يعكس مستوى الزخم الحالي للعلاقات المصرية الليبية فاعلية الاستراتيجية التي اتبعتها القاهرة تجاه القضية الليبية بشكل عام في ظل التحولات السياسية التي شهدتها البلاد على مدار العقد الأخير، وبشكل خاص خلال الفترة الأخيرة التي انطلقت مع مؤتمر برلين (يناير 2020) وما أفضى إليه من مسارات ثلاثية (سياسي، واقتصادي، وعسكري). فقد احتضنت القاهرة العديد من فاعليات هذه المسارات الرئيسية، كما احتضنت بالتوازي العديد من المسارات الفرعية، لا سيما المسار الدستوري. ويمكن القول إن الانخراط المصري القوي في العملية السياسية الليبية على هذا النحو ساهم في رسم خريطة الطريق الانتقالية الحالية التي تبدأ من تشكل حكومة الوحدة الوطنية كخطوة أولى لتهيئة الأجواء لعبور ليبيا من مرحلة السيولة السياسية والأمنية إلى مرحلة الاستقرار المستدام.
أولًا: المبادئ المصرية حيال القضية الليبية
تقوم الرؤية السياسية المصرية تجاه القضية الليبية على مبادئ عامة مستمدة من المنظور المستقر الحاكم للعلاقات الثنائية بين البلدين، بالإضافة للاعتبارات الخاصة والمرحلية التي يفرضها مرور ليبيا في الفترة الحالية بمرحلة انتقالية حاسمة لحين عقد الانتخابات الجديدة التي ستؤسس لبنية مستقرة للحكم والمزمع عقدها في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل. وتتمثل أهم المبادئ المصرية في:
١. القضية الليبية تشكل أولوية للأمن القومي المصري: تنتمي القضية الليبية لأهم الدوائر المباشرة للأمن القومي المصري. حيث أدركت مصر مدى انعكاسات حالة السيولة الأمنية التي شهدتها ليبيا خلال العقد الماضي على أمنها القومي، وتعاطت مصر مع المخاطر والمهددات التي صدرتها حالة الفوضى التي وقعت في الأراضي الليبية من خلال تعزيز قدرات الردع المتعددة، والانخراط الدفاعي وفق قواعد القانون الدولي في تقويض تلك المظاهر وتداعياتها، كما تحركت مصر في اتجاه دعم المؤسسات الوطنية الناشئة للحد من تنامي كافة ظواهر الأمن غير التقليدي على الساحة الليبية، كالإرهاب، والمليشيات، وفوضى السلاح، وانتهاك الحدود والهجرة غير الشرعية.
٢. العمل على استعادة الدولة الليبية القوية الموحدة: فقد حرصت مصر منذ بداية اندلاع الأزمة الليبية على أن تكون لها رؤيتها المعلنة التي تصب في صالح الشعب الليبي من حيث دعم آليات المصالحة الوطنية، وإنهاء حالة الاستقطاب الجهوي والتمزق الاجتماعي بهدف وحدة الدولة الليبية، وأن تعود ليبيا دولة وطنية مركزية قوية موحدة كدولة جوار استراتيجي في المقام الأول، ولكي تضيف عودتها القوية بالتبعية إلى الرصيد العربي الذي هو بالقطع في حاجة ماسة لأن يزداد قوة بعودة الدولة الليبية كإحدى القوى الرئيسية الفاعلة في منظومته الشاملة.
٣. ضرورة احترام الخطوط الحمراء: كانت مصر سباقة وهي تتعامل مع هذه الأزمة لأن تؤكد أن هناك خطوطًا حمراء لا يمكن لمصر أن تتنازل عنها، حيث أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى في 19 يونيو من عام 2020 أن خط سرت – الجفرة يُعد بالنسبة لمصر خطًا أحمر لن تسمح لأحد بأن يتخطاه، وقد كان هذا الموقف علامة فارقة في إعادة الأزمة الليبية إلى مسارها الصحيح قبل أن تنزلق إلى نقطة اللا عودة. كذلك حرصت مصر على وضع أهم الأسس التي من شأنها أن تساهم في حل المشكلة الليبية، ومن أهمها أن التسوية السياسية هي السبيل الوحيد لحل هذه الأزمة، بالإضافة إلى وقف التدخل الخارجي في هذه الأزمة، مع ضرورة سحب الميليشيات والمرتزقة والجماعات الإرهابية من الأراضي الليبية.
