة عديد من الجمعيات الخيرية الإسلامية التي عملت في باكستان، ودول الخليج، والولايات المتحدة مستفيدة من التعاطف العالمي مع القضية الأفغانية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك “مكتب خدمات المجاهدين”، الذي أسسه كل من عبد الله عزام وأسامة بن لادن في مدينة بيشاور الباكستانية عام 1984، والذي كان له الدور الأكبر في تسهيل انتقال المقاتلين العرب إلى أفغانستان، وتجنيد المتطوعين، وجمع التبرعات، ونقل المعدات والأسلحة عبر واجهات خيرية تحمل طابعًا دينيًا وإنسانيًا. وتمكن هذا المكتب من بناء شبكة دعم داخل الجاليات المسلمة في الغرب؛ حيث بدأ مكتب الخدمات بافتتاح فروع متعددة في الولايات المتحدة بلغت أكثر من 30 فرعًا في عدد من المدن الأمريكية، بالإضافة إلى فرع رئيسي لـ”مكتب الكفاح” في بروكلين عام 1986، والذي أصبح لاحقًا أحد أهم الفروع في الولايات المتحدة.
وقد استفادت الشبكات الجهادية من ظروف الحرب الباردة؛ حيث تقاطعت مصالح الولايات المتحدة وبعض الدول الإسلامية مع أهدافها؛ مما سهل تدفق الأموال والمقاتلين بسهولة ودون إجراءات رقابية صارمة، وهو ما رسخ لنموذج تمويل غير رسمي، أصبح فيما بعد أساسًا لتمويل الجماعات الإرهابية الحديثة.[2] فبدأت تنظيمات مثل القاعدة منذ منتصف التسعينيات، في استغلال العمل الخيري بشكل ممنهج؛ حيث أسهمت طبيعة الجمعيات الإسلامية من حيث الامتداد الجغرافي، والثقة المجتمعية، والدوافع الدينية للتبرع؛ في جعلها هدف للتنظيمات الجهادية أما عبر اختراقها أو تأسيس جمعيات كواجهة بهدف تمويل الأنشطة الإرهابية.[3]
ثانيًا: دوافع وآليات التنظيمات الإرهابية في استغلال العمل الخيري
تستغل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة ما تتمتع به الجمعيات والمؤسسات الخيرية من سمعة طيبة وثقة مجتمعية نابعة من طابعها الإنساني، إلى جانب ما تشهده بعض الدول من ثغرات قانونية وضعف في الرقابة، بالإضافة إلى هشاشة الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مناطق الحروب والصراعات؛ لاختراق هذه المؤسسات أو توجيه أنشطتها بما يخدم أجندات أيديولوجية، أو لتمويل عمليات لوجستية لصالحها. وتتزايد خطورة هذه الظاهرة في ظل تباين الأطر التشريعية والتنظيمية بين الدول؛ مما يخلق فراغات رقابية يمكن استغلالها في عمليات غسل أموال أو تمويل الإرهاب تحت غطاء العمل الخيري، وهو ما يصعب من مهام التتبع والملاحقة القانونية.[4] وفيما يلي أبرز آليات التنظيمات المتطرفة في استغلال العمل الخيري لدعم أنشطتها:
تعد آلية تأسيس الجمعيات الخيرية من أبرز الوسائل التي تستخدمها التنظيمات الإرهابية لتمويل أنشطتها وإخفاء أهدافها الحقيقية. إذ تقوم هذه التنظيمات بإنشاء جمعيات تبدو شرعية وتحمل أهدافًا إنسانية، مثل دعم قضايا إنسانية كاللاجئين أو ضحايا الحروب أو الكوارث؛ مما يسهل عليها جمع التبرعات من الجمهور دون إثارة أي شبهات حولها لكن تحول هذه الأموال بشكل سري عبر شبكات مالية معقدة لتمويل عمليات إرهابية، كشراء الأسلحة وغيرها من العمليات.
