مقدمة:
في السنوات الأخيرة، برزت فكرة مبادلة الديون مقابل التنمية كحل محتمل ومبتكر للأزمات المالية التي تواجهها عديد من الدول. هذه الآلية، التي كانت مقصورة في السابق على الأوساط الأكاديمية والمبادرات المحدودة، أصبحت الآن تحظى باهتمام متزايد. جوهرها يكمن في عملية بسيطة لكنها عميقة: تستبدل الدول المدينة جزءًا من ديونها لتوجيه الوفورات المالية الناتجة عنها نحو الاستثمار في التنمية المستدامة.
تاريخيًا، لم تكن مبادلات الديون بمنأى عن الانتقاد، فقد شكك الخبراء في فاعليتها، مجادلين بأنها لا تحدث تحسينًا ملموسًا في استدامة الديون، ولا تحقق نتائج تنموية ملموسة بسبب تعقيداتها وتكاليفها الباهظة. كما أن البعض يرى أنها قد تقوض السيادة الوطنية من خلال إعطاء الأولوية للأجندات الخارجية على حساب احتياجات التنمية المحلية.
لكن الوضع الحالي يفرض الحاجة إلى حلول مبتكرة. تواجه 58 دولة نامية مدفوعات ديون تزيد على 500 مليار دولار خلال السنوات الأربع القادمة. ولهذا السبب، دعت 20 دولة صراحة إلى مزيد من هذه المبادلات، معلنة أنها تدرس وقف سداد ديون بقيمة 685 مليار دولار.
وفي هذا السياق، بدأت بعض التجارب الحديثة تثبت أن النهج الجديد في تصميم هذه المبادلات قادر على تجاوز المآخذ التاريخية، ويُظهر قدرة حقيقية على تحقيق مكاسب مزدوجة تتمثل في تخفيف عبء الدين وتحفيز التنمية. لقد بدأ هذا النهج في جذب انتباه المدينين والدائنين على حد سواء؛ مما يبشر بمرحلة جديدة من الابتكار في مجال التمويل التنموي.
أولًا: ما “مبادلات الديون مقابل التنمية”؟
هي اتفاقيات بين حكومة وواحد أو أكثر من دائنيها لاستبدال ديونها السيادية القائمة بالتزام واحد أو أكثر يتضمن التزامًا بالإنفاق لتحقيق هدف إنمائي محدد؛ لذلك، توفر مبادلات الديون مقابل التنمية آليةً للدول لتخفيف عبء ديونها من خلال تخصيص الموارد لأهداف مثل العمل المناخي، ودعم اللاجئين، والتغذية، والتعليم، والحفاظ على الطبيعة، أو غيرها من المشاريع المرتبطة بالتنمية.
1. 1 متى يتم استخدامها؟
تُستخدم مبادلة الديون (Debt Swaps) كأداة مالية في ظروف مختلفة، وتعتمد طريقة تطبيقها على الأهداف التي تسعى الدولة المدينة لتحقيقها. بناءً على الحالات الأربع التي سيتم استعراضها (الإكوادور، الغابون، بربادوس، وبليز)، يمكن تصنيف استخدامات مبادلة الديون إلى ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
- خفض رصيد الدين: يتم استخدام هذا النوع من المبادلات عندما يكون الهدف الرئيسي للدولة هو تقليل المبلغ الإجمالي للديون المستحقة عليها. في هذه الحالة، غالبًا ما تتم إعادة شراء جزء من الدين بسعر أقل من قيمته الاسمية؛ مما يؤدي إلى “خصم” على إجمالي الدين.
- الإكوادور وبليز: استخدمتا مبادلات الديون لخفض رصيد الدين، تمكنت الإكوادور، على سبيل المثال، من إعادة شراء سندات بقيمة 1.6 مليار دولار بخصم كبير؛ مما أدى إلى خفض دينها الإجمالي بمقدار مليار دولار، تُعزز هذه الاستراتيجية من استدامة الدين وتُحسن ثقة المستثمرين على المدى الطويل.