٤. الحل الوطني للأزمة (الحل الليبي / الليبي): أعلنت مصر بكل وضوح المبدأ الذي تؤمن به وتدرك أنه هو المدخل الصحيح لحل الأزمة الليبية، والمتمثل في أن هذه الأزمة لن يحلها إلا أبناء الشعب الليبي، وأن الحل يجب أن ينبع من داخل ليبيا، الأمر الذي تبلور في إعلان القاهرة الذي أعلنته مصر في السادس من يونيو العام الماضي، والذي كان عبارة عن مبادرة ليبية – ليبية شاملة للحل وليس رؤية خارجية، فالواقع يؤكد أن أية حلول مفروضة من الخارج لن تكون في صالح الليبيين أو في صالح استقرار المنطقة، وإنما ستكون في صالح الدول التي تتدخل في الشأن الليبي تحقيقًا لمصالحها.
ثانيًا: جهود استباقية داخلية
بشكل استباقي، تركّزت الجهود المصرية خلال الفترة السابقة على وقف الحرب في ليبيا، وإطلاق مسار عملية التسوية السياسية ودعم إنجاز المسارات الخاصة بها من خلال تحركاتها على الدوائر الإقليمية والدولية وعلى الصعيد المحلي الليبي، وبالتعاون مع الأمم المتحدة وبعثتها الإقليمية للدعم في ليبيا. وأسفرت هذه الجهود المشتركة عن إنجاز الخطوة الأولى المتمثلة في تشكيل سلطة تنفيذية وطنية جديدة. كما ستواصل القاهرة جهودها لإنجاز الاستحقاقات السياسية المعتمدة في إطار خريطة الطريق السياسية الخاصة بالمرحلة الانتقالية.
١. لا عودة للحرب مجددًا: وهو ما يتحقق من خلال تقويض أدوات التصعيد القائمة في المشهد الليبي، سواء الأدوات المحلية أو الخارجية، لضمان عدم العودة إلى سيناريو الحرب مرة أخرى، انطلاقًا من الثوابت المصرية المتمثلة في خروج القوى الأجنبية من ليبيا، وإعادة توجيه فائض هامش انخراطها هناك لصالح دعم العملية السياسية، وذلك في إطار المسارات المعتمدة والمتوافق عليها، لا سيما المسار العسكري (5+5) والمعني بإزالة آثار التصعيد المسلح خلال الفترة السابقة، وتهيئة الأجواء الأمنية لضمان عدم عرقلة المرحلة الانتقالية. وفي هذا السياق، دعمت القاهرة مخرجات لقاء “مونترو” (سبتمبر 2020) التي أقرتها اللجنة المشتركة “5+5” كخطة عمل آنية ومستقبلية لإعادة ضبط المشهد الأمني الليبي، وتتضمن بشكل عام إجلاء المرتزقة الأجانب، والحد من ظاهرة المليشيات، وتجميد مظاهر التدخل العسكري في ليبيا، وإزالة معوقات الحركة والتنقل على المستوى المحلي خاصة بين الشرق والغرب.
وفي هذا السياق، استضافت مصر اللجنة أكثر من مرة، آخرها في نهاية ديسمبر الماضي، حيث تم إقرار مبادئ وخطة العمل المستقبلية، ومنها إنهاء احتجاز الليبيين على أساس الهوية وتبادل أسرى الحرب، وإيقاف حملات التصعيد الإعلامي وخطاب الكراهية واستبداله بخطاب التسامح والتصالح ونبذ العنف والإرهاب، والإسراع في فتح خطوط المواصلات الجوية والبرية بما يضمن حرية التنقل للمواطنين بين كافة المدن الليبية. كما تضمنت دراسة الترتيبات الأمنية للمنطقة التي سوف تحدد في المرحلة المقبلة على ضوء اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) مع أهمية إحالة موضوع مهام ومسئوليات حرس المنشآت النفطية وإعطائه الأولوية بغرض تقييم الموقف من جميع جوانبه ودراسته واتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان انتظام عملية الإنتاج والتصدير.