تعد مؤسسة الحرمين الخيرية أحد أبرز الأمثلة على هذه الآلية؛ حيث كشفت تحقيقات دولية أن المؤسسة كانت واجهة رئيسية لتمويل القاعدة، خاصة عبر فروعها في الولايات المتحدة، البوسنة، وأوروبا، فوفقًا للتحقيقات الدولية حولت المؤسسة ملايين الدولارات بين 1998 و2004 إلى شبكات القاعدة، مستخدمة تبرعات تم جمعها تحت ذريعة دعم اللاجئين الأفغان والشيشان، وقد تم تحويل الأموال إلى حسابات في دول مثل باكستان عبر معاملات مصرفية معقدة؛ مما أعاق تتبعها.[5] لم تقتصر أنشطة المؤسسة على التمويل، بل شملت عمليات لتجنيد المقاتلين. وقد تم تصنيف المؤسسة ككيان داعم للإرهاب من قبل الولايات المتحدة في 2004، وأغلقت فروعها في عدة دول بعد تحقيقات مشتركة بين الولايات المتحدة والسعودية. [6]
ومن الأمثلة الأخرى، ما ورد في تقرير The Financial Action Task Force (FATF) لعام 2013 عن مصادر تمويل الإرهاب في غرب أفريقيا؛ حيث أشار إلى استخدام مؤسسة خيرية رمز لها التقرير بـ”ZT” في نيجيريا كغطاء لتمويل أنشطة إرهابية، وذلك عقب تقديم أحد البنوك بلاغ عن معاملات مشبوهة إلى وحدة الاستخبارات المالية النيجيرية؛ حيث أظهر تحليل كشوف الحسابات المصرفية عدم توافق بين طبيعة المعاملات وأنشطة المنظمة الخيرية المفترضة.
وبعد التحقيقات الموسعة، تبين أن المؤسسة تعمل في نيجيريا منذ فترة طويلة ولديها حسابات متعددة في ثلاثة بنوك مختلفة، وترتبط بمؤسسات أخرى تدعم تنظيمات إرهابية مثل تنظيم القاعدة، كما تتزايد وتيرة السحوبات النقدية من حسابات “ZT”، في الولايات التي تشهد نشاطات متزايدة لتنظيم بوكو حرام، وهو ما يوضح استغلال التنظيمات الإرهابية المؤسسات الخيرية كغطاء لتمويل عملياتها الإرهابية.
- اختراق منظمات شرعية:
تعد آلية اختراق المنظمات الشرعية إحدى الاستراتيجيات التي تعتمدها التنظيمات الإرهابية لاستغلال الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الربحية في تمويل أنشطتها وإخفاء تحركاتها، فبدلًا من تأسيس جمعيات جديدة، تتسلل هذه التنظيمات إلى منظمات قائمة ذات سمعة طيبة وسجل قانوني نظيف، من خلال وضع أفراد موالين لها داخل الهياكل الإدارية أو التأثير على قراراتها، تستطيع التنظيمات تحويل الأموال، تجنيد الأفراد، أو نشر أيديولوجيات متطرفة دون إثارة الشبهات. وتعتبر هذه الآلية أكثر استخدامًا من قبل التنظيمات في الدول ذات الأنظمة الرقابية الضعيفة أو في مناطق النزاع؛ مما يسمح للتنظيمات بخلط عملها غير الشرعي مع الأنشطة الشرعية للمؤسسات الخيرية؛ مما يصعب تمييز الأنشطة غير القانونية.[7]
- استغلال برامج الجمعيات الخيرية:
تعمل التنظيمات الإرهابية على استغلال برامج ومبادرات المؤسسات الخيرية في تمويل أنشطتها، وذلك من خلال اقتطاع التبرعات أو إعادة توجيه الموارد المخصصة للعمل الإنساني نحو أهداف غير مشروعة كعمليات التجنيد أو نشر الأيديولوجيات المتطرفة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ مما يحول النشاط الخيري إلى أداة تخدم أهدافًا غير مشروعة تتناقض مع جوهر العمل الإنساني.[8]
فتستغل التنظيمات المتطرفة والإرهابية الحملات التي تطلقها الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات تحت غطاء مساعدة الفقراء أو المنكوبين لتمويل أنشطتها. وهو ما استندت إليه الأردن في حملاتها ضد المؤسسات الخيرية، فقد كشفت تحقيقات يوليو 2025 أن جمعيات مثل “الهلال الأخضر” و”مبادرة سواعد العطاء” و”العروة الوثقى” جمعت أموالًا باسم مساعدة غزة، لكن 99% من هذه التبرعات لم تسجل رسميًا، وتم تحويلها لدعم أنشطة مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين؛ مما يظهر استغلال الثقة في العمل الخيري لتحقيق أهداف سياسية ومتطرفة.[9]
ثالثًا: تحديات مكافحة الاستغلال
على مدى العقدين الماضيين، ومنذ الاعتراف الرسمي بخطورة إساءة استخدام المنظمات غير الربحية من قبل الجماعات الإرهابية، قادت الأمم المتحدة، إلى جانب مجموعة العمل المالي (FATF) وعدد من المنظمات الدولية الأخرى، جهودًا كبيرة لوضع أطر تنظيمية وتشريعية تهدف إلى منع هذا النوع من الاستغلال. على الرغم من هذه الجهود، لا تزال تواجه تحديات متعددة في رصد ومنع استغلال الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الربحية في تمويل الأنشطة الإرهابية[10]. ومن أبرز هذه التحديات:
- ضعف البنية التنظيمية والقانونية في عديد من الدول: خاصة الدول التي تعاني من هشاشة مؤسسية أو نزاعات داخلية؛ حيث تفتقر إلى نظم آليات رقابة مالية صارمة على أنشطة المنظمات الخيرية، وهو ما يجعلها بيئة خصبة للاختراق أو التلاعب.
