اصطلح على تسمية الأحداث التي نجحت خلالها مدينة السويس، في صد العدوان الإسرائيلي عليها، باعتبارها آخر المعارك الكبيرة في حرب أكتوبر المجيدة. خاصة أن نهاية الحروب يجرى تأريخها عادة، بموافقة الأطراف على قرار بوقف إطلاق النار الذي صدر حينها من الأمم المتحدة بتاريخ 22 أكتوبر. مدينة السويس وهي تحل ذكرى انتصارها في 24 أكتوبر من كل عام، تخليداً لذكرى معركتها الكبرى، هل تحتاج المدينة، والأهالي المدنيون ورجال الجيش الذين وجدوا فيها وحولها، لأن نكتب عنهم بعد كل ما كتب، وتخلد بانتصارها الحقيقي، وبالوقائع التي صارت ذكراها «عيداً وطنياً» لكل مصر. في الحقيقة نحن الذين في احتياج لأن نقصّ دوماً على ذاكرتنا وعلى أجيال هذا العصر، كل ما جرى هناك ونعيد قراءته مرات، ونستخلص ما يمكن أن ننعش به الذاكرة الوطنية التي يجرى إرهاقها، بما لا ينفع إن لم يكن يحمل قدراً كبيراً من الضرر. فهناك في التاريخ «مدن» حفرت اسمها في ميادين البطولة والفخر لوطنها، تظل ذكراها العطرة بلسماً في مختلف الأوقات، لا يحدها تاريخ ولا تتقيد بمناسبة. في مدينة السويس وعلى أرضها، لنا ولمصر نصيب كبير من كل هذا وأكثر مما أمكن توثيقه وذكره.
في التاسعة والنصف من صباح 23 أكتوبر بتوقيت مدينة نيويورك، اتصل «كورت فالدهايم» السكرتير العام من مقر الأمم المتحدة، بوزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في واشنطن هاتفياً، وأخطره أن مصر تقدمت بشكوى رسمية عن الخرق الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، وأنه يقترح إيفاد قوة طوارئ دولية لمراقبة وقف إطلاق النار. عقب حديث «فالدهايم» بادر «كيسنجر» بالاتصال بالقائم بالأعمال السوفيتي في واشنطن، وقدم له اقتراحاً لينقله إلى موسكو، وهو أن يجتمع مجلس الأمن ليكلف السكرتير العام بإصدار نداء إلى الأطراف المعنية، بضرورة الالتزام بوقف إطلاق النار وفقاً لقرار مجلس الأمن (338). لم يكن هذا التصرف سوى حلقة من سلسلة إضاعة الوقت التي أحكم «كيسنجر» تدبيرها، لمنح القوات الإسرائيلية الفرصة التي تتوق إليها لتعديل أوضاع قواتها، بأكثر امتداد ممكن على خطوط الجبهة المصرية. لكن في غمرة مناورات «كيسنجر» الملتوية، تلقى رسالة من الرئيس السوفيتي «بريجنيف»، أبلغه فيها أن القوات الإسرائيلية تتحرك جنوباً بمحاذاة الضفة الغربية لقناة السويس، وأن هذه الأعمال الإسرائيلية غير مقبولة، وتمثل خداعاً وتحايلاً فاضحاً، لذا فهو يقترح اجتماعاً عاجلاً لمجلس الأمن ظهراً، لإعادة تأكيد وقف إطلاق النار، وإصدار الأمر للقوات الإسرائيلية بالعودة إلى المواقع التي كانت عليها لحظة صدور القرار في اليوم السابق، والمقصود هنا خطوط 22 أكتوبر.
