للموروث الحضاري والسياسي المصري مصادر كثيرة، والمصدر المملوكي هو أكثرها تأثيرا. فترة حكم المماليك لمصر هي الأطول بين فترات حكم السلالات المختلفة التي حكمت البلاد. القاهرة الإسلامية هي مدينة مملوكية، رغم تأسيسها على يد الفاطميين. لقد انتهى حكم مصر إلى سلالة أجنبية من أشباه العبيد، وهذا أحد الألغاز والغرائب التي صنعت تاريخ مصر، والتي تركت أثرا عميقا على ثقافتها.
كانت البداية مع الخليفة العباسي المعتصم، الذي كره انحياز الفرس لمنافسيه من الأمراء العباسيين الآخرين، وكره انحياز العرب للأمويين؛ فدفع المال لاستجلاب أربعة عشر ألفا من الفرسان الترك، من سهول آسيا الوسطى الواسعة. لم يكن للأمر صلة بالدين، بقدر ما كان جزءا من الصراع على السلطة، حتى أن كثيرا من هؤلاء المماليك لم يكونوا حتى مسلمين، لكنهم احترموا العلاقة التي ربطتهم بسيدهم الجديد، والتزموا شروط وظائف الحرب والحكم التي آلت إليهم، فتعلموا الإسلام وأظهروا الولاء للخليفة، مقابل الأموال والعطايا التي فاض بها عليهم.
تسمية المماليك توحي بالعبودية، ورغم أنه كان يتم خطف وأسر بعض المماليك الصغار ثم بيعهم، إلا أن شراء المماليك الصغار من آبائهم كان هو الغالب، فالأهالي في مناطق وسط آسيا كانوا يتخلون طواعية عن أطفالهم مقابل المال، لكي يتم بيع هؤلاء الأطفال في أسواق الشرق الأوسط، خاصة في القاهرة، التي كانت القاعدة الأهم للماليك، ومقر سلطتهم التي ظلت قائمة بأشكال مختلفة لأكثر من خمسمائة عام.
ما يؤكد علاقة التعاقد والتراضي التي حكمت عالم المماليك هو أنه لا يوجد في الموروث الثقافي لشعوب وسط آسيا والقوقاز، التي أتى منها المماليك، ما يشير إلى العذابات المرتبطة بانتزاع الصغار من أهلهم. في نفس الوقت فإن ما وصل إلينا عن ثقافة المماليك في موطنهم الجديد لا يشير إلى أي قدر من التأسي على الماضي السابق في الوطن الأم، أو أي شعور بالكراهية للخاطفين من تجار العبيد.
كانت الأسر تقدم أطفالها طواعية مقابل المال، والأرجح أنهم كانوا يفعلون ذلك ليضمنوا لأطفالهم مستقبلا مضمونا في مضمار الحرب والحكم في مصر وبلاد العرب البعيدة الأخرى؛ فالعلاقة نفعية بين قبائل لديها ماركة مسجلة متوارثة في صفات القتال والفروسية، وباحثين عن قوة عسكرية من المرتزقة للاستقواء وممارسة السلطة.
أتى الكثير من المماليك من أسر مسيحية، فيما أتى بعضهم الآخر من أسر مسلمة، فالدين هنا قضية ثانوية، والجميع ينشئون كمسلمين، ويبدو أنهم كانوا يتعاملون مع الدين باعتباره أحد متطلبات ومؤهلات الوظيفة التي يجري إعدادهم لها. ويقدر مؤرخون أن ربع أمراء المماليك في مصر في القرن الثامن أتوا حديثا من مناطق تابعة للإمبراطورية الروسية، وأن هؤلاء كانوا يتصلون بآبائهم عن طريق القنصل الروسي، فقد كان هؤلاء المماليك يعرفون آبائهم جيدا، وكانوا يرسلون لهم المال في أوقات متقاربة، حتى أن الأمير المملوكي الشهير إبراهيم بك، والذي كان شيخا للبلد عندما وصلت حملة بونابرت إلى مصر، كان ابنا لأحد القساوسة في جورجيا، وظل إبراهيم يذكر خدمته في القداس طوال حياته.
