أطلقت وزارة التربية والتعليم منهجًا جديدًا باسم “القيم واحترام الآخر”, ليتم تدريسه لطلاب الصف الثالث الابتدائي بداية من هذا العام، وتم تأليف وطباعة كتاب ليتم استخدامه لهذا الغرض. جاء ميلاد الكتاب نتيجة لتوجيه رئاسي استجابة لمقترح الطفل “مهند عماد الدين” -طالب من ذوي الاحتياجات الخاصة- بتدريس مادة احترام الآخر في المدارس والجامعات. كان ذلك في ديسمبر 2020 ضمن احتفالية “قادرون باختلاف” لأصحاب الهمم وذوي الاحتياجات الخاصة من الأطفال.
يعد تدريس القيم خطوة هامة في التعليم المصري, فقد تطور تدريس القيم عالميًّا في الآونة الأخيرة، وتعددت تسميات المناهج التي تُعنَى بتدريس القيم ما بين “تعليم القيم”، “التربية الشخصية”، “التربية الأخلاقية”، “التربية على المواطنة”، “التربية المدنية”، “علم الأخلاق”، “التربية الديمقراطية”. ورغم اختلاف التسميات فإنها جميعًا تسعى إلى بناء نسق قيمي للمجتمع بما يحفظ الهوية ويحقق المواطنة بمختلف مستوياتها (محلية، إقليمية، وعالمية)، وفيما يلي مراجعة تحليلية لكتاب “القيم واحترام الآخر، معًا نبني”، كما يناقش مناهج وطرق تدريس القيم، وكيفية تقييم تعلم القيم، وضمانات تحقيق الأهداف المرجوة من تدريس هذا الكتاب.
الإخراج الفني
يفي الكتاب بشكل كبير بمعايير الجودة من حيث توفر عنصر الجذب والتشويق، بالإضافة إلى وضوح الخطوط المستخدمة، وتمايز بنط وألوان الخطوط ما بين العناصر والأفكار والعناوين الرئيسية والفرعية. ويتميز ورق الكتاب بالجودة ووضوح أرقام الصفحات.
يتوفر عنصر الجذب والتشويق في غلاف الكتاب، إلا أن عبارة “معًا نبني” في عنوان الكتاب على الغلاف لا تتوافق ورسومات الغلاف، حيث يقوم طفلان بزراعة نبتة ما، مما قد يثير تساؤل التلاميذ الصغار عن ماهية الذي سيبنونه معًا وهم يزرعون. كما يحتوي الكتاب على مقدمة موجهة من السيد وزير التربية والتعليم تضم رسائل عامة وأخرى خاصة لكنها لا تحتوي على رسالة للطلاب على وجه التحديد، أما عن المحتوى فقد عرض الكتاب ست قيم، لكل قيمة موضوع منفصل، بفقرات مرتبة، تحتوي كل فقرة على فكرة رئيسية.
يتلاءم حجم الكتاب وعمر الطلاب، وقد جاءت أبعاده مختلفة عما هو معتاد في الكتب الدراسية لذات المرحلة، فأبعاد الكتاب تشبه أبعاد الكتب القصصية للأطفال، وهو ما يتناغم ومحتواه المعرفي. ويحتوي الكتاب على أشكال، وصور، وجداول، وخرائط توضيحية تم توظيفها في مواضعها إلى حد كبير؛ إلا أن معظم الصور والرسومات التوضيحية تعبر عن الطبقة الاجتماعية العليا، والقليل منها يعكس خصائص الطبقة الاجتماعية المتوسطة، مما قد يؤثر في تحقيق أهداف الكتاب بسبب الفجوة بين الواقع الذي يعيشه القسم الأكبر من التلاميذ والصورة التي يقدمها الكتاب, حيث يتوافر لدى شخصيات الكتاب السيارات الخاصة, والمنازل الخاصة المكونة من أكثر من طابق, والمطابخ ذات المساحات الواسعة، علاوة على بعض الأجهزة التكنولوجية الموجودة بحوزة بعض الشخصيات القصصية، وخاصة الأطفال، كأجهزة الحاسوب الشخصية, وغرف النوم الخاصة لكل طفل من أطفال الشخصيات القصصية، بالإضافة إلى بعض مظاهر الترف من توافر حافلة المدرسة الفارهة، ورحلات التخييم، وهي مظاهر لا يعرفها العديد من طلاب المدارس الحكومية في مدن وقرى مصر.