بعد العديد من المناورات الدبلوماسية هنا وهناك، وإن ظلت حسابها بالدقائق وليس بالساعات خرج القرار (339)، الذي أكد ما جرى التوصل إليه فيما يخص خطوط 22 أكتوبر. لكن على الأرض كانت إسرائيل تستهدف شيئاً آخر؛ فقد تشجعت في استمرار محاولاتها لحصار وتدمير الجيش الثالث والاستيلاء على مدينة السويس، استناداً على المساعدات العسكرية الجبارة عبر الجسر الجوي الأمريكي، الذي زودها بأحدث الأسلحة والمعدات المتطورة في محاولة لقلب ميزان الموقف العسكري، بعد النجاح الساحق الذي أحرزته القوات المصرية في المراحل الأولى من الحرب. ورغم اتفاق قائد قوات الطوارئ الدولية مع كل من القاهرة وتل أبيب عقب صدور قرار مجلس الأمن الدولي (رقم 339)، على أن تلتزم قوات الطرفين بالموعد الثاني لوقف إطلاق النار، وهو السابعة صباحاً يوم 24 أكتوبر، إلا أن إسرائيل استمرت عملياتها الحربية ضد الجيش الثالث، وضد مدينة السويس طوال المدة من 24 إلى 27 أكتوبر. فقد تلقى الجنرال إبراهام آدان قائد الفرقة المدرعة الإسرائيلية التي تحاصر السويس، رسالة لاسلكية من الجنرال جونين قائد القيادة الجنوبية في الثانية من صباح 24 أكتوبر يسأله فيها، إذا كان في مقدرته احتلال السويس في خلال ساعتين ونصف، وهي الفترة بين طلوع الفجر الساعة الرابعة والنصف، وموعد السريان الثاني لوقف إطلاق النار في السابعة صباحاً. حينها رد «آدان» بأن هذا يتوقف على عدد المصريين المقاتلين بالمدينة، ومدى إصرارهم على القتال، فتردد «جونين» قليلاً ثم قال: «حسناً إذا كانت بئر سبع فتقدم على الفور، وإذا كانت ستالينجراد فلا تدخلها». عقب هذا الحوار مباشرة أصدر الجنرال «آدان» أمراً إلى قواته، بالهجوم على مدينة السويس صباح يوم 24 أكتوبر.
تمثلت الخطة الإسرائيلية في تنفيذ هجوم كاسح يسابق الزمن الضيق من كل الجهات دفعة واحدة، فيتولى «لواء جابي» الهجوم من اتجاهين: من اتجاه الغرب على محور طريق القاهرة السويس، ومن اتجاه الجنوب الغربي على محور طريق الزيتية السويس، وتندفع القوتان إلى وسط المدينة. أما «لواء آرييه» فيدخل السويس من اتجاهين: اتجاه الشمال وهو طريق الجناين ومن اتجاه الشمال الغربي، على أن يكون المجهود الرئيسي باتجاه اليمين بموازاة طريق القاهرة السويس، وكان على تلك القوات الالتقاء بقوات «لواء جابي» في وسط المدينة، لتأمينها عقب اقتحامها بالدبابات الإسرائيلية. وكانت الخطة تقضى أيضاً بأن يتم معاونة هجوم لواءي «جابي وآرييه» بقصف مدفعي كثيف، وأن تتبعه في الحال ضربة جوية مركزية ضد مراكز المقاومة داخل مدينة السويس. كان الإسرائيليون على ثقة بأن قواتهم المدرعة لن تلبث أن تقتحم السويس، وأنها قادرة على سحق أي مقاومة تقف في طريقها، فقد ضللتهم معلومات استخباراتية بأن السويس خالية من القوات العسكرية، لذا اعتقد الجنرال آدان أنه سيتوج زحفه غرب القناة بدخول السويس، التي سيكون لسقوطها دوى سياسي هائل على المستوى العالمي، مما سيحقق له شهرة واسعة ومجداً ذائع الصيت.
ولم يخطر على بال «آدان» أن «مدينة الأشباح» كما كانت عناصر استطلاعه تسميها، قد تحولت بفضل تلاحم الشعب مع الجيش إلى قلعة حصينة، وأن قواته المدرعة ستلقن درساً قاسياً، حين وجدت نفسها تواجه ستالينجراد أخرى.. وللحديث بقية بإذن الله.