يهيمن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على معظم مفاصل الدولة، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي استغلها في التخلص من معارضيه، وهو ما دفع العديد من المتخصصين في الشأن التركي إلى القول بأن تركيا تحت حكم “أردوغان” قد تحوّلت إلى “دولة الحزب” Sétat-parti، ويحاول التحليل الحالي طرح خارطة لموازين الداخلية في تركيا، وحدود نفوذها، وتأثيرها على الداخل التركي.
خارطة التحالفات الداخلية
منذ وصول “أردوغان” للحكم في تركيا، تحالف مع عدة قوى في الداخل التركي لمواجهة نفوذ “الدولة العميقة”، وهي أجهزة الدولة السيادية والمكونة في الأساس من التيار العلماني، ثم انتقل لمواجهة ما أسماه “الدولة الموازية” التي أقامتها حركة “فتح الله جولن” (الخدمة)، فتحالف مع الحركة القومية التركية وتيار الأوراسيين من تنظيم “أرجنكون” أحد أقطاب الدولة العميقة التركية.
ظهر هذا التحالف الجديد على السطح خصوصًا بعد انتخابات 2015 التي خسر “أردوغان” فيها الأغلبية، ولم يستطع حزبه تشكيل حكومة بمفرده لحصول حزب الشعب الديمقراطي على حوالي 80 نائبًا، وتجاوز نسبة 10% لأول مرة في تاريخ الحركة الكردية في تركيا.
هناك أربعة كيانات رئيسية تعمل بمثابة مراكز القوى في تركيا، وهي: القوات المسلحة، وجهاز المخابرات، وجهاز الأمن، وجهاز القضاء. ومن يتحكم في هذه العناصر الأربعة يقدر على أن يسيطر على المجتمع التركي بشكل شبه تام بدعم من عنصر خامس هو الإعلام. ويمكن القول إن هناك ثلاثة مراكز للقوة متحالفة داخل الدولة التركية في الوقت الراهن، وتسيطر على تلك الآلية؛ الأول تابع لأردوغان، والثاني تابع لـ”الحركة القومية”، والثالث تابع لتنظيم “أرجنكون”، وهو اسم لمنظمة قومية متشددة ضمت عددًا كبيرًا من الجنرالات، والنقابيين، وأساتذة الجامعات والصحفيين، والنواب، ويقال إن لها قيادة سرية تديرها وتوجهها.
بخصوص تنظيم “أرجنكون” فهو يسيطر عليه الآن “الأوراسيون” أو “المجموعة الأوراسية”، ويُعتبر زعيم حزب الوطن القومي اليساري “دوغو برينجك” من أبرز قادة الأوراسيين، والذي بسببه وجّه “داود أوغلو” -رئيس حزب المستقبل في تركيا- انتقادات إلى الرئيس “أردوغان”، فقد قال “أوغلو”، على قناة “فوكس” التركية: “أردوغان الذي يتحدى ويهدد الجميع، لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة ضد “برينجك”، ما يشير إلى وجود صفقات تُبرم بينهما من خلف الأبواب الموصدة، حيث إن “برينجك” يتصرف وكأن السلطة الحاكمة في قبضة يده، فهو يتصدر المشهد في تركيا، وكأنه شريك في الحكم. نحن نُمنع من التعبير عن آرائنا في أي قضية، في حين أن حزبًا لا تصل نسبة دعمه 25 في الألف هو الذي يحدد أجندة تركيا بشكل مثير للغرابة”.