- إدارة آجال الاستحقاق المحددة: يُستخدم هذا السيناريو عندما تواجه الدولة تحديات في سداد دفعات ديون كبيرة مستحقة في فترة زمنية قصيرة. الهدف هو إعادة جدولة هذه الديون أو إعادة تمويلها بشروط أكثر مرونة لتخفيف ضغوط السيولة.
- الغابون: استخدمت مبادلة الديون لإدارة آجال استحقاق محددة. من خلال مبادلة ديون قائمة بأخرى جديدة ذات آجال استحقاق أطول، تمكنت الغابون من توزيع عبء السداد على فترة زمنية أطول؛ مما منحها مساحة مالية أكبر للتخطيط والاستثمار.
- خفض تكاليف الفائدة: يتم استخدام هذا النهج لتقليل تكلفة خدمة الدين، حتى لو لم يتغير المبلغ الإجمالي للديون. تُعد هذه الاستراتيجية مفيدة للدول التي لديها ديون بأسعار فائدة مرتفعة.
- بربادوس: استخدمت مبادلة الديون لخفض تكاليف الفائدة. من خلال إعادة تمويل ديونها القديمة بأخرى جديدة ذات أسعار فائدة أقل، تمكنت بربادوس من تحقيق وفورات مالية كبيرة في مدفوعات خدمة الدين السنوية؛ مما وفر لها سيولة يمكن توجيهها إلى قطاعات حيوية مثل التعليم أو الصحة.
جدير بالإشارة حسب توقعات أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي، أنه يمكن أن يرتفع الدين العام العالمي إلى 100% من إجمالي الناتج المحلي العالمي مع نهاية العقد الجاري حال استمرار الاتجاهات الحالية، ويثير هذا الاتجاه مخاوف جديدة بشأن استدامة المالية العامة على المدى الطويل، ويوضح الرسم البياني أن مستويات الدين العام في حوالي ثلث البلدان، التي تشكل 80% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، أكثر ارتفاعًا مقارنة بما قبل جائحة كورونا وأسرع تزايدًا؛ كذلك، تفاقمت أعباء الدين العام حاليًا في أكثر من ثلثي الاقتصادات البالغ عددها 175 اقتصادًا التي تغطيها دراستنا مقارنة بما قبل انتشار جائحة كوفيد-19 في عام 2020.
ثانيًا: لماذا لا تُعد مبادلة الديون حلًا سحريًا لأزمات الجنوب العالمي؟
وبناء على ما سبق، تُشير المعطيات الأخيرة إلى عودة قوية لفكرة مبادلة الديون، خاصة في ظل وصول مستويات الديون في دول الجنوب العالمي إلى أعلى مستوياتها منذ 25 عامًا. هذه الدول تنفق أكثر على سداد الديون من إنفاقها على التنمية؛ مما يدفعها أحيانًا لزيادة الاعتماد على استغلال الموارد الطبيعية، بما في ذلك الوقود الأحفوري، لتوليد الإيرادات. وفي الوقت الذي يُنظر فيه إلى مبادلات الديون كحل محتمل، فإن التجارب الحديثة تكشف عن جوانب سلبية جوهرية قد تجعلها غير كافية أو حتى ضارة، يتمثل في:
- محدودية تخفيف الديون وتفاقم الأعباء المالية: تُظهر التجارب أن مبادلات الديون لا تُحدث فرقًا ملموسًا في إجمالي مستويات الديون، ففي حالة مبادلة الديون في سيشل عام 2016، لم توفر المبادلة سوى 8 ملايين دولار لتخفيف عبء الدين، وهو ما يمثل 2% فقط من إجمالي ديونها، وتكمن المشكلة الأكبر في أن هذه الأموال قد تُخصص بالكامل لمشاريع محددة، مثل الحفاظ على البيئة البحرية، دون أن تُحدث تخفيضًا فعليًا في العبء المالي الإجمالي، علاوة على ذلك، فإن الدول المقترضة التي تعاني من نقص في الموارد اللازمة لسداد ديونها الأصلية قد تضطر إلى الاقتراض مجددًا لتمويل المشاريع المتفق عليها؛ مما يؤدي إلى تفاقم أزمة الديون.