٢. توحيد المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية: باعتبارها قضية استراتيجية ومفصلية لاستعادة الاستقرار في ليبيا، وتستثمر مصر جهودها السابقة في هذا الملف بين عامي 2016 و2017 والتي أقرتها وثيقة برلين كمرجعية لوحدة المؤسسات الليبية وفي إطار استعادة الدولة الموحدة، كما تستثمر مصر حاليًا المناخ الإيجابي الحالي في ظل تشكل حكومة وحدة وطنية تعكس تحركاتها خلال المدة الزمنية القصيرة التي أعقبت اختيارها في الملتقى السياسي الليبي (5 فبراير الجاري) مساعيها لإنهاء حالة الاستقطاب الجهوي والانقسام المؤسسي. وتصدر عنوان توحيد المؤسسات بشكل عام أولويات هذه التحركات، وفي المقدمة منها أولوية توحيد المؤسسة العسكرية. وأكدت مصر في أعقاب الزيارة الرسمية الأولى لرئيس الوزراء عبدالحميد ديبية إلى القاهرة على دعم جهود هذا الملف الحيوي، باعتباره ضرورة مرحلية للانتقال إلى عتبة الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا.
٣. دعم إنجاز خريطة الطريق: الخاصة بالمرحلة الانتقالية، والتي تتضمن عددًا من الاستحقاقات السياسية على المستوى الوطني كإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والاستفتاء على الدستور، وكررت مصر تأكيدها على تقديم الدعم الكامل لحكومة الوحدة الوطنية في تنفيذ هذه الاستحقاقات حتى الانتهاء منها. وعلى مستوى التحركات في هذا الإطار، تواصل القاهرة استضافتها لفاعليات ذات صلة كلجنة المسار الدستوري، كما تواصل إجراءات اللقاءات على مستوى النخبة والمكونات السياسية والقوى الليبية المختلفة لضمان إنجاز هذا المسار، وهو ما يعكس مؤشرًا أساسيًا بأن القاهرة تسعى إلى ترجمة المواقف والمبادئ السياسية التي أطرتها في إعلان القاهرة وعبر كافة المحطات السياسية والفاعليات التي احتضنتها إلى واقع سياسي توافقي على المستوى الوطني وإنهاء دوامة المراحل الانتقالية المتعاقبة، والاحتكام للسياسة وليس قوة السلاح.
٤. دعم مسار التنمية: وهو ما عكسته التحركات المشتركة على الجانبين المصري والليبي خلال الفترة الأخيرة في ظل انفتاح القاهرة على كافة الأطراف السياسية قبيل بدء المرحلة السياسية الانتقالية الجديدة، ومواصلة هذا المسار في إطار حكومة الوحدة الوطنية الجديدة في ضوء تصدر قضية التنمية لأولوياتها على التوازي مع الأولويات السياسية، وذلك لاعتبارات عديدة منها التجربة المصرية التنموية النموذجية على مستوى البنية التحتية، حيث تحتاج ليبيا إلى خطة تنموية سريعة في مجال الخدمات المتنوعة، لا سيما في مجال الطاقة وتشغيل المرافق والطرق والبناء والتشييد، كمقدمة لخطة إعادة إعمار ليبيا، وهو ما كان أحد بنود المشاورات المصرية الليبية خلال اللقاء الأول بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس الحكومة الليبية عبدالحميد ديبية والذي أكد على أولوية الاستفادة من التجربة المصرية في هذا السياق.
ثالثًا: متغيرات وأبعاد خارجية
كشفت التجربة الليبية في السنوات العشر الماضية عن حقيقة التداخل الكبير بين قضايا الداخل والخارج، الأمر الذي يجعل من استعادة السلطات الانتقالية الليبية القدرة على صياغة سياسة خارجية فعالة أمرًا ضروريًا لضمان التقدم في ترتيبات استعادة الأمن والاستقرار في الداخل الليبي. وفي هذا الصدد، تعكس التحركات المصرية وعيًا كاملًا بتأثير السياق الدولي والإقليمي على الأوضاع الداخلية في ليبيا، الأمر الذي جسدته السياسة المصرية في عدد من المبادئ المتمثلة في:
١. أهمية الاستجابة الفعّالة للمتغيرات الدولية: واكب انتخاب السلطات التنفيذية الجديدة في ليبيا سلسلة من التغيرات المهمة تمثلت في متغيرين أساسيين تتباين تأثيراتهما المحتملة على الأوضاع في ليبيا. فمن ناحية أولى، تسلمت الإدارة الديمقراطية الجديدة مقاليد الحكم في الولايات المتحدة بعد تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن، ومن ناحية ثانية تسلم الدبلوماسي السلوفاكي يان كوبيش مهامه كمبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بعد أن ظل المنصب شاغرًا لنحو عام منذ استقالة غسان سلامة. وأمام هذين المتغيرين المهمين، يأتي الدعم المصري الكبير للسلطات الليبية الجديدة كمصدر مهم لتعزيز شرعيتها وقدرتها على تقديم نفسها للعالم كقيادة وطنية ليبية تتمتع بدعم قوي من دول جوارها، وتستطيع أن تقود المسار الانتقالي في ليبيا إلى غاياته المنشودة على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية.
