تُعَدّ التبرعات بمختلف صورها —النقدية والعينية والافتراضية— أحد أهم روافد تمويل العمل الأهلي والتنمية المجتمعية في مصر، بما يجعلها ركيزة مساندة لخطط الدولة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. غير أن إدارة هذا المورد الحيوي تواجه تحديات متشابكة تتعلق بالحوكمة والشفافية، خصوصًا في ظل التحولات التشريعية التي شهدتها مصر مع صدور قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019 وما تبعه من لوائح تنفيذية، والتي سعت إلى ضبط العلاقة بين الجمعيات الأهلية والجهات المانحة والمتبرعين سواء من الداخل أو الخارج.
ورغم التطور التشريعي، فلا تزال هناك فجوات مؤسسية تعوق تكوين منظومة متكاملة لإدارة التبرعات، أبرزها تشتت قنوات جمع التبرعات، محدودية دمج المسئولية المجتمعية للشركات (CSR) في الإطار المؤسسي، كما أن الثقة المجتمعية لا تزال تتأثر بغياب منصات وطنية موحدة تتيح تتبع مسار التبرعات وآثارها التنموية بشكل شفاف، وفي المقابل، تكشف التجارب الإقليمية والدولية عن نماذج متقدمة في رقمنة وميكنة التبرعات عبر تبني أدوات الحوكمة التي تعزز الشفافية وتزيد من حجم المشاركة المجتمعية.
الإطار التشريعي والرقابي للتبرعات في مصر: من قانون العمل الأهلي إلى آليات الحوكمة
في 19 أغسطس 2019، صدّق السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي على قانون رقم 149 المتعلق بتنظيم العمل الأهلي، والذي أبطل قانون رقم 70 لسنة 2017. حدد القانون إطارًا شاملًا لتنظيم التأسيس، الأنشطة، التمويل، والإجراءات الرقابية المنوطة بالجمعيات والمؤسسات الأهلية.
ومن أبرز مزايا القانون في حوكمة التبرعات، ما يلي:
- إطار قانوني موحد وشفاف: حيث وضع القانون للمرة الأولى إطارًا موحدًا ينظم عمل الجمعيات الأهلية والتبرعات، بعد حالة من التشتت والرقابة غير الواضحة في ظل القوانين السابقة، كما حدد القانون وزارة التضامن الاجتماعي كجهة رئيسية منظمة؛ مما ألغى تعدد الجهات المشرفة، وبالتالي قلل من التضارب الإداري، فوجود جهة تنظيمية واحدة يعزز المساءلة والشفافية ويمنع تضارب الصلاحيات.
- ضبط مصادر التمويل المحلي والأجنبي: ألزم القانون الجمعيات بإخطار وزارة التضامن عند تلقي أي تبرعات أو منح (محلية أو أجنبية)، ووضع قواعد واضحة للموافقة أو الاعتراض، بما يتفق مع قوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما يضمن تتبع التدفقات المالية ومراجعتها بما يحقق المواءمة مع المبادئ والقوانين الدولية.
- حماية أموال المتبرعين وضمان تخصيصها للأهداف المعلنة: ألزم القانون الجمعيات باستخدام التبرعات في الأغراض المحددة بالنظام الأساسي وعدم إنفاقها في أنشطة خارجية غير مصرح بها. كما منع توجيه أموال التبرعات لأغراض سياسية أو حزبية أو دينية ذات طابع متطرف، وهو ما يضمن حماية المتبرع من سوء استخدام أمواله، ويعزز الثقة المجتمعية في القطاع.
- التقارير المالية والإفصاح: أوجب القانون على الجمعيات إعداد ميزانيات سنوية وتقارير مالية يتم تقديمها للجهات الرقابية، ومنح لوزارة التضامن حق التفتيش المالي والإداري عند الحاجة بما يعزز المحاسبة المالية ويقلل فرص الفساد أو التلاعب.
- تيسير العمل التطوعي والتبرعات العينية: سمح القانون باستقبال التبرعات العينية والنقدية بصورة قانونية منظمة، وشجع على التطوع كرافد مكمل للتبرعات المالية. الأمر الذي يسهم بشكل مباشر في توسيع قاعدة المشاركة المجتمعية مع بقاء الإطار الرقابي موجودًا.