- قصور في تحقيق أهداف التنمية: رغم أن مبادلات الديون تهدف إلى حشد الموارد لأهداف المناخ والطبيعة، فإن هناك أدلة على أن الالتزامات المترتبة عليها قد لا تُنفذ بالكامل؛ ففي الإكوادور، على سبيل المثال، أشارت المجتمعات المحلية والخبراء إلى أن الموارد التي تم حشدها لحماية البيئة البحرية كانت غير كافية لتحقيق الالتزامات المتفق عليها، وبعد أكثر من عام على الصفقة، لم يتم العثور على أي دليل على استثمارات حقيقية في حماية ومراقبة تلك المناطق.
- شروط مقوضة للسيادة الوطنية: تُمنح مبادلات الديون الدائنين سيطرة أكبر على كيفية تخصيص الموارد المحلية؛ مما قد يحد من استقلال الدول المدينة، هذه الشروط قد تتعارض أحيانًا مع احتياجات السكان المحليين وتفرض أشكالًا معينة من التنمية.
- الافتقار إلى الشفافية وتجاهل المجتمعات المحلية: غالبًا ما تكون مبادلات الديون غير شفافة؛ حيث يكون هناك حجب للمعلومات المتعلقة بتكاليفها (مثل الرسوم وتكاليف التأمين) بما يحول دون مشاركة المجتمعات المحلية في صنع القرار والإشراف على هذه العمليات، وقد أبرزت مبادلة الديون في الإكوادور-التي تمت في مايو 2023 لحماية جزر غالاباغوس- تحديات كبيرة تتعلق بالشفافية وإشراك المجتمعات المحلية. فبالرغم من كونها أكبر صفقة من نوعها في العالم؛ حيث قامت الإكوادور بإعادة شراء ديون بقيمة 1.63 مليار دولار بخصم كبير مقابل إصدار “قرض أزرق” جديد بقيمة 656 مليون دولار، فإنها واجهت انتقادات، وقد اشتكت منظمات محلية من جزر غالاباغوس من الافتقار إلى الشفافية والمعلومات حول إدارة الأموال المخصصة للحفاظ على البيئة البحرية عبر “صندوق غالاباغوس للحياة” (Galapagos Life Fund).
- التعقيد والتكلفة المرتفعة: تُعتبر عمليات مبادلة الديون معقدة للغاية وتستغرق وقتًا طويلًا للتفاوض؛ مما يجعلها غير مناسبة للبلدان التي تعاني من أزمة ديون حادة وتتطلب حلًا سريعًا، كما أن التكاليف المرتبطة بها يمكن أن تكون باهظة، ففي مبادلة الديون مقابل الطبيعة في بليز والتي بلغت قيمتها 553 مليون دولار، ذهب 96 مليون دولار منها إلى الرسوم والوسطاء مثل شركات التأمين والمستشارين؛ مما يجعلها مصدرًا جيدًا للربح للأطراف الثالثة بدلًا من الحكومة المركزية.
- إضفاء الشرعية على الديون غير المشروعة: إضفاء الشرعية على الديون غير المشروعة هو أحد الأخطار الجوهرية لمبادلات الديون. يشير هذا المفهوم إلى أن القروض التي لم يتم استخدامها لمصلحة الشعب، بل ربما لتمويل مشاريع فاسدة أو لخدمة مصالح النخبة الحاكمة، يمكن أن تكتسب شرعية جديدة من خلال تضمينها في اتفاقيات مبادلة الديون، بدلًا من أن تطالب الدولة بإلغاء هذه الديون بالكامل على أساس أنها غير مشروعة، فإنها توافق على “تسوية” وضعها عبر تخصيص موارد لتمويل مشاريع تنموية. هذه العملية تُفقد الدولة فرصة التحرر الكامل من هذه الالتزامات وتُحمل الشعب مسئولية ديون لم يستفد منها، كما أنها قد تُعفي الجهات الدائنة من المساءلة عن إقراض حكومات فاسدة في المقام الأول.