أما حزب الحركة القومية بقيادة “دولت بهجتلي”، الذي نشأ في كنفه تنظيم “الذئاب الرمادية” في منتصف ستينيات القرن العشرين، مستندًا إلى أفكار القوميين المتطرفين، خصوصًا ضد الأكراد والأرمن واليونان والعلويين والمسيحيين، فهو الشريك الحالي الآخر لأردوغان في الحكم بعد ما سُمي الانقلاب الفاشل في يوليو 2016. ومن المعروف أن أيديولوجيا “الذئاب الرمادية” تستوعب الهوية التركية وأبجديات الإسلاميين في خلطة واحدة، خصوصًا أحلام استعادة أمجاد الخلافة العثمانية. هذا التحالف السياسي تحول أخيرًا إلى تحالف “ميليشياوي” مع تنظيم “الذئاب الرمادية”. فظهر أنصاره وأنصار “أردوغان” جنبًا إلى جنب في مظاهرات ضد الانقلاب في المدن الأوروبية، وفي بعض تجمعات مؤيدي “أردوغان”. ويجب التذكير هنا بأن تنظيم “الذئاب الرمادية” نفذ عمليات إرهابية كاغتيالات مفكرين وقادة سياسيين ورجال دين مسيحيين وزعامات من قوميات مختلفة، وتورّط في محاولة اغتيال “البابا يوحنا بولس الثاني” في عام 1981، وشارك في العمليات القتالية بجمهورية الشيشان، بالإضافة إلى التورط في تهريب الأسلحة.
وهذا التحالف الثلاثي له بالطبع بُعده الاقتصادي، ويقتسم هذا التحالف اقتصاد تركيا. على سبيل المثال: شركة (OYAK) التي تأسست في عام 1961 هي شركة قابضة تابعة للجيش التركي، تتمتع بمزايا قانونية وهيكل إداري شديد المركزية. فهي لديها -على سبيل المثال- نظام تدقيق داخلي لا يخضع لرقابة البرلمان، كما أنها معفاة من كل أنواع الضرائب. في ظل حكومة “أردوغان” وحزبه “العدالة والتنمية”، عزّزت الشركة استثماراتها في قطاعات السيارات واللوجستيات والأسمنت. كما دخلت قطاعات جديدة كالتعدين، والمعادن، والطاقة، والتكنولوجيا، وتكنولوجيا المعلومات، وقطاع الإنشاء. كما أقامت شراكات مع (Renault) في قطاع السيارات، و(Koç Holding) في قطاع الطاقة، وشركة أسمنت تايوان في القطاع الأسمنتي، وشركة (Steag) في قطاع إنتاج الطاقة الحرارية، وشركة (Linde) في قطاع إنتاج الغاز الصناعي. الآن هي أكبر الشركات القابضة في تركيا من حيث عدد الشركات التابعة لها ونطاق استثماراتها، فهي تمتلك بمفردها ٣٨ شركة عملاقة، و٨٦ شركة كبيرة ومتوسطة، وتهيمن على قطاعات التعدين والمعادن (خاصة الحديد والصلب) والسيارات والأسمنت، وتنشط الشركة في قطاعات أخرى كالكيماويات الزراعية، والطاقة، والخدمات اللوجستية، والتمويل، والبناء، والسياحة، والأمن، والتكنولوجيا الطبية، تتعاون فيها مع أفراد من تنظيم “أرجنكون” ومن الحركة القومية، وحتى وقت قريب كانت تستثمر أيضًا في قطاعات كالبنوك والتأمين وتصنيع الإطارات، وتوزيع المنتجات البترولية والأغذية قبل ترك معظمها للاستثمارات الإخوانية الدولية المباشرة وغير المباشرة.
وقد أرسى “أردوغان” معالم تحالف عنوانه تيار ديني محافظ في عمق القومية التركية، حيث تتشكل السلطة التركية الحالية من تحالف الإسلام السياسي (الشمولي الحركي السلطوي) والفاشية القومية (الحركة القومية التركية وأرجنكون). ونستطيع أن نفهم سياسات تركيا الداخلية والخارجية والتغيرات والتحالفات وتموضع الأعداء والأصدقاء فقط من خلال ذلك التحالف، ويمكن القول إن هذا التحالف يعكس أيضًا خارطة التأثير الخارجي على الدولة التركية بعد تصالح روسيا وتركيا بعد إسقاط تركيا طائرة روسية عام 2015، فالتأثير على حزب العدالة والتنمية من الولايات المتحدة أكثر وأقوى، و”أرجنكون” تسيطر عليها “المجموعة الأوراسية” الموالية لروسيا، ويبدو أن “أردوغان” ينسق بين الطرفين.