لكن، إذا كان الإطار التشريعي قد أعاد ترتيب العلاقة بالمجتمع المدني، فإن التحدي الأكبر يظل في الممارسة المؤسسية، فالتبرعات –رغم حجمها الكبير نسبيًا– تعاني من أزمات متجذرة تتمثل في ضعف الإفصاح، وغياب الميكنة، ومحدودية الثقة بين المجتمع والقطاع الثالث.
أول هذه التحديات هو غياب الشفافية والإفصاح المالي، فمعظم الجمعيات والمؤسسات الخيرية لا تُصدر تقارير مالية مفصلة أو مدققة متاحة للجمهور بالرغم من الإلزام التشريعي، على عكس ما هو معمول به في تجارب دولية مثل المملكة المتحدة؛ حيث تُلزم الجمعيات بنشر ميزانياتها على موقع “هيئة الجمعيات الخيرية” بشكل علني[1].
أما التحدي الثاني فهو الاعتماد المحدود على الميكنة والرقمنة، ورغم أن بعض الجمعيات الكبرى (مثل مؤسسة مصر الخير وبنك الطعام المصري) بدأت في استخدام تطبيقات الدفع الإلكتروني ومنصات رقمية، فإن القطاع ككل يفتقد إلى منصة وطنية موحدة للتبرعات. هذا الغياب يجعل التبرعات تتوزع على قنوات تقليدية (حاويات التبرعات العينية أو التبرع النقدي المباشر) بما يحدّ من الشفافية والتتبع، ويترك الباب مفتوحًا أمام تساؤلات حول الكفاءة في إدارة الموارد.
إلى جانب ذلك، يبرز تحدٍ ثالث يتمثل في ضعف التكامل مع استراتيجيات المسئولية الاجتماعية للشركات Corporate Social Responsibility CSR، فعلى الرغم من أن القطاع الخاص في مصر يضخ مبالغ كبيرة في صورة إسهامات اجتماعية، فإن غياب آلية ربط مؤسسية بين CSR والجمعيات الخيرية يحول دون استثمار هذه الموارد بكفاءة؛ والنتيجة أن التبرعات تبقى مشتتة، ومردودها التنموي محدود، وهو ما أكده “تقرير التنمية البشرية في مصر 2021 ” الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP [2].
ولا يمكن إغفال أن الثقة المجتمعية تشكل جوهر التحديات، فالكثير من المواطنين ينظرون بعين الشك إلى قدرة الجمعيات على إيصال المساعدات، خاصة مع وجود حوادث فساد مالي محدودة لكنها مؤثرة في الصورة العامة، في المقابل، تزداد ثقة الجمهور في المبادرات الحكومية المباشرة مثل “حياة كريمة”، وهو ما يعكس حالة من إعادة توجيه الثقة من المجتمع إلى القطاع الثالث، ويبرهن عليه “تقرير مراجعات الحوكمة العامة: تعزيز أسس إصلاحات حوكمة عامة أكثر كفاءةً وفاعليةً”، الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD [3] .
الممارسات الإقليمية والدولية واستشراف التحول الرقمي لحوكمة التبرعات في مصر
تظهر التجارب الإقليمية والدولية أن التحول الرقمي لحوكمة التبرعات أصبح إحدى أهم الأدوات لتعزيز الشفافية، وتحقيق الكفاءة، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع المدني، وعند تحليل أبرز النماذج، يمكن استخلاص الدروس التالية:
- النموذج الدولي – المنصات الحكومية وشبه الحكومية:
في المملكة المتحدة، توفر الحكومة البريطانية عددًا من المنصات الإلكترونية لجمع التبرعات والهدايا والهبات وهي مرتبطة بجهات رسمية مختلفة بحسب أغراض جمع التبرعات؛ فمنها على سبيل المثال: برامج التبرع المباشر لمبادرات إنسانية وصناديق إغاثة رسمية (مثل ضحايا الكوارث الطبيعية) المرتبط بوزارة التنمية الدولية سابقًا (DFID) وحاليًا بوزارة الخارجية والكومنولث والتنمية (FCDO)[4].
تتقارب كندا بشكل كبير مع ممارسات بريطانيا في حوكمة التبرعات عبر المنصات الالكترونية؛ حيث تستخدم الحكومة الكندية منصات مثل منصة GCDonate، تُديرها دائرة الخدمات العامة والمشتريات الكندية (PSPC)، للتبرع بالسلع الفيدرالية الفائضة للفئات المجتمعية المُستحقة. كما تُتيح حملة حكومة كندا الخيرية لأماكن العمل (GCWCC) طرقًا مُتنوعة لموظفي القطاع العام والمتقاعدين للتبرع للجمعيات الخيرية، هذا إلى جانب منصة CanadaHelps للتبرع لأكثر من 30 ألف مؤسسة خيرية كندية [5] [6].