ثالثًا: مزايا مبادلة الديون
تُعتبر مبادلة الديون (Debt Swaps) أداة مالية مبتكرة توفر حلًا جزئيًا لمشاكل المديونية المرتفعة للدول، لا سيما النامية منها. فمن خلال تحرير الموارد المالية، تميل هذه المبادلات إلى تخفيف الضغط المالي، مع تمكين الدول من الاستثمار في مجالات حيوية مثل التكيف مع المناخ، والحفاظ على البيئة، والبنية التحتية للطاقة النظيفة دون تفاقم أعباء الديون. إضافةً إلى ذلك، يُمكن لهذه المبادلات تحسين التصنيف الائتماني للدولة، كما هو الحال في بليز؛ مما قد يُخفّض تكاليف الاقتراض.
1. تخفيف الأعباء المالية وتحقيق وفورات
- تقليل مدفوعات خدمة الدين: تسمح المبادلة للدول المدينة بإعادة توجيه جزء من الأموال المخصصة لسداد الديون الخارجية إلى استثمارات محلية. هذا يقلل من الضغط على الموازنة العامة ويحرر السيولة النقدية، خاصة بالعملة الأجنبية.
- تحسين ملف الدين: يمكن للمبادلات أن تساعد في إعادة هيكلة الديون بشروط أكثر مرونة، مثل تخفيض أسعار الفائدة، أو تمديد فترات السداد، أو حتى إلغاء جزء من الدين؛ مما يحسن من استدامة الدين على المدى الطويل.
- ملاءمة للسياق المالي الحالي: في ظل ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض السيولة العالمية، تُعتبر المبادلات أداة جذابة لإدارة الأصول والخصوم.
2. تحفيز التنمية المستدامة
- تمويل مشروعات حيوية: توفر المبادلات مصدر تمويل مخصصًا لمشروعات التنمية ذات الأولوية الوطنية؛ مثل التعليم، والصحة، والبنية التحتية، أو المشروعات البيئية المتعلقة بالمناخ والحفاظ على الطبيعة.
- تحقيق أهداف التنمية المستدامة: تسهم مبادلات الديون في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs)، خاصةً الأهداف المتعلقة بالتعليم، والمياه، والطاقة النظيفة، والعمل المناخي.
- جذب استثمارات جديدة: يمكن أن تفتح مبادلة الديون الباب أمام استثمارات جديدة من قبل الدائنين؛ حيث يتحول جزء من الدين إلى حقوق ملكية في مشروعات محلية؛ مما يعزز النمو الاقتصادي ويخلق فرص عمل.
3. تعزيز الشفافية والحوكمة
- توجيه الإنفاق: تُساعد مبادلات الديون على توجيه الإنفاق الحكومي نحو قطاعات محددة ومراقبتها بشكل أفضل؛ مما يقلل من احتمالات سوء الإدارة ويضمن تحقيق الأهداف المرجوة.
- بناء شراكات مستدامة: تتطلب هذه العمليات تعاونًا وثيقًا بين الدول المدينة والدائنين؛ مما يعزز الثقة المتبادلة ويقوي العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية.
باختصار، يمكن لمبادلات الديون أن تكون أداة قوية وفاعلة، خاصةً عند استخدامها ضمن إطار استراتيجي يركز على تحقيق أهداف تنموية محددة. يُقدم الجدول معايير “E-I-G” (الاقتصاد، التأثير، الحوكمة) لتقييم مدى ملاءمة استخدام مبادلة الديون مقابل الخدمات (D2S).