هل تختلّ موازين التحالف؟
يمكننا القول إن نصيب “أردوغان” وحزبه كان تقاسم الدولة العميقة، وإنشاء دولتهم الموازية بجوار الدول الأخرى الموازية المتواجدة في تركيا. وهذا التحالف بين الإسلامويين والقوميين هو بين أطراف تبحث على الدوام عن المزيد من القوة والنفوذ، وتدرك أن التحالف بينها مؤقت، وهش، ومرهون بالتوافق الأمريكي الروسي. وفي هذا الإطار، يجب فهم أن تحويل “أردوغان” نظام الدولة من نيابي إلى رئاسي، وإنشاءه مجموعات تعمل في مجال الأمن (من الممكن أن نطلق عليها ميليشيات مثل “حراس القرى” لمحاربة الحركة الكردية في جنوب البلاد وشرقها، و”حراس الليل” التي تُعتبر جهازًا أمنيًّا موازيًا للشرطة يدعي مساندته في المدن، وله صلاحيات واسعة، من بينها حمل السلاح واستخدامه، وإنشاء شركات الأمن والسلاح الخاصة مثل “سادات” و”بيرقدار”، وتكديس الإسلامويين في تركيا)؛ هذا الوضع ينبئ بأن الانفجار في الداخل سيكون هائلًا عند اختلال موازيين ذلك التحالف.
يضاف إلى ذلك، وبحسب مركز استكهولم الحقوقي في تقريره الصادر عام 2019، أن نحو 260 ألف سجين محتجزون في 385 سجنًا مكتظًّا في مختلف أنحاء تركيا، وقد أُدين نحو 44،930 شخص، يقضون فترات عقوبتهم بموجب قوانين مكافحة الإرهاب، من بينهم 31442 سجينًا سياسيًّا متهمون بالانتماء إلى جماعة الداعية الإسلامي “فتح الله جولن”. على الناحية الأخرى، فإن أعضاء “داعش” المعتقلين في تركيا يصل عددهم إلى 1150 فقط، فيما يصل عدد أعضاء حزب العمال الكردستاني لنحو 9731 معتقلًا. وأضاف تقرير استكهولم أيضًا أن هناك نحو 120 حالة وفاة وانتحار مشبوهة على الأقل، بين المعتقلين في تركيا خلال العامين الأخيرين، وفُصل أكثر من 130 ألف موظف تعسفيًّا من وظائفهم الحكومية، وصودرت أكثر من 3000 جامعة ومدرسة ومؤسسة تعليمية مع فصل آلاف الأكاديميين، وتم حبس وسجن المئات من الصحفيين والعاملين بالمجال الإعلامي، حيث أصبحت تركيا أكثر دول العالم سجنًا للصحفيين والإعلاميين وفقًا للعديد من التقارير الدولية. يضاف إلى ذلك فرار عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك إلى الخارج نتيجة الحملات القمعية في البلاد.
أما على المستوى الخارجي، فتركيا متورطة في صراعات عسكرية بشكل مباشر في سوريا والعراق وليبيا، ومن السهل أن تتورط في أي لحظة في صراعات عسكرية في قبرص، وأرمينيا، وشرق المتوسط، والصومال، وقطر. ويمكن القول إن تلك التمددات هي مرحلة شد الأطراف التي تسبق دائمًا مرحلة تقطيع الأوصال حينما ينتهي الدور، فتركيا اليوم لا حلفاء لها في الحقيقة غير الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، ودول خاضعة لهذا التيار الإسلاموي مثل قطر وإيران.