- النموذج العربي – المنصات الإلكترونية الوطنية:
طورت السعودية منصة مركزية للتبرعات (تبرع) تحت إشراف وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، والتي تتيح التبرع الإلكتروني المباشر للجمعيات المسجلة والمعتمدة. تتميز هذه المنصة بقدرتها على توحيد قنوات التبرع في منصة واحدة، وتمكين المواطنين من متابعة أثر تبرعاتهم، وضمان رقابة حكومية على التدفقات المالية [7].
أما الإمارات، أطلقت هيئة تنمية المجتمع في دبي منصة “جُود” كمنصة ذكية موحّدة للإسهامات المجتمعية على مستوى إمارة دبي. تهدف إلى الإسهام في دعم وتنمية القطاع الاجتماعي للإمارة من خلال تنظيم وتوجيه التبرعات وإسهامات المسئولية المجتمعية للشركات والأفراد، وتتيح المنصة للمؤسسات والأفراد الإسهام بشكل مباشر في المبادرات والمشاريع المدرجة عن طريق الدفع الإلكتروني أو التحويل البنكي[8].
أما على الصعيد المحلي، تعتمد مصر حاليًا على مبادرات جزئية للتبرع الإلكتروني عبر مؤسسات كبرى مثل مصر الخير، بنك الطعام المصري، الأورمان، علاوة على بعض جهود القطاع الخاص مثل منصة “ميجا خير” والتي تمثل الذراع الخيري لشركة TA Telecom، وتعمل كهمزة الوصل بين المتبرعين والجمعيات الخيرية؛ حيث توفر منصة تسويقية متكاملة للمؤسسات والجمعيات الخيرية الموثوق بها. هذا بالإضافة إلى جهود المبادرات الحكومية مثل منصة “حياة كريمة” للتبرع الإلكتروني.
في الأخير، بالرغم من الجهود المبذولة، فإن غياب منصة وطنية موحدة، وضعف إلزام الجمعيات بنشر تقارير مالية مدققة، لا يزالان يمثلان فجوتين رئيسيتين؛ لذا ينبغي إطلاق منصة وطنية للتبرعات تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعي بتنفيذ جهة تنظيمية مستقلة تستهدف ربط التبرعات باستراتيجيات التنمية الوطنية واستراتيجيات المسئولية المجتمعية للشركات بالقطاع الخاص CSR لضمان الاستدامة، عبر توظيف التقنيات المالية (FinTech) لتعزيز الشفافية في تتبع التدفقات المالية وتحليل أثر التبرعات، وبهذا، يمكن القول إن استشراف مستقبل حوكمة التبرعات في مصر يتوقف على القدرة على الجمع بين الإطار الرقمي (التكنولوجيا) والإطار المؤسسي (التشريع والرقابة)، بما يضمن رفع الثقة المجتمعية وتوسيع قاعدة المتبرعين؛ الأمر الذي يحتاج أيضًا إلى حملات وطنية للتوعية بأهمية الحوكمة، وربط التبرع بمفهوم المواطنة والمسئولية المشتركة.
[1] Charity Commission for England and Wales, Annual Report Requirements for Charities, 2023 https://www.gov.uk/government/organisations/charity-commission
[2] UNDP Egypt, Corporate Social Responsibility and Development in Egypt, 2021 https://www.undp.org/egypt/publications/egypt-human-development-report-2021
[3] OECD Public Governance Reviews, EGYPT, STRENGTHENING THE FOUNDATIONS FOR MORE EFFICIENT AND EFFECTIVE PUBLIC GOVERNANCE REFORMS, 2024, https://mped.gov.eg/adminpanel/sharedFiles/OECD_Public_Governance_Review_of_Egypt-en_865.pdf
[4] UK Government Charity Donations, https://www.gov.uk/donating-to-charity
[5] GCDonate https://www.gcsurplus.ca/mn-eng.cfm?snc=wfdad&vndsld=0
[6] CanadaHelps https://www.canadahelps.org/en/
[7] منصة “تبرع” الرسمية https://donations.sa/
[8] منصة “جود” للمساهمات المجتمعية https://jood.ae/ar/about-us