متى تكون مبادلة الديون مفيدة.. | متى يجب عدم استخدام مبادلة الديون.. | |
الاقتصاد (ECONOMICS) | عندما يتم تداول الدين بخصم كبير: يُتيح ذلك للدولة فرصة لإعادة شراء ديونها بأقل من قيمتها الاسمية؛ مما يؤدي إلى وفورات مالية كبيرة تُستخدم لاحقًا في تمويل المشروعات التنموية.عندما تواجه الدولة التزامًا ماليًا ضخمًا: تُستخدم المبادلة لمعالجة “جدار الديون” المستحق في فترة قصيرة، من خلال إعادة تمويله بشكل استباقي لتخفيف الضغط على السيولة.عندما تكون قاعدة المستثمرين محدودة: تُساعد أدوات تعزيز الائتمان في توسيع قاعدة المستثمرين في الدين السيادي؛ مما يقلل من أخطار الاعتماد على عدد قليل من الدائنين. | نطاقها محدود: غالبًا ما يكون حجم الدين الذي يتم مبادلته صغيرًا مقارنةً بإجمالي حجم الدين العام للبلد؛ مما يعني أنها لا تُحدث تغييرًا كبيرًا في استدامة الدين على المدى الطويل. لا يمكن استخدام المبادلة كحل في حالات الأزمات الحادة؛ لأنها تتطلب أن تكون آفاق استدامة الدين قوية بالفعل كشرط أساسي لنجاحها. |
التأثير (IMPACT) | جاهزية المشروعات: يجب أن تكون مشروعات الاستدامة مُعدة جيدًا، مع وجود الأطر اللازمة لتسهيل البدء في التنفيذ مباشرة.حجم التمويل: يجب أن تكون المشروعات ذات حجم اقتصادي يتناسب مع الوفورات المالية الناتجة عن مبادلة الديون، بحيث يمكن تغطية تكاليفها بالكامل دون الحاجة إلى تمويل إضافي. | عدم استخدام مبادلة الديون لتمويل مشروعات مُدرجة بالفعل في الميزانية؛ حيث يجب أن تغطي مبادلة الديون النفقات الإضافية. |
الحوكمة (GOVERNANCE) | الإجماع السياسي: يجب أن يكون هناك توافق سياسي حول مشروع التنمية لضمان تنفيذه بسلاسة، دون مواجهة أخطار سياسية أو تشغيلية.القدرة الإدارية: يجب أن تمتلك الإدارة العامة القدرة على تنسيق المشاريع المعقدة التي تتطلب تعاونًا بين جهات مختلفة (اقتصادية ومالية وتنموية)، لضمان تحقيق الأهداف المرجوة. | لا يجب استخدام مبادلة الديون لتمويل مشروعات مُصممة بشكل أحادي دون إشراك المجتمعات المحلية. لا تُستخدم مبادلة الديون لتحقيق مكاسب مؤقتة، بل يجب أن تكون حوكمة المشروع وتنفيذه مستدامين على المدى الطويل، لضمان تحقيق الأثر الإيجابي وتجنب الإضرار بسمعة الدولة في المستقبل. |
رابعًا: تجربة مصر في مبادلة الديون
تُظهر التحركات الأخيرة أن مصر تتبنى نهجًا استراتيجيًا في استخدام آلية مبادلة الديون، مع توسيع نطاق شركائها ليشمل دولًا مثل ألمانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى استكشاف شراكات محتملة مع دول أخرى كالصين. يمثل هذا التوجه محاولة لتوظيف مبادلة الديون، ليس فقط كأداة لتخفيف العبء المالي، بل كآلية لتمويل المشاريع التنموية ذات الأولوية دون الحاجة للاقتراض المباشر.
- التجربة مع ألمانيا: نموذج للتعاون الأخضر: تُعد الاتفاقية مع ألمانيا هي الأبرز والأكثر تطورًا. ففي عام 2022، وخلال مؤتمر المناخ (COP27)، تم تخصيص 104 ملايين يورو من قبل الحكومة الألمانية لمبادلة الديون، لدعم ركيزة الطاقة في برنامج “نوفي” (NWFE) وقد تم توقيع اتفاقية بقيمة 54 مليون يورو ضمن هذه الحزمة في يونيو 2023، ويركز المشروع على تطوير شبكة نقل الكهرباء لدمج مصادر الطاقة المتجددة، مثل مزارع الرياح، بهدف تحقيق هدف مصر لزيادة نسبة الطاقة المتجددة إلى 42 % من مزيج الطاقة بحلول عام 2030، تُظهر هذه التجربة كيف يمكن لمبادلة الديون أن تكون أداة فاعلة لتمويل التحول الأخضر.