- الطابع العابر للحدود لبعض المنظمات: إذ يصعب على السلطات الوطنية تتبع تدفقات الأموال عند انتقالها بين الدول، خاصة إذا كانت هذه التدفقات تتم عبر قنوات غير رسمية مثل الحوالة أو من خلال مؤسسات مالية غير خاضعة للرقابة.
- التحديات التكنولوجية: أسهم التطور التكنولوجي في خلق أدوات جديدة يمكن استغلالها، مثل العملات المشفرة ومنصات التمويل الجماعي، التي تسمح بتحويل الأموال بسرية ودون تتبع واضح، كما تستخدم مكاتب الصرافة وشبكات الحوالة في تمرير الأموال؛ مما يصعب على السلطات الرقابية تتبع مسارات التمويل.
- صعوبة التمييز بين النشاط الشرعي وغير الشرعي: تعد طبيعة العمل الخيري المعتمد على التبرعات والتمويل غير المشروط من مصادر متعددة، أحد أبرز التحديات؛ إذ يصعب في كثير من الأحيان تتبع مصدر الأموال أو وجهتها النهائية. وتزداد هذه الصعوبة عندما تختلط الأنشطة الخيرية المشروعة بخدمات ذات طابع ديني أو إنساني؛ مما يسمح للتنظيمات بإخفاء أنشطتها المشبوهة تحت غطاء خدمات اجتماعية حقيقية، كما حدث في بعض الجمعيات العاملة في مناطق النزاع مثل اليمن وسوريا.
- ضعف التنسيق الدولي: يعد ضعف أو غياب التنسيق بين الدول والهيئات الرقابية عائقًا أساسيًا أمام تبادل المعلومات حول الكيانات المشبوهة، خاصة في ظل السيادة القانونية وعدم إلزام بعض الدول بتقارير مالية شفافة.
- التحدي الأخلاقي وتحقيق التوازن بين ضمان الأمن والحفاظ على القيم الإنسانية: يمثل التحدي الأخلاقي أحد أبرز وأعقد الإشكاليات في هذا المجال؛ حيث يتمثل التحدي في وضع سياسات متوازنة تحمي الأمن القومي دون تجريم العمل الخيري؛ حيث تؤدي الإجراءات الحكومية الصارمة إلى وصم المنظمات الخيرية المشروعة، خاصة في مناطق النزاعات؛ مما يعيق تقديم المساعدات الإنسانية وتقلل من ثقة الجمهور في العمل الخيري.
رابعًا: التجربة المصرية في حماية العمل الخيري
تولي الدولة المصرية اهتمامًا بالغًا للعمل الخيري كونه أحد الأعمدة الأساسية للتنمية المجتمعية، وشريكًا رئيسيًا في دعم جهود وسياسات الدولة في تقديم الدعم والرعاية للفئات الأكثر احتياجًا. وقد حرصت الدولة على تهيئة بيئة تشريعية وتنظيمية تعزز دوره، مع السعي في الوقت نفسه لحمايته من الاستغلال أو الاختراق من قبل التنظيمات الإرهابية أو الجهات التي قد توظفه لتحقيق أجندات غير مشروعة.