٢. دعم تبني ليبيا سياسة خارجية نشطة ومتوازنة: كشفت ردود الفعل المصرية لانتخاب سلطات تنفيذية جديدة في ليبيا عن حرص مصري كبير على دعم ليبيا في تبني سياسة خارجية متوازنة على نحو ما جسدته اتصالات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بكل من محمد النفي رئيس المجلس الرئاسي، وعبدالحميد دبيبة رئيس مجلس الوزراء، فضلًا عن استقبال الأخير في القاهرة. على هذا الأساس يأتي دعم السلطة التنفيذية الليبية الجديدة في تبنّي سياسة متوازنة ونشطة تجاه جوارها الإقليمي وفي علاقتها بالقوى الدولية المتعددة التي تتقاطع مصالحها الاستراتيجية في ليبيا كأحد العوامل الأساسية المعززة لاستعادة ليبيا قدرًا من “مناعتها” المفقودة أمام التدخلات الخارجية، وكبداية لاستعادة الدور الإقليمي النشط الذي فقدته ليبيا منذ عام 2011 والذي تنعكس استعادته إيجابًا على الأمن والاستقرار في محيط ليبيا، سواء في الدائرة العربية أو المتوسطية أو حتى دائرة الساحل الإفريقي.
٣. تأكيد الدور المحوري لدول جوار ليبيا: لطالما حرصت مصر على تأكيد أولوية دول جوار ليبيا في دعم مسارها الانتقالي طوال العقد الماضي، وذلك انطلاقًا من كون جميع هذه الدول صاحبة مصلحة أساسية في استعادة الاستقرار والأمن في ليبيا في أقصر وقت ممكن، نظرًا لما يجمع هذه الدول من مصالح مشتركة بحكم الجوار الجغرافي والتجربة التاريخية الممتدة. وأمام التزايد المطرد لأدوار قوى دولية وإقليمية في الملف الليبي غلبت منطق التنافس على المصالح في الساحة الليبية مما عرقل مسار التسوية في مناسبات متعددة، ويأتي الدعم المصري للمؤسسات الانتقالية الليبية في المرحلة الحالية ليعيد التأكيد على الدور المحوري لدول الجوار في تعزيز فرص نجاح المسار الانتقالي القائم. ومما يزيد من أهمية هذا الدعم المصري ما تشهده دول جوار ليبيا في اللحظة الراهنة من تحديات أثرت سلبًا على قدرتها على تقديم الدعم للسلطات الانتقالية الليبية في ظل المتغيرات السياسية المتلاحقة في كل من الجزائر وتونس، وفي ظل انشغال السودان بمقتضيات استكمال مرحلتها الانتقالية التي بدأت في عام 2019، وفي ظل ما تواجهه كل من تشاد والنيجر من تحديات أمنية جسيمة ومستجدات سياسية، خاصة بعد إعلان فرنسا إجراء مراجعة شاملة لخطط انتشارها العسكري في إقليم الساحل الإفريقي.
من كل ما تقدم، تستقبل ليبيا مرحلة انتقالية جديدة تقوم فيها مصر بدور أكثر أهمية من أجل الوصول إلى شراكة استراتيجية شاملة مع ليبيا تحقق مصالح الدولتين، وهو ما يؤكد أن الدور المصري المحوري لصالح حل الأزمة الليبية يتواصل ويتحرك في إطار خطة واضحة ومراحل متتالية مدروسة سوف تؤتي ثمارها خلال المرحلة القادمة بتضافر مكونات الشعب الليبي وجهد الدول معنية التي تتواءم في رؤيتها مع الموقف المصري.






