لقد كانت عملية جلب العبيد البيض من آسيا مختلفة تماما عن جلب العبيد السود من أفريقيا، حيث كان الخطف والأسر والترحيل القسري هو السبيل لاصطياد العبيد، ولا غرابة في أن الشعوب الأفريقية مازالت تحمل مشاعر سلبية تجاه تجار العبيد العرب؛ أما في ثقافة بلاد العرب، فإن مصطلح العبيد يشار به حصرا إلى أصحاب البشرة السوداء.
لم يكن المماليك مخطوفين مكرهين على أمرهم، ولكن طرفا في علاقة تعاقد بدأت مع آبائهم. كان المماليك الجدد يصلون إلى القاهرة وهم في سن معنية، بين عشر وخمسة عشر عاما. لم يكن هؤلاء يقاومون أسيادهم الجدد، ولم يكن يتم نقلهم مكبلين بالقيود، وكانوا يقبلون على تعلم ثقافتهم وأدوارهم الجديدة بسلاسة، ولا يوجد في السجلات التاريخية ما يشير إلى استخدام القسوة في عملية إعادة التربية والتدريب هذه.
كان المماليك المجلوبين من بلاد القوقاز يؤهلون للتحول إلى طبقة حاكمة من الفرسان المحاربين، فكانوا يخضعون لتدريب شاق ومنهجي. وحسب الراحل جمال الغيطاني، فإن تدريب الفارس كان يبدأ منذ الصغر، في البداية يعلمونه القراءة والكتابة ويلقنونه آيات القرآن، والفروض الدينية، وأخلاق طبقة الفرسان، وفي المرحلة التالية يتعلم السباحة واللعب بالسيف، والضرب بالرمح والقذف بالأطواق، وركوب الخيل. تبدأ دروس ركوب الخيل بتعلم الوثوب والنزول على تمثال لفرس من الخشب والطين، فإن أتقنه جعل على لتمثال سرج، فإن أتقنه ارتدى السلاح ووثب به، ثم يبدأ الوثوب على فرس ثابتة عارية من السرج، فإن حذق ذلك تدرب على ركوب فرس مسرجة، وطرق أخذ الأعنة أو إمساك الرمح، فإذا اكتسب الخفة تمرن على السيوف شيئا فشيئا، حتى يصل إلى الركض بالفرس، ثم يتمرن على النزول والركوب من الفرس أثناء ركضه، أو القفز خلف فارس راكب، ثم يتدرب على الالتفات والدوران ، وبعدها يسمح له بالاشتراك في مبارزة أو سباق، وعند ثبوت شجاعته تكون مكافأته أن يعتق وترد إليه حريته، ويوكل إليه أمر إحدى الوظائف، ويكتب لها إقطاعها، ويمنح خيلا وقماشا، ويترقى سلك الوظائف، حتى يصل إلى ما شاء له حظه. إنها تقاليد تشبه ما كان يجري في اسبرطة اليونانية، لكنها هذه المرة مأخوذة من تقاليد قبائل الرعاة الفرسان من آسيا والقوقاز.
في البداية كان أهل الحكم يدفعون الأموال لشراء المماليك. لكن نقطة التحول حدثت عندما شرع المماليك أنفسهم في استجلاب مماليك آخرين، فأصبح المماليك جماعة عسكرية وطبقة حاكمة ذاتية التكوين. كان أمراء المماليك أحرارا في استجلاب المماليك الجدد، وكان كل منهم يحرص على جلب أكبر عدد منهم، فهؤلاء هم عزوته وأداته في الصراع على السلطة والثروة مع الآخرين من أمراء المماليك، لهذا لم يكن الحكم المملوكي وراثيا، إلا فيما ندر، وإنما كان صراعا دائما على السلطة، وحالة دائمة من المؤامرات وعدم الاستقرار، وفي هذا بعض من تفسير انعدام الثقة والتأخر والفرص الضائعة في تاريخنا.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ٢١ مايو ٢٠٢٠.