ويبرز هذا الاهتمام في امتداد جذور العمل الأهلي بمصر إلى بدايات مبكرة من القرن التاسع عشر، فقد نشأت أول جمعية أهلية في مصر عام 1821 تحت اسم “الجمعية اليونانية بالإسكندرية”، وتلتها سلسلة من الجمعيات الأخرى ذات الطابع الثقافي مثل جمعية مصر للبحث في تاريخ الحضارة المصرية عام 1859، وغيرها، بالإضافة إلى جمعيات ذات طابع ديني وخيري مثل الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1878 وجمعية المساعي الخيرية القبطية عام 1881، وازدهرت الجمعيات الأهلية في مصر بشكل تدريجي، وارتفع عددها مع دستور 1923 الذي أقر في مادته رقم (30) حق المصريين في التجمع وتكوين الجمعيات؛ إذ بلغ عددها 159 جمعية بين 1900 و1924، قبل أن يرتفع إلى 633 جمعية خلال الفترة من 1925 إلى 1944؛ مما يعكس توسع النشاط الأهلي وأهميته المتزايدة في المجتمع المصري.[11]
لم تكن عملية ترسيخ العمل الأهلي في مصر بمعزل عن محاولات الاختراق والتوظيف السياسي لتحقيق أهداف غير مشروعة، ويعد نشاط جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها على يد حسن البنا عام 1928 المثال الأبرز على هذا التوجه؛ إذ ربطت الجماعة بين الأنشطة المالية والخيرية وأهدافها الأيديولوجية، ففي منتصف الثلاثينيات، أسست الجماعة “صندوق الدعوة” عام 1935 لجمع التبرعات والزكاة، وألزمت أعضاءها بدفع اشتراكات شهرية باعتباره واجبًا دينيًا وتنظيميًا. كما أنشأت قسمًا خاصًا للخدمات الاجتماعية والخيرية، وهو ما مكنها من التغلغل داخل المجتمع وتوسيع نفوذها السياسي.[12]
من جانب آخر، استخدمت الجماعة العمل الخيري كوسيلة لتعزيز النفوذ السياسي والتنظيمي، أكثر من كونه عملًا إنسانيًا، وهو ما أشار إليه المؤرخ الرسمي للجماعة ونائب المرشد العام سابقًا “جمعة أمين” في كتابه أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين إلى أن حسن البنا كان حريصًا على تأمين مصادر التمويل، سواء من الدولة أو من تبرعات الأفراد. ففي المؤتمر الأول للجماعة عام 1934، تقدمت قيادة الإخوان بمطالب إلى الملك فؤاد لتوجيه المخصصات المالية الخاصة بالملاجئ إلى الجمعيات الإسلامية، وكان المقصود في الأساس هو جمعيات الإخوان أنفسهم؛ وهو ما أسس لتوجه ثابت لدى الجماعة، يقوم على صياغة مفهوم “العمل الخيري” باعتباره أداة للتغلغل المجتمعي والسيطرة السياسية، وليس لدعم المحتاجين.[13]
واستغلت الجماعة العمل الخيري أيضًا كغطاء لتوسيع نفوذها داخل المجتمع، عن طريق استراتيجيات “الاختراق، والتطويع، والتأسيس”. فقد قامت بتسلل عناصرها إلى مجالس إدارات الجمعيات القائمة، والتأثير على أنشطتها لتتوافق مع أهداف الجماعة، كما أسست جمعيات موازية بالكامل موجهة لصالحها. وقد امتدت هذه الاستراتيجيات لتشمل اختراق الجمعيات الكبرى مثل الجمعية الشرعية؛ حيث نجحت في السيطرة على المجالس التنفيذية للمؤسسات، وتحويل منشوراتها ومشاريعها الخيرية إلى أدوات دعائية للجماعة، مثل مشروع كفالة الأيتام، الذي توسع ليغطي نحو 18 محافظة بحلول أوائل التسعينيات، مع استخدام المعاهد التدريبية التابعة لهذه الجمعيات لإعداد كوادر دعوية من عناصر الجماعة. كما استغلت الجماعة الأحداث السياسية والكوارث الطبيعية لتعزيز حضورها الخيري والدعوي، مثل زلزال 1992 وأزمات السيول في البحر الأحمر وسيناء خلال التسعينيات وعام 2012، لتقديم المساعدات الاجتماعية والصحية للفقراء؛ مما عزز شعبيتها وأتاح لها الفرصة للتجنيد واستقطاب عناصر جديدة.[14]
ومع تزايد هذه المخاطر، بدأت الدولة المصرية منذ الثمانينيات في تشديد الرقابة على العمل الأهلي، فصدرت عدة قوانين كان أبرزها قانون 84 لسنة 2002 لتنظيم الجمعيات الأهلية، بهدف ضبط التمويل الخارجي ومنع استغلال العمل الخيري كغطاء لتمويل الإرهاب أو دعم جماعات متطرفة. وقد شكل ذلك نقطة تحول في العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، اتجهت نحو تحقيق التوازن بين تمكين الجمعيات في أداء دورها التنموي، وضمان حماية الأمن القومي من أي محاولات للاختراق.