- التعاون مع إيطاليا: شراكة مستمرة: تُعد إيطاليا من أوائل شركاء مصر في مبادلة الديون؛ حيث بدأت الشراكة منذ سنوات طويلة. وفي عام 2020، تم التوقيع على الشريحة الثالثة من برنامج مبادلة الديون الإيطالية مقابل مشروعات تنموية بقيمة 100 مليون يورو، ركز هذا البرنامج على تمويل مشروعات حيوية مثل الأمن الغذائي، والتعليم الأساسي، والتنمية المستدامة؛ مما يعكس نهجًا أوسع نطاقًا لا يقتصر على قطاع واحد.
- التوجه نحو الصين والدول الأخرى: تتجه مصر حاليًا لاستكشاف مبادلات ديون مع شركاء جدد، خاصةً في سياق تنويع مصادر التمويل وتخفيف الضغوط المالية. وتُعد الصين من أبرز الدول المرشحة لهذه الشراكات؛ نظرًا لحجم ديونها المستحقة على مصر وحجم التجارة والاستثمار بين البلدين.
4. 1. تأثير التحركات المصرية على المديونية
لا تهدف هذه التحركات إلى خفض إجمالي حجم المديونية بشكل جذري، بل إلى تحقيق أهداف استراتيجية أخرى:
- تخفيف ضغط السيولة: تُحول المبادلات جزءًا من التزامات الدين الخارجي إلى استثمارات محلية؛ مما يقلل من الحاجة إلى العملة الأجنبية للسداد.
- تمويل مستهدف: تُستخدم المبادلات لتوجيه التمويل نحو قطاعات ذات أولوية قصوى، مثل الطاقة النظيفة، والبنية التحتية، والأمن الغذائي.
- تعزيز الثقة الدولية: تُظهر هذه الاتفاقيات التزام مصر بالإصلاحات الاقتصادية وتحقيق أهداف التنمية؛ مما يعزز من ثقة المستثمرين الدوليين.
باختصار، يمثل نهج مصر في تبني مبادلة الديون خطوة نحو إدارة دين أكثر ذكاءً، تركز على الاستفادة من الالتزامات المالية القائمة لتمويل التنمية المستدامة، مع تنويع الشركاء لتعزيز مرونتها المالية.
ختامًا، يمكن القول إن مبادلة الديون ليست حلًا سحريًا لجميع تحديات الديون العالمية. فرغم قدرتها على توفير موارد لأهداف مثل المناخ والتنمية، فإنها لا تمثل حلًا شاملًا لأزمات ديون دول الجنوب العالمي، بل قد تصرف الانتباه عن حلول جذرية أكثر فاعلية مثل الإلغاء الشامل للديون والتمويل القائم على المنح.
ومع ذلك، يمكن أن تكون مبادلة الديون أداة فاعلة للغاية إذا تم تصميمها وتنفيذها بعناية لضمان نجاحها، يجب أن تستند العملية إلى عدة مقومات أساسية:
- الكفاءة المالية: تتطلب المبادلة تحليلًا دقيقًا لتكاليفها وفوائدها للتأكد من أن الصفقة تبرر تكلفة الدعم المقدم وتكاليف العملية نفسها.
- التخطيط والرقابة: يجب أن تتوافق المشاريع الممولة مع الأولويات الوطنية، مع وجود أنظمة قوية لإدارة الديون والمالية العامة لضمان الشفافية وتتبع التقدم.
- الدمج في استراتيجية شاملة: لا ينبغي أن تُعزل المبادلة عن استراتيجية إدارة الدين الأوسع للبلد، بل يجب أن تُدمج فيها لتخفيف الضغط المالي مع تحقيق أهداف التنمية الرئيسية.
في الختام، تُقدم مبادلات الديون خارطة طريق يمكن تكرارها وتوسيع نطاقها في دول أخرى؛ مما يوفر مساحة للتنفس في عالم يشهد انكماشًا في الحيز المالي. وتثبت هذه الآلية أنها يمكن أن تكون مفيدة جدًا للدول التي تتمتع بأساسيات اقتصادية سليمة ولكنها تواجه ضغوط سيولة مؤقتة.