أعلن “أردوغان” أن تركيا سوف تبدأ عملية عسكرية في مناطق شرق نهر الفرات تحت دعاوى القضاء على ما يُسمى “الإرهاب الكردي”، حسب قوله، وأنه تم إخطار الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بذلك. وكانت الأسابيع الماضية قد شهدت تحركات تركية مع أطراف متعددة لها حضور في الأزمة السورية من بينها:
– المشاورات التركية المكثفة مع روسيا وإيران، سواء في مؤتمر سوتشي الأخير أو مؤتمر الأستانة في بداية شهر أغسطس الجاري. وقد طرحت تركيا خلاله موضوع المنطقة الآمنة التي تسعى إليها في شمال سوريا. وأكدت بعض المصادر وجود تفاهمات بين الطرفين بخصوص ذلك مع اختلاف في التفاصيل.
– عقد لقاءات مع كبار المسئولين الأمريكيين بخصوص تلك المنطقة. ولم يكن هناك خلاف بخصوصها من حيث المبدأ، لكن كان هناك خلاف حول مدى عمق تلك المنطقة، حيث تُصر تركيا على أن تكون بعمق 32 كلم، بينما ترى واشنطن الاكتفاء بـ 15 كلم فقط.
– كان ما يجري في محافظة إدلب قضية مطروحة في حوارات تركيا مع الأطراف الثلاثة (الولايات المتحدة، روسيا، إيران)، وأصرت روسيا وإيران على أن تلتزم تركيا بما سبق الاتفاق عليه من انسحاب التنظيمات الإرهابية خارج المنطقة العازلة التي تمتد إلى 20 كلم وفتح الطريق بين دمشق وحلب، ولم يتم تنفيذ ذلك حتى الآن.
يُشير ذلك إلى وجود استراتيجية تركية للسيطرة على شمال سوريا والتدرج التركي في احتلال المنطقة. ويأتي الحديث عن شرق الفرات بعد احتلالها المدن الرئيسية، خاصة عفرين وجرابلس والباب، فضلًا عن تدشينها عملية تتريك لكافة مناحي الحياة هناك، وفرض اللغة التركية والمناهج الدراسية التركية في كافة مراحل التعليم، وإزالة ضوابط الحدود بين البلدين. وهكذا أحكمت تركيا السيطرة على الجزء الشمالي الغربي من سوريا. ويأتي التحرك إلى شرق الفرات بغرض احتلال الجزء الشمالي الشرقي من سوريا والسيطرة عليه، وذلك لمحاصرة قوات الحماية الكردية التي تحاربها.
وتكشف التحركات التركية الأخيرة عن محاور استراتيجية تركية، نناقشها فيما يلي:
على المستوى السياسي تبلورت تلك الاستراتيجية وفقًا للمسارات التالية:
– المحافظة على اللقاءات الدورية مع كل من روسيا وإيران (الطرفين الفاعلين في الأزمة السورية)، واستثمار حاجة كل منهما للمحافظة على علاقات متطورة مع تركيا في تحقيق مكاسب لها داخل سوريا. ولا شك أن التعاون مع روسيا على المستويات السياسية والعسكرية قد رتب مزيدًا من المكاسب لتركيا، خاصة في الشمال السوري. كما أن حرص تركيا على دعم إيران نسبيًّا في مواجهة ما تتعرض له من ضغوط قد يُساهم في تحقيق ذلك بصورة كبيرة.
– محاولة إيجاد مجالات للحوار مع النظام في دمشق من خلال كل من إيران وروسيا، حيث أبدت خلالها بعض التجاوب النسبي فيما يتعلق بوجهة نظره بخصوص المرحلة الانتقالية والموقف في إدلب مقابل تفهم الحرب التركية على الأكراد، ومحاولة خلق مصالح مشتركة بخصوص رفض استقلالية المنطقة الكردية السورية.
– المحافظة على درجة مناسبة من التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترفض الاستراتيجية التركية في مُجملها، لكنها ترفض بعض جوانبها لتثبيت المزيد من الحقوق والمصالح بغطاء أمريكي في النهاية.
– المناورة في تنفيذ الاتفاق الذي تم بين روسيا وإيران بخصوص إدلب، والمساومة بذلك على ما تستهدفه في منطقة شرق الفرات دون إعلان واضح يؤدي إلى تصادم مباشر مع الطرفين.
وعلى المستوى العسكري تبلورت الاستراتيجية التركية في المسارات التالية:
– محاولة إعادة تحجيم جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة) التي أعلنت رفضها لما تم الاتفاق عليه بخصوص إدلب، ومحاولة تغيير قياداتها العسكرية بقيادات أكثر ارتباطًا بالمخابرات التركية. وهناك حديث حول تصعيد بعض قيادات قوات أحرار الشام المتحالفة معها لتولي مناصب قيادية.