ومع أحداث يناير 2011، واجهت الدولة تحديات كبيرة فيما يخص توظيف بعض الجمعيات الخيرية كواجهات لتمويل أجندات سياسية متطرفة أو لدعم توجهات سياسية وأيديولوجية معادية للدولة. وقد دفع هذا الأمر الدولة المصرية إلى تبني نهج أكثر تنظيمًا في إدارة ملف العمل الخيري والأهلي، يهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين مقتضيات الأمن القومي من جهة، وضمان استمرار العمل الإنساني والتنموي للجمعيات الشرعية من جهة أخرى.
وعقب الحظر القضائي لجماعة الإخوان المسلمين في سبتمبر 2013، أعادت الدولة المصرية هيكلة المجال الأهلي والخيري عبر إجراءات شملت التحفظ على أصول وكيانات مرتبطة بالجماعة وحل الجمعيات المرتبطة بها، وشملت القرارات تجميد حسابات وحل أكثر من ألف جمعية وفرع اشتبه في ارتباطها بالجماعة، من بينها 138 فروع تابعة للجمعية الشرعية[15]، غير أن الدولة لم تتعامل مع هذه الجمعيات بمنطق الإقصاء الكامل، بل أتاحت لها مراجعة أنشطتها والتوجه للقضاء لإثبات استقلاليتها عن التنظيمات المتطرفة.
ويعد موقف الجمعية الشرعية المثال الأبرز على كيفية استطاعة الدولة المصرية تحصين العمل الخيري من اختراقات الإرهاب؛ فعقب تجميد نشاط بعض فروعها، استجابت الجمعية لإجراءات الدولة في عملية التحصين، وقدمت ما يثبت التزامها بالعمل الدعوي والاجتماعي بعيدًا عن الأجندات السياسية والإرهابية. وبناء على ذلك، أصدر القضاء في 25 يونيو 2014 حكمًا بوقف تجميد أموال 132 فرعًا والعودة لممارسة أنشطتها الاجتماعية والخيرية بعد التأكد من استقلاليتها عن الإخوان.[16]
وهو ما يعكس حرص الدولة على التفرقة بين الجمعيات التي شكلت واجهات للتنظيم، وتلك التي تمارس عملًا خيريًا مشروعًا، وبذلك أعيد التوازن بين مقتضيات الأمن القومي واستمرار النشاط الأهلي في مجالات الرعاية والتنمية. وهو ما أتاح فصل النشاط الخيري الشرعي عن التوظيف السياسي وأعاد التوازن بين متطلبات الأمن القومي واستمرار أنشطة الجمعيات الخيرية في مجالات التعليم والصحة والتنمية المجتمعية.
وفي خطوة أكبر نحو تنظيم العمل الأهلي بشكل شامل، أصدرت الدولة قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019، الذي وضع مجموعة من الضوابط الصارمة على مصادر تمويل الجمعيات، وآليات الرقابة المالية والإدارية، مع ضمان حق الجمعيات في التأسيس بالإخطار، ومنحها استقلالية كاملة في تنفيذ أنشطتها طالما التزمت بالقوانين، وهو ما أتاح بيئة تنظيمية متوازنة بين الرقابة الحكومية وتمكين الجمعيات الشرعية.[17] كما اتسع نطاق العمل الخيري في مصر ليتجاوز الدعم التقليدي للفئات الأكثر احتياجًا، ليشمل التمكين الاقتصادي، ودعم المرأة، والتنمية المجتمعية الشاملة. كما تم إدخال أدوات تكنولوجية لتعزيز الشفافية والمساءلة، مثل التسجيل الإلكتروني للتبرعات وربط الجمعيات بمنظومة ميكنة داخل وزارة التضامن الاجتماعي، مع قصر التدخل المباشر في أنشطة الجمعيات على حالات الاشتباه في تجاوزات تمس الأمن القومي. وفي السياق نفسه، أطلق التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي كمنصة تنسيقية كبرى لتسهيل التعاون بين مختلف الجمعيات وتعظيم أثرها المجتمعي.