المحتوى القيمي والمعرفي
تتكامل المعارف المقدمة في الكتاب ومحاور المناهج الأخرى، حيث إن جميع مناهج نظام التعليم الجديد (2.0) قد جاءت في محاور، تبدأ باكتشاف الطالب لنفسه في محور “من أكون”، ثم محور “العالم من حولي”، ثم محور “كيف يعمل العالم”، أما عن كتاب القيم فينقسم إلى محورين فقط هما: محور من أكون، ومحور العالم من حولي. ويضم كل محور ست قيم، تمثل كل قيمة منها موضوعًا منفصلًا، مثل قيمة الرحمة التي يتم تناولها كدرس منفصل من منظور فردي ضمن محور من أكون تارة، ثم يتم تناولها من منظور جمعي أو مجتمعي في محور العالم من حولي تارة أخرى. ويتم استعراض القيم الست بأسلوب قصصي، تلعب فيها شخصيات محددة أدوارًا مختلفة لتعبر عن القيمة المستهدفة. ويعكس استخدام الشخصيات توظيف المعرفة المكتسبة عن عناصر القصة من مادة اللغة العربية في الصف الثاني الابتدائي، الأمر الذي يحقق تدرج المعرفة وتكامل المواد الدراسية.
أما عن الأنشطة التعليمية فيضم كتاب القيم واحترام الآخر أنشطة تعليمية تعتمد على طرح أسئلة للتقييم والتقويم والتغذية الراجعة، مما يثير دافعية الطلاب للتعلم؛ إلا أن الأنشطة المستخدمة تعكس أحيانًا ممارسات تتعارض بقدر ملحوظ مع ثقافة احترام الآخر، فهي تُعلي من شأن المحاسبية وإطلاق الأحكام التقييمية، هذا بالإضافة إلى أن العديد من أسئلة التقييم بكتاب القيم جاءت في صياغة سلبية، ففي صفحة 64 تم ذكر كلمة “عدم” خمس مرات في السؤال عن النتائج المترتبة على عدم إتقان بعض الممارسات، الأمر الذي يقيد طلاقة التفكير، ويعزز السلبية، فتعلم القيم يفضل أن يتم في سياق إيجابي من خلال الحث على إعمال العقل والتفكير الإيجابي.
فإذا كانت درجة القيم تعكس درجة ممارسة سلوكيات إيجابية فإن المقياس التربوي الأفضل لقياس تطور السلوك الإيجابي عند الطلاب هو استخدام بطاقات الملاحظة المعدة مسبقًا، وليس الاختبارات التقليدية التي تقيس البنية المعرفية للسلوك، كالأسئلة التقييمية التي تعتمد على الأسئلة المقالية أو الموضوعية، والتي لا تعبر بالضرورة عن توافر مهارات ممارسة السلوك الإيجابي من عدمه.
موقع قلق
استقر العرف التربوي على أن يقوم مخططو ومطورو المناهج الدراسية بتحديد القائمين على تدريس المنهج، وتحديد الخطة الزمنية لتنفيذه، علاوة على تصميم دليل للمعلم، ووضع مصفوفة تضم الوزن النسبي لكل مستويات المعرفة من الفهم حتى التحليل والتطبيق. لكن الأمر يختلف نسبيًّا فيما يخص كتاب “القيم واحترام الآخر”، مما يجعل وضع هذا المنهج قلقًا بين المناهج المقررة على الطلاب. فقد أسندت وزارة التربية والتعليم تدريس هذا المنهج إلى معلمي اللغة العربية، وتم إعداد الخطة الزمنية لتطبيق منهج القيم من قبل رئيس قسم اللغة العربية والتربية الدينية بمركز تطوير المناهج والمواد التعليمية، وجاء القرار الوزاري رقم 194 لسنة 2020 ليحدد نصاب تدريس منهج القيم للصف الثالث الابتدائي بواقع فترة واحدة أسبوعيًّا، أي ما يعادل حصتين، يتم اقتصاصهما من النصاب المحدد لفترات اللغة العربية، الأمر الذي يثير تساؤلًا عن كيفية تعويض تطبيق منهج اللغة العربية عن الوقت المقتص لصالح منهج القيم، وخصوصًا في ظل تقليص أيام العام الدراسي بسبب الفيروس المستجد.