– إعادة دمج بعض الفصائل العسكرية التي سبق أن قامت بتصفيتها جبهة تحرير الشام ودعمها لموازنة نفوذ وتأثير تلك الجبهة التي يصل تعداد أفرادها لنحو 25 ألفًا من بينهم ستة آلاف أجنبي والمصنفة كمنظمة إرهابية دولية.
– محاولة تسويق بعض التنظيمات الإرهابية ذات الصلة بالإخوان المسلمين، خاصة فيلق الشام، ومجموعات لواء التوحيد، والسعي لتقديم تنظيم أحرار الشام الوثيق الصلة بالإخوان كتنظيم مُعتدل، وترتيب منافسته للنصرة ودمج التنظيمات الأخرى داخله ليكون نواة لجيش وطني يُشارك في أية ترتيبات بعد المرحلة الانتقالية، ويساعد على توفير نفوذ لقوى الإسلام السياسي المرتبطة بتركيا.
هكذا، يبدو التحرك التركي لاحتلال كامل شمال سوريا في ظل مهادنة من الأطراف التي تسيطر على الفرات في سوريا، خاصة روسيا وإيران، لتحقيق مصالح ذاتية بالدرجة الأولى، وموقف أمريكي يمهد لذلك. ويكفي تصريح رئيس الأركان الأمريكي الذي علق على ترتيب تركيا لعملية عسكرية في شرق الفرات ضد الأكراد الذين تحميهم الولايات المتحدة بأن تفويض الكونجرس له لا يسمح له بالدفاع عن القوات الكردية. كما صرح وزير الدفاع الأمريكي بأن الولايات المتحدة لا تعتزم التخلي عن قوات سوريا الديمقراطية (الأكراد)، لكن ذلك لا يصل إلى حد تقديم ضمانات بأن الولايات المتحدة ستحميها في حالة تنفيذ تركيا عملية عسكرية، علمًا بأن نفس القوات الأمريكية في منطقة دير الزور منعت تمدد الجيش السوري لإحكام سيطرته على تلك المنطقة، ومنعت الحكومة السورية من استعادة السيطرة على آبار البترول والغاز في شرق سوريا.
وفيما يتعلق بالأكراد، فهم دائمًا ما يراهنون على الولايات المتحدة، ومراهناتهم دائمًا خاسرة، وتصوروا أنهم سيُقيمون دولة مستقلة تمهد للدولة الكردية (الحلم القومي للأكراد) والتي تمتد عبر تركيا وسوريا والعراق وإيران، ورفضوا التفاهم مع دمشق لعمل منطقة حكم ذاتي ضمن الدولة السورية.
وفي تقديري أن التهديد التركي بعملية عسكرية شرق الفرات سوف يبقى ورقة ضغط للحصول على تنازلات بخصوص المنطقة العازلة بعمق مناسب حسب تقديرها، وإن كان هناك إصرار على ألا تضم تلك المنطقة المدن الرئيسية حتى لا يحدث تتريك كما تم في عفرين، وحتى لا تتصادم مع القوات الأمريكية في تلك المناطق. والموقف التركي على هذا النحو يستهدف تطهير ثلث منطقة الحكم الذاتي، والتمهيد بترحيل اللاجئين السوريين، خاصة المُجنسين بالتركية إلى هناك، دعمًا لتتريك المنطقة.
وسوف تواصل واشنطن المساومة مع تركيا بورقة المنطقة الآمنة في عدد من الملفات التي يوجد اشتباك ثنائي بخصوصها، مثل العلاقات العسكرية مع روسيا، والعلاقات التركية-الإيرانية، ويندرج الموقف الأمريكي في النهاية ضمن استراتيجية أمريكية بدأت تتضح معالمها مؤخرًا في سوريا.
والغريب أن كل هذه التطورات التي تجري في شمال سوريا، والحوارات والمساومات التي تجري بين تركيا والولايات المتحدة وروسيا وإيران؛ تتم في ظل غياب كامل لدور عربي -فردي أو جماعي- رغم أن مستقبل سوريا وما يجري فيها سيترك تداعياته على طبيعة الاستقرار والتوازن في المنطقة بأكملها. والأخطر من ذلك أن هناك حديثًا عن اتصالات أمريكية مع أطراف عربية لتشكيل قوة عسكرية يمكن أن تُشارك فيها قوات رمزية دولية لتأمين المنطقة الآمنة، وتوفير الحماية للأكراد. ورغم الوجه الإنساني للطلب الأمريكي، إلا أن الهدف الرئيسي له هو المحافظة على الكيان الكردي لتقسيم سوريا، وتوفير الأمن لتركيا حسب وجهة نظرهم، رغم أنه إذا تحقق ذلك فإن هناك الكثير من المخاطر بسبب تماس القوات العربية المنتظر مشاركتها مع القوات التركية في ظل الاحتقان القائم بين تركيا وعدد من الدول العربية التي طلبت الولايات المتحدة الأمريكية منها المشاركة. وهكذا تبدو سوريا كوليمة على مائدة اللئام.