شكلت القمة الإفريقية الأمريكية التى عقدت فى واشنطن أخيرا تحولا مهما فى السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا من الفتور والتباعد والغياب إلى الحضور والوجود وعودة الروح إلى العلاقات مع الدول الإفريقية. هذا التقارب والانفتاح الأمريكى على إفريقيا فرضته اعتبارات سياسية واقتصادية، حيث تسعى أمريكا لتحقيق التعافى الاقتصادى من الأزمات العالمية وجائحة كورونا بإقامة شراكات اقتصادية مع إفريقيا، القارة الواعدة والغنية بالثروات الطبيعية والبشرية والأسرع نموا. كما حفز الوجود والانتشار الصينى فى إفريقيا على المستوى الاقتصادى والتجارى، أمريكا ودفعها لتغيير سياسة الإهمال التى اتبعتها على مدار السنوات الماضية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية فى 2001، وركزت خلالها فقط على الأبعاد الأمنية والعسكرية ومحاربة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية المتعددة فى دول القارة مثل حركة الشباب فى الصومال وتنظيم داعش الذى انتقل من سوريا والعراق إلى مناطق جديدة فى إفريقيا خاصة، فى دول الساحل والصحراء مثل مالى وتشاد والكونغو وغيرها، كذلك جماعة بوكوحرام فى نيجيريا وتنظيم القاعدة فى شمال إفريقيا وبعض دول القارة، وهو ما أوجد فراغا كبيرا فى الأبعاد الأخرى الاقتصادية والسياسية، وهو ما سعت الصين لملئه ونجحت فى ذلك عبر إقامة المشروعات الضخمة فى مجال البنية الأساسية والموانئ والمطارات والمستشفيات والطرق وغيرها، وهى مشروعات لها مردود مباشر على حياة المواطن الإفريقى على عكس الاهتمامات الأمريكية فى مجال الصحة والأوبئة والتعليم وتتسم بمردودها غير المباشر على المدى البعيد، ولذلك اتسمت المعادلة على أساس: الوجود الاقتصادى الصينى مقابل الوجود الأمريكى العسكرى فى إفريقيا، وبالتالى كان من أبرز مخرجات القمة الأمريكية الإفريقية التوسع فى البعد الاقتصادى والتجارى، حيث عرضت إدارة بايدن العديد من المبادرات الاقتصادية المهمة مثل تقديم 55 مليار دولار كمساعدات للدول الإفريقية خلال السنوات الثلاث القادمة، كذلك تخصيص 2٫5 مليار دولار لتعزيز الأمن الغذائى فى إفريقيا ومساعدة دولها، خاصة جنوب الصحراء فى التغلب على الجفاف وشح الأمطار ومخاطر المجاعة، كذلك أعلن الرئيس بايدن فى مؤتمر شرم الشيخ للمناخ عن تقديم نصف مليار دولار للدول الإفريقية لمواجهة التغيرات المناخية والتحول إلى الطاقة النظيفة. لكن يمكن القول إن أمريكا تواجه تحديات عديدة فى موازنة الوجود الاقتصادى الصينى فى القارة، فهذه المساعدات والمبادرات الأمريكية التى أعلن عنها فى القمة تعد محدودة بالنسبة لـ54 دولة إفريقية. كما أن أمريكا تعتمد على القطاع الخاص بشكل أساسى فى الاستمارات الخارجية، وهو ما يتطلب جهدا كبيرا من الإدارة الأمريكية فى إقناع الشركات الأمريكية العملاقة والمتعددة الجنسية للاستثمار فى إفريقيا على غرار ما حدث فى آسيا، وهو أمر يبدو صعبا مع استمرار الصراعات والنزاعات والحروب والإرهاب فى بعض الدول الإفريقية، خاصة جنوب الصحراء الكبرى، على عكس الصين التى توجه فيها الدولة بشكل مباشر استثماراتها العملاقة فى الخارج، خاصة فى مجال البنية التحتية، وهى أيضا مشروعات يصعب على الشركات الأمريكية الدخول فيها. كما أن إفريقيا لا تحتاج إلى تخصيص المساعدات من جانب أمريكا بقدر ما تحتاج إلى مساعدتها فى تحقيق التمكين الاقتصادى والتنمية وتوظيف الموارد الإفريقية، وهنا يبرز الدور الأمريكى فى تقديم التكنولوجيا فى تعزيز الصناعة فى إفريقيا، كذلك تقديم الخبرات الفنية فى تحقيق النهضة والتقدم الاقتصادى، وكذلك فى مجالات الحوكمة والإصلاح الاقتصادى.
وهناك تحد آخر يتعلق بأن أمريكا أو الصين أو روسيا أو غيرها من الدول الكبرى اقتصاديا وسياسيا تعد طرفا واحدا يمتلك رؤية واحدة فى مواجهة 54 دولة إفريقية متباينة فى اقتصاداتها وتقدمها السياسى والاقتصادى، فهناك دول مستقرة ومتقدمة اقتصاديا فى مقابل دول أخرى تشهد صراعات وحروبا وأزمات وهو ما يضعف الموقف التفاوضى الإفريقى فى مواجهة الدول الكبرى المتنافسة على إفريقيا، ولذلك كانت المساعى المصرية خلال القمة مع أمريكا بالتركيز على الأولويات الإفريقية العاجلة والمتعلقة بالأمن الغذائى وأمن الطاقة والأمن المائى ومواجهة آثار التغيرات المناخية، وهو ما يعظم الاستفادة من الدور الأمريكى فى دعم إفريقيا وتحقيق التنمية فيها.
هناك أيضا تحد يتعلق بأن أمريكا تفرض المشروطية السياسية على المساعدات الاقتصادية للدول الإفريقية وربطها بقضايا حقوق الإنسان والإصلاح السياسى والديمقراطية، وهو ما أوجد حالة من الشك وعدم الثقة من الدول الإفريقية فى الجانب الأمريكى بعد أن أثبتت تجارب ما عرف بالربيع العربى أن أمريكا تستخدم الديمقراطية وحقوق الإنسان كورقة ضغط ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب فى التدخل فى شئون الدول الأخرى، وهو ما أدى لتصاعد خطر الإرهاب وانتشار الحروب الأهلية التى أعاقت إفريقيا عن تحقيق التنمية وتوظيف مواردها، على عكس الصين التى لا تفرض أية شروط على مساعداتها أو استثماراتها فى إفريقيا، كما أنها لا تتدخل فى شئون الدول الإفريقية.
ولاشك أن التنافس الأمريكى الصينى الروسى على إفريقا يمثل فرصة مهمة للدول الإفريقية لبناء شراكات متعددة ومتوازنة مع الدول الكبرى دون أن تنحاز لقوة على حساب قوة أخرى، أو تستبدل الشراكة مع قوة بالشراكة مع القوى الأخرى، وإنما الانفتاح على الجميع فى إطار سياسة الحياد والاستفادة من المزايا النسبية التى تتمتع بها كل الدول الكبرى، وتعظيم المصالح الإفريقية لتحقيق التنمية والنهضة الشاملة، ومواجهة التحديات المختلفة، وهو ما يضعها فى مكانة بارزة على الخريطة الاقتصادية والسياسية العالمية.