من التلقين إلى استبطان القيم
يعتمد كتاب “القيم واحترام الآخر” في تدريس القيم على نهج السمات، فهو يعزز تعليم السمات أو الصفات أو السلوكيات المحددة مسبقًا كقيم مطلقة. والمشكلة هي أن تدريس القيم وفق هذا النهج قد يعزز لدى الطلاب الميل لإصدار الأحكام، لذا يعد التوازن بين تحفيز قيم المعلمين ليصبحوا قدوة، وتعزيز مهارات التفكير الناقد لدى الطلاب، أمرًا هامًا لتدريس القيم.
يُعنَى النهج الأكثر تكاملًا لغرس وتنمية القيم، أو التربية الأخلاقية، بتحفيز القيم لدى المعلمين أنفسهم ليصبحوا قدوة ونموذجًا، بالإضافة إلى تعزيز مهارات التفكير الناقد، من خلال تطبيق استراتيجيات التدريس التي تحقق التواصل، وتعزز زيادة مشاركة الطلاب. وقديمًا كان النهج المتبع في تنمية القيم في التعليم يسمى بالمنهج الخفي، انطلاقًا من كون المعلم قدوة، فهو منبع الحكمة بالنسبة للطالب، وكان التخطيط للدروس العلمية لجميع المعلمين باختلاف تخصصاتهم يتضمن غرس أو تنمية أو تعزيز قيمة محددة، من خلال عملية التعلم وممارسة الأنشطة المدرسية بشكل تلقائي للمتعلم ويخطط له مسبقًا من قبل المعلم.
ومع تطور المعرفة أضحى تعلم القيم يستلزم نهجًا تنمويًا معرفيًا، من خلال تنمية مهارات التفكير الناقد والتفكير الإبداعي، والتي تمكن الطلاب من الحكم على الأشياء والموضوعات والسلوكيات وفق نسق قيمي توافق عليه المجتمع كمعيار للقياس وإصدار القيم، بحيث يتمكن الطلاب من المناقشة الواعية لكيفية تحديد القيم، وأسباب اختيار قيمة ما دون غيرها. ويتميز هذا النهج بكونه ديناميكيًّا ومتحولًا، حيث تخضع عملية اكتساب القيم ونقدها لطبيعة التفكير وليس لمحتوى القيمة ذاتها.
ويحتاج تطبيق هذا النهج التنموي المعرفي في تعليم القيم إلى طرح القضايا أو المشكلات في صور مختلفة، بحيث تكون مفتوحة المصدر وغير محددة النهايات، لتكون جميع الإجابات والحلول التي يتوصل إليها الطلاب وفق هذا النهج صحيحة إذا ما تحصنت بمبررات كافية. ويتوقف نجاح تطبيق هذا النهج على تجنب المعلمين فرض آرائهم الشخصية والحكم على مقترحات الطلاب، بتفضيل بعض الاستجابات واستبعاد أخرى، وتُعد استراتيجية لعب الأدوار كطريقة للتدريس هي الأفضل في تدريس القيم وفق هذا النهج، مما يمكنهم من تطوير رؤى حول أنفسهم وحول الآخرين، الأمر الذي يدعو إلى مراجعة أسئلة التقييم المدرجة بكتاب “القيم واحترام الآخر”، والتي ركزت في معظمها على إطلاق الأحكام على الممارسات التي تعكس مفهوم قيمة ما من القيم الست المدرجة بالكتاب.
المؤكد هو أن كتاب “القيم واحترام الآخر” يمثل نقلة كبيرة جدًّا إلى الأمام، والمأمول هو أن تجري الاستفادة من خبرة تدريس منهج القيم لأول مرة، من أجل تطوير المنهج والكتاب، ومن أجل إعداد المدرسين لتدريس هذا المنهج، ومن أجل دمج منهج القيم واحترام الآخر بشكل كامل وغير مصطنع ضمن المناهج والأنشطة لطلاب هذه المرحلة العمرية.