ومما سبق، يتضح ما يشكله استغلال وتوظيف التنظيمات الإرهابية للعمل الخيري من تحدٍ مركب للدول تتقاطع فيه الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية مع الأبعاد الأمنية والقانونية. فعلى الرغم مما تمثله هذه المؤسسات من ركيزة أساسية لتعزيز التضامن والتماسك المجتمعي عبر دعم الفئات الأكثر احتياجًا، فإن الثغرات القانونية في بعض الدول والطابع العابر للحدود لبعض المنظمات، يجعلها عرضة للاستغلال والتوظيف من التنظيمات المتطرفة. ومع قدرة هذه التنظيمات على التلاعب والاندماج داخل أنشطة المؤسسات الخيرية الشرعية، يجعل من كشف هذا الاستغلال ورصده تحديًا بالغ التعقيد؛ وهو ما يتطلب استراتيجيات دولية تعمل على تحقيق التوازن بين تعزيز الرقابة لحماية الأمن القومي دون المساس بالعمل الخيري.
قائمة المراجع:
[1] محيي الدين خير الله، الجمعيات الخيرية: تعريفها وتأصيلها وصلتها بالمؤسسة الوقفية، مجلة الإحياء، العدد 18، 2015.
[2] Friedrich Schneider, The (Hidden) Financial Flows of Terrorist and Organized Crime Organizations: A Literature Review and Some Preliminary Empirical Results, The Institute for the Study of Labor, 2010.
[3] Evan F. Kohlmann, The role of Islamic charities in international terrorist recruitment and financing, Danish Institute for International Studies, 2006, https://pure.diis.dk/ws/portalfiles/portal/67462/DIIS_WP_2006_7.web.pdf
[4] Connie Farrell, COUNTERING TERRORIST FINANCING ABUSE IN THE CHARITY SECTOR, Charity Commission for England and Wales, 2025, https://www.gov.im/media/1387855/tf-awareness-sessions-charity-commission-presentation-january-2025-isl_compressed.pdf
[5] Matthew Levitt, Charitable Organizations and Terrorist Financing: A War on Terror Status-Check, The Washington Institute, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/charitable-organizations-and-terrorist-financing-war-terror-status-check
[6]Treasury Designates Al Haramain Islamic Foundation, 2008, https://home.treasury.gov/news/press-releases/hp1043
[7] Financial Action Task Force (FATF), Best Practices on Combating the Abuse of Non-Profit Organisations, op.cit.
[8] REPORT ON FIUS’ ROLE IN THE FIGHT AGAINST THE ABUSE OF NPOS FOR TERRORIST FINANCING ACTIVITIES,
Egmont Group of Financial Intelligence Units, 2024, https://egmontgroup.org/wp-content/uploads/2024/05/Report-FIUs-RFAA-of-NPOs-for-TF-Activities_V.F.pdf
[9] Adam Lucente, Jordan targets charities for alleged Muslim Brotherhood ties: What to know, https://www.al-monitor.com/originals/2025/07/jordan-targets-charities-alleged-muslim-brotherhood-ties-what-know
[10] COMBATING THE TERRORIST FINANCING ABUSE OF NON-PROFIT ORGANISATIONS, The Financial Action Task Force (FATF), 2023, https://www.fatf-gafi.org/content/dam/fatf-gafi/guidance/BPP-Combating-TF-Abuse-NPO-R8.pdf
[11] جـهاد جمال عبد العليم أحمد على ، تأثير منظمات المجتمع المدنى على الأمن القومي المسرى بعد ثورة يناير ، https://democraticac.de/?p=25603 ،
[12] Noura AlHabsi, Unveiling the Muslim Brotherhood’s business and funding networks, TRENDS Research & Advisory, https://trendsresearch.org/insight/unveiling-the-muslim-brotherhoods-business-and-funding-networks/
[13] دثار “العمل الخيري”.. قناع الإخوان العابر للزمان والمكان، https://al-ain.com/article/egypt-muslim-brotherhood-donations-exploitation
[14] هاني نسيره، إشكاليات علاقة الإخوان والمجتمع المدني: من التأسيس حتى السقوط، https://strategiecs.com/ar/analyses/%D8%A5%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B3-%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7
[15]وحيد عبد المجيد، أزمة الجمعيات الدينية في مصر 2013-2017، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، https://acpss.ahram.org.eg/News/16309.aspx
[16] https://elbashayer.com/385594/ القضاء الإداري يوقف تجميد أموال الـ 132 فرعا للجمعية الشرعية،
[17] هدى الشاهد، قانون الجمعيات الأهلية لعام 2019: خطوة نحو تحرير العمل الأهلي، دراسات في حقوق الإنسان، https://hrightsstudies.sis.gov.eg/%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-2019-%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%8A/
باحثة بوحدة الأمن